فاصلة

مراجعات

«الشاهد الوحيد»: فيلم متوسط الجودة ضروري للصناعة!

Reading Time: 4 minutes

بين أنموذج موضي الفقيرة الطامحة للشهرة والثراء والحياة المترفة، وأنموذج سارة نجمة مواقع التواصل المترفة يقدم فيلم «الشاهد الوحيد» دراما نفسية محفوفة بالإثارة والغموض والتشويق، وتمظهرات ما يحيط بأبعاد موجة الشهرة والتأثير في حياة الناس عبر برامج التواصل الاجتماعي.

يبدأ الفيلم بتقديم الشخصية الرئيسة سارة المشهورة وجوانب من حياتها الواقعية والافتراضية، مستحضِرًا أنموذجًا شائعا في المجتمع السعودي في السنوات الأخيرة، يتمثل في موجة نجمات السوشيال ميديا «المؤثرات على أسلوب الحياة» حياة من لا حياة حقيقة له، حيث تظهر بعد ذلك موضي مقتحمة موقع تصوير برنامج سارة رافعة لافتة عريضة تعلن فيها عن حبها لسارة، يقبض عليها الأمن ثم تدخل السجن جراء ذلك، وبعد أن يخرجها أبوها من السجن، وكعادة الأُسر قليلة الحظ من التعليم والثقافة أعاد الوالد هوس موضي بسارة إلى جني يتلبسها، فأحضر راقيا يخرجه منها، بينما أخذت موضي تسخر من ذلك وتتظاهر أن الجني يتحدث على لسانها وبصوتها رافضا الخروج إلا إذا دخل في أحدهما (الأب أو الراقي)، ثم تنهي الصراع بوضع الكاتشب على أصابع رجلها كناية عن الدم الذي خلّفه خروج الجني منها.

الشاهد الوحيد

تبدأ موضي رحلتها في الاستيلاء على شخصية سارة وحياتها، حيث تسرق مفتاح سيارتها الفاخرة وتورطها في حادث دهس مفبرك للعامل الآسيوي أرشد، ثم تستغل ذهول سارة وسط الموقف وتقنعها بدفن الجثة في الصحراء، ومن ثم تبدأ في الاستيلاء على سارة، وابتزازها، في تصاعد مربك بعض الشيء، حيث عينت نفسها مديرة أعمال لها، وسكنت في منزلها، وأخذت تتحكم في نشاطها، وكل تفاصيل حياتها، تحت ذريعة حمايتها من انكشاف جريمتها، وفدائها من أي ضرر سيلحق بها، إلى درجة وعدها بأنها ستتحمل مسؤولية عملية القتل في الحادث إن انكشف أمر سارة، تضعف سارة أمام كل هذا وتتدهور حالتها، وتخسر كثيرا من متابعيها بسبب موضي، أما حياتها الزوجية فلم تكن جيدة في الأساس، بسبب تقصيرها وانشغالها بحياة الشهرة عن زوجها المخلص، الذي يحبها ويتمنى اهتمامها والإنجاب منها، ووصلت إلى أسوأ حالاتها بعد دخول موضي إلى حياتها، وخطف زوجها منها، ومن ثم تأخذه في رحلة عسل، وتحمل وتنجب له طفلة سمتها سارة على اسم معشوقتها التي أصبحت ضرتها باختيارها الاضطراري! وحين تدرك سارة أن موضي وباء قضى على حياتها كلها، تعترف بجريمة الدهس والقتل وتحاول إقناع زوجها وأجهزة الأمن بفعلتها هي وموضي، لكن أحدا لم يصدقها ألبتة، لأن موضي كانت قد أحكمت نسج تدابيرها ولم تترك لسارة أثارةً من دليل على ما فعلت، مما جعلها تبدو مجنونة ومريضة نفسيا أمام الجميع، وبعد استيلاء موضي على كل شيء في حياة سارة المنهارة البائسة، ووصولها إلى الشهرة الساحقة في مواقع التواصل، وعلى متن اليخت (سارة) يظهر مشهد النهاية باعتراف ساذج يتنافى مع دهاء موضي المتصاعد منذ بداية الفيلم، باحت فيه موضي لسارة بكل تفاصيل فعلتها، أمام الكاميرات المثبتة والتي تبث بثا مباشرا للجمهور، فيتابع الجميع اعتراف موضي التفصيلي بكل ما ارتكبت، فيُقبض عليها وتدخل في حالة متردية من المرض النفسي والجسدي.

الشاهد الوحيد

يجسد الفيلم حالة من حالات اضطراب الشخصية السلوكي؛ ممثلة في الهوس العاطفي؛ حين تستغرق الشخصية في حالة حب جارفة تجاه شخصية أخرى، تدفعها إلى محاولة استنساخها أو احتلالها والاستيلاء على كافة حياتها وتفاصيلها وعلاقاتها، والأعمال المستندة إلى الحالات النفسية ليست جديدة على السينما أو الدراما بشكل عام، ويحيلنا فيلم «الشاهد الوحيد» إلى عدد من الأفلام السابقة المعروفة، من بينها فيلم الدراما النفسية «Single White Female 1992» الذي تتهوّس فيه هيدي بصديقتها أليسون،  وتسعى إلى استلاب هويتها كاملة؛ إذ تتشبه بها في مظهرها الشخصي من ملابس وتسريحة شعر وغيرها، إضافة إلى تقليد تصرفاتها وطريقة حديثها وحركتها، ثم تتسلل إلى حياتها الخاصة وتتدخل في علاقاتها واختياراتها الشخصية وقراراتها المهنية وتتحكم في بيئة حياتها ومساحة عملها وشقتها، إلى أن تستيقظ أليسون وتتنبّه لهذا التدفق الكاسح من قبل هيدي، فتقاوم ذلك وتتمرد على مظاهرة وتنقذ حياتها وهويتها من الاحتلال والإلغاء بإخراج هيدي من حياتها تماما واستعادة زمام الأمور.

ولعل هذه البنية الحكائية هي التي قدمها الكاتب علاء حمزة واشتغلها أكرم فريد بإتقان في فيلمه، ولكن ربط هذه الأحداث والوقائع الدرامية بمسألة الشهرة وتأثير السوشيال ميديا هو ما أضفى على الفيلم مسحة مميزة، وبخاصة حين نجح الكاتب في سعودة بيئة الفيلم عبر الفضاء المكاني، والشخصيات واللهجة والتبادلات الحوارية والمرجعيات الثقافية والاجتماعية السعودية الخالصة، إلى درجة ورود اسم الشاعر السعودي جاسم الصحيح في أحد المشاهد، حين اتخذته موضي  -هو وعباس العقاد ومحمود درويش- ذريعة لإثارة إعجاب (فيصل/ زوج سارة) وخطفه منها.

إذا كان للفيلم الجيد إيقاع، مثل النكتة الجيدة أو القطعة الموسيقية المتقنة -حسب روجر إيبرت- فإن إيقاع «الشاهد الوحيد» نجح كثيرا في الاحتفاظ بنسبة من المتواليات ما بين إيقاع متوسط إلى سريع، مزاوجًا بين اتجاهات القصة وصراعاتها ونمو الشخصيات وتسارع الإثارة والجريمة، مع إطلالة طفيفة للكوميديا (الباردة) أحيانا. لكن الفيلم نجح بدرجة مقبولة في تقديم الدراما النفسية بعيدا عن التركيبة المعهودة لها في بعض الأعمال التلفزيونية والأفلام السعودية؛ التي تخنق المتفرج في الغرف الداكنة ولحظات الصمت والملل والإيقاع البطيء.

بطولة هذا الفيلم مستحقة للفنانة ميلا الزهراني التي قدمت الشخصية السايكوباتية في أداء عالٍ ومتقن، لعله يكون الأبرز –في وجهة نظري- من بين كافة أدوار ميلا السابقة، وكانت أضوى فهد وفيصل الزهراني كذلك في مستوى مميز من تلبّس الشخصيات وتجسيدها بتفاعل وإحساس مقنع جدا، لعل لمسات المخرج أكرم فريد كانت ظاهرة في عدد من تفاصيل الفيلم، وقد ظهر استيعابه للحالة السعودية فنيا واجتماعيا فلم نشعر أن الفيلم قادم من خارج لحمة الحكاية المحلية، ومرجعياتها الثقافية كما يحدث أحيانا في مثل هذه التجارب.

 لم يحاول فيلم «الشاهد الوحيد» أن يبدو أكبر حجمًا مما هو عليه في الواقع، حيث قدم الحدوتة البسيطة المعبرة والناقدة للمجتمع السعودي المعاصر بجودة فنية مُقنعة ومُشوقة، تحمل جرعة مناسبة من الفرجة وتجتذب عددا كبيرا من المتلقين والمشاهدين، دون فذلكة أو تفلسف، ولا ابتذال أو استخفاف بالصنعة والجمهور، وفي ظني أن مثل هذا المستوى المتوسط من الأفلام في مثل هذه المرحلة من مراحل الصناعة هو ما سيخلق عمقًا وهويةً للمنتج السينمائي السعودي، ويسهم في التراكم المطلوب للأعمال ذات الجودة المقبولة، التي تفي بالشروط المعيارية للفن وتصنع التجربة السينمائية متعددة البنى والفضاءات.

شارك هذا المنشور