منذ إطلاقها في عام 2016، تبنت منصة تلفزيون أبل Apple TV التابعة لعملاق التكنولوجيا الأمريكي الذي يحمل العلامة التجارية نفسها نموذجًا اقتصاديًا لا يشبه غيرها من منصات المشاهدة عبر الطلب. فالشركة لا تستهدف تحقيق أرباح من الاشتراكات أو بيع إنتاجاتها قدرما اهتمت منذ البداية بأن تكون المنصة عنصرًا لتعزيز مبيعات أجهزتها التي تتفرد بها مقابل الأجهزة المنافسة. فقد ظلت المنصة منذ إطلاقها ولمدة ثلاث سنوات على الأقل قاصرة على أجهزة الشركة، وحتى عندما بدأت تتوسع لتتاح للمشتركين من غير مستخدمي أجهزة أبل، استبعدت الشركة بعض الميزات وأبقتها قاصرة على المشتركين عبر خدماتها وحدهم.
لكن التوسع الترفيهي الذي تقدمه الشركة من خلال منصتها الترفيهية، يبقى توسعًا مثيرًا للاهتمام. فالشركة حتى الآن لم تحقق أرباحًا من المنصة، وهو غير مستغرب نظرًا لقدرتها على تحمل الخسائر لسنوات طويلة. ولسبب آخر، وهو أن فقاعة منصات البث بدأت بالتقلص، فوجود منصة بث ترفيهية لا يعني بالضرورة عددًا ضخمًا من المشتