تفصلنا أيام عن موعد انطلاق الدورة 78 من مهرجان كان السينمائي الدولي، أعرف المحافل السينمائية العالمية وأحد قمم المهرجانات السينمائية الكبرى، الذي لا تزال تشكل المشاركة فيه خطوة كبيرة لفناني السينما.
يحظى مهرجان كان السينمائي الدولي بزخم إعلامي هائل، ينعكس على الأفلام المعروضة فيه حتى وإن شاركت خارج مسابقاته الرئيسية، فمجرد المشاركة في كان تضع أي فيلم تحت الأضواء. وهي أضواء لم تحظ بها أفلام عربية كثيرة على الرغم من تاريخ السينما العربية الطويل.
لكن على الرغم من غيابها أحيانًا وتواضع حجم مشاركتها في أحايين أخرى، كانت السينما العربية حاضرة في كان منذ دورته الأولى عام 1946، حين شارك الفيلم المصري “دنيا” للمخرج محمد كريم، وبطولة راقية إبراهيم وأحمد سالم.

ومنذ ذلك الحين، واصلت أسماء عربية بارزة حجز مكان لها على السجادة الحمراء بالمهرجان الفرنسي الشهير، من بينهم صلاح أبو سيف الذي شارك بعدة أفلام من بينها “مغامرات عنتر وعبلة 1949، و”الوحش” 1954، و”شباب امرأة” 1965. وكمال الشيخ بأفلام “حياة أو موت” 1955، و”الليلة الأخيرة” 1964. فضلًا عن يوسف شاهين الذي شارك بخمس أفلام دفعت بالسينما المصرية إلى قلب المشهد السينمائي العالمي، هي: “ابن النيل” 1952، “صراع في الوادي” 1954، “الأرض” 1970، “الوداع يا بونابرت” 1985، وأخيرًا “المصير” 1997.

لم تكن مصر وحدها حاضرة في كان، فعلى المستوى العربي الأوسع، تألق مارون بغدادي من لبنان، ومحمد الأخضر حمينة من الجزائر، وإيليا سليمان من فلسطين، ومفيدة التلاتلي من تونس وغيرهم من السينمائيين الذين حملوا الهم العربي إلى شاشات المهرجانات العالمية وعلى رأسها مهرجان كان.
وقد شهدت السنوات الأخيرة حضورًا لافتًا للسينما العربية في كان، من خلال مشاركات نوعية لأفلام حققت إنجازات فعلية وفازت بجوائز مرموقة، إلى جانب مشاركات أولى تمثل دولًا عربية جديدة على خريطة المهرجان، مثل “نورة” للمخرج توفيق الزايدي من السعودية، وفيلم “قرية قرب الجنة” للمخرج مو هاراوي من الصومال، وفيلم “وداعًا جوليا” للمخرج محمد كردفاني من السودان، وفيلم “إنشالله ولد” للمخرج أمجد الرشيد من الأردن، وغيرها.
في هذا التقرير، نستعرض أبرز إنجازات السينما العربية في مهرجان كان، والأفلام التي حصدت جوائز وجعلت من الحضور العربي في هذا المهرجان العالمي أمرًا لا يمكن تجاهله.
الجزائر تحصد الجائزة الكبرى
يُعد الفوز بجائزة السعفة الذهبية، أرفع جوائز مهرجان كان، أكبر إنجاز حققته السينما العربية في تاريخها مع هذا المحفل العالمي. وقد جاء هذا الإنجاز التاريخي في عام 1975، حين توّج الفيلم الجزائري “وقائع سنين الجمر” للمخرج محمد الأخضر حمينة بالجائزة الكبرى، ليصبح بذلك أول فيلم عربي وأفريقي يحصد السعفة الذهبية، في لحظة اعتُبرت تتويجًا للسينما القادمة من الجنوب، وصوتًا جديدًا يتردد في قاعات المهرجان العريق.
ولم تكن تلك المشاركة الوحيدة للمخرج محمد الأخضر حمينة في مهرجان كان، إذ سبق له أن نافس على السعفة الذهبية ثلاث مرات أخرى، من خلال أفلامه: “ريح الأوراس” 1967، و”رياح رملية” 1982، و”الصورة الأخيرة” 1986. وهو ما يجعل حمينة واحدًا من أكثر المخرجين العرب حضورًا في المسابقة الرسمية للمهرجان، واسمًا بارزًا في تاريخ السينما العالمية، بما قدمه من أعمال حملت هموم الاستعمار والتحرر بصوت جزائري خالص.

لبنان: حضور ثابت ونجاحات متكررة
من بين أبرز الأصوات السينمائية العربية التي تألقت على منصة مهرجان كان، لمعت السينما اللبنانية عبر مخرجين تركوا بصمة واضحة في تاريخ المهرجان. ففي عام 1991، حقق المخرج مارون بغدادي إنجازًا مهمًا بفيلمه “خارج الحياة” (Out of Life)، الذي فاز بجائزة لجنة التحكيم، وهي واحدة من الجوائز الكبرى في المهرجان.
الفيلم تناول قضية اختطاف صحفي فرنسي في بيروت خلال الحرب الأهلية، وقدم نظرة إنسانية عميقة للصراع اللبناني، ليُخلّد كواحد من أبرز الأعمال السينمائية العربية في ذاكرة كان.
وبعد سنوات، عادت السينما اللبنانية لتتألق من جديد عبر المخرجة نادين لبكي، التي فازت بنفس الجائزة – لجنة التحكيم – عن فيلمها “كفر ناحوم” في دورة 2018. لم يكتفِ الفيلم بتلك الجائزة، بل حصد أيضًا جائزة لجنة التحكيم المسكونية (Prize of the Ecumenical Jury)، وجائزة المواطنية (Prix de la Citoyenneté)، ليؤكد نجاحه الجماهيري والنقدي داخل وخارج المهرجان.
وتجدر الإشارة إلى أن نادين لبكي ليست غريبة عن مهرجان كان، إذ بدأت حضورها السينمائي الدولي من بوابته، حين شارك أول أفلامها “كراميل” في قسم نصف شهر المخرجين عام 2007، ثم عادت بفيلمها الثاني “هلأ لوين؟” الذي شارك في مسابقة “نظرة ما”، وحقق جائزة François Chalais Award، ما رسّخ مكانتها كواحدة من أبرز المخرجات في السينما العربية المعاصرة.

فلسطين: لغة سينمائية خاصة تفرض نفسها عالميًا
من أبرز ملامح حضور السينما العربية في مهرجان كان، تبرز فلسطين عبر أسماء سينمائية صنعت هوية خاصة، تتسم بالتأمل واللغة البصرية العميقة والطرح السياسي الإنساني في آنٍ واحد.
يأتي في مقدمة هؤلاء المخرج إيليا سليمان، الذي اشتهر بأسلوبه الساخر والهادئ في تناول القضية الفلسطينية. في عام 2002، فاز فيلمه الشهير “يد إلهية” بـجائزة لجنة التحكيم، إلى جانب جائزة الاتحاد الدولي للنقاد (الفيبريسي)، ما شكّل لحظة فارقة في تاريخ حضور فلسطين في كان.
واصل سليمان حضوره القوي، وشارك في المسابقة الرسمية عام 2009 بفيلمه “الزمن الباقي”. ثم عاد ليشارك في مسابقة “نظرة ما” من خلال الفيلم الجماعي “سبعة أيام في هافانا”. وفي عام 2019، نافس مجددًا على السعفة الذهبية بفيلمه “إن شئت كما في السماء”، الذي حاز على جائزة الفيبريسي وتنويه خاص من لجنة التحكيم، مؤكدًا مكانته كمخرج يمتلك لغة سينمائية فريدة لا تشبه سواه.
أما المخرج هاني أبو أسعد، فهو الآخر من الأسماء الفلسطينية البارزة في المهرجان، حيث بدأ مشاركاته في كان بفيلمه “عرس رنا” ضمن قسم أسبوع النقاد عام 2002، قبل أن يعود في عام 2013 من خلال فيلمه “عُمر”، الذي شارك في مسابقة “نظرة ما” وفاز بـجائزة لجنة التحكيم الخاصة.

تونس والمغرب: نساء يحملن الكاميرا ويصنعن المجد
على مدار السنوات الأخيرة، شهد مهرجان كان حضورًا قويًا ومتناميًا للسينما القادمة من بلدان المغرب العربي، خاصة من تونس والمغرب، حيث برزت أسماء نسائية تركت بصمة واضحة وحققت إنجازات لافتة في مختلف أقسام المهرجان.
بدأت المخرجة التونسية مفيدة التلاتلي هذا الحضور المميز، عندما شاركت في دورة 1994 بفيلمها الشهير “صمت القصور”، الذي فاز بتنويه خاص في جائزة الكاميرا الذهبية، ليصبح علامة فارقة في تاريخ السينما التونسية والعربية. ثم عادت التلاتلي للمشاركة مجددًا في عام 2000 ضمن قسم “نظرة ما” بفيلمها “موسم الرجال”، مؤكدة مكانتها كسينمائية بارزة ذات صوت نسوي حساس وقوي.
وفي السنوات الأخيرة، لمع نجم كوثر بن هنية كواحدة من أكثر المخرجات العربيات شهرة على الساحة العالمية، خاصة بعد فوزها بجائزة الأوسكار عن فيلمها “بنات ألفة” في عام 2024. الفيلم كان قد نافس على السعفة الذهبية في دورة 2023، وفاز بـجائزة أفضل فيلم وثائقي مناصفة مع الفيلم المغربي “كذب أبيض”. ويُذكر أن كوثر كانت قد شاركت سابقًا في مهرجان كان بفيلمها “على كف عفريت” ضمن مسابقة “نظرة ما” في عام 2017.
ومن تونس إلى المغرب، واصلت السينما النسائية تألقها من خلال المخرجة هدى بن يمينة، التي حصدت جائزة الكاميرا الذهبية في دورة 2016 عن فيلمها “إلهيات” ، المشارك في قسم نصف شهر المخرجين، قبل أن تعود إلى المهرجان في عام 2022 بفيلمها الجديد “سلام”.
كما برز اسم المخرجة الشابة أسماء المدير، التي حققت إنجازًا مهمًا في دورة 2023 من خلال فيلمها الأول “كذب أبيض”، الذي شارك في مسابقة “نظرة ما”، وفاز بـجائزة أفضل فيلم وثائقي مناصفة مع “بنات ألفة”، إلى جانب جائزة أفضل إخراج في نفس القسم، لتصبح واحدة من الوجوه الجديدة الواعدة في السينما المغربية والعربية.
وإلى جانب المخرجات، تألق أيضًا المخرج المغربي كمال لزرق، الذي شارك بفيلمه “عصابات” (Hounds) في قسم “نظرة ما” عام 2023، ونجح في حصد جائزة لجنة التحكيم، مضيفًا إنجازًا جديدًا لرصيد السينما المغربية في كان.

سينما عربية صاعدة تتألق في الأقسام الموازية
في السنوات الأخيرة، بدأت دول عربية جديدة تفرض حضورها بقوة على خارطة مهرجان كان، عبر مشاركات لافتة في أقسامه المختلفة، وهو ما يعكس تنوّع وتطوّر الأصوات السينمائية في المنطقة.
من بين هذه المشاركات المميّزة، يبرز الفيلم السوداني “وداعًا جوليا” للمخرج محمد كردفاني، وهو أول فيلم سوداني يُعرض في مهرجان كان، حيث شارك في مسابقة “نظرة ما” في عام 2023، وفاز بجائزة الحرية (Prix de la Liberté)، ما اعتُبر إنجازًا تاريخيًا للسينما السودانية الوليدة على الساحة العالمية.
ومن الأردن، جاء فيلم “إنشالله ولد” للمخرج أمجد الرشيد، والذي شارك في أسبوع النقاد في نفس الدورة (2023)، وفاز بجائزتين مهمتين هما: جائزة Gan Foundation Award for Distribution، وجائزة Label Europa Cinemas.
أما من مصر، فقد صنع فيلم “ريش” للمخرج عمر الزهيري لحظة استثنائية في دورة 2021، حين فاز بجائزة أسبوع النقاد الدولي، ليصبح أول فيلم مصري يحصد هذه الجائزة المرموقة، ويُشعل بعدها نقاشًا واسعًا حول نوعية السينما الجديدة التي تنطلق من مصر. ثم جاء الوثائقي “رفعت عيني للسماء” للمخرجين أيمن الأمير وندى رياض ليجدد هذا النقاش بعد فوزه بجائزة أفضل وثائقي في مهرجان كان في دورة العام الماضي.

ولا يمكن الحديث عن الحضور العربي في كان دون التوقف عند الأفلام القصيرة، التي حققت بدورها نجاحات كبرى. فقد فاز الفيلم اللبناني “أمواج 98” للمخرج إيلي داغر بـالسعفة الذهبية للفيلم القصير في عام 2015، وهو أول تتويج عربي بهذه الجائزة في فئة الأفلام القصيرة. وبعده، جاء الفيلم المصري “ستاشر” للمخرج سامح علاء ليُعيد الإنجاز، ويُتوَّج بنفس الجائزة في عام 2020، وهو أول فيلم مصري على الإطلاق يحصد السعفة الذهبية في هذه الفئة.
وفي دورة 2024، أضاف المخرج مراد مصطفى نجاحًا جديدًا للسينما المصرية، من خلال فيلمه القصير “عيسى”، الذي شارك في قسم أسبوع النقاد، وحصد جائزة Rail d’Or لأفضل فيلم قصير، بالإضافة إلى جائزة الجمهور.
رغم التحديات الإنتاجية والظروف الصعبة التي تمر بها بعض البلدان العربية، إلا أن السينما العربية لا تزال تحقق إنجازات نوعية ومتواصلة في مهرجان كان، وتثبت عامًا بعد عام أنها قادرة على المنافسة في أهم المحافل السينمائية العالمية، بما تملكه من رؤى فنية جريئة، وتجارب إنسانية صادقة، وأصوات تعكس عمق وتنوّع العالم العربي.
اقرأ أيضا: ثمانية أعمال مدعومة من مؤسسة الدوحة للأفلام تشارك في مهرجان كان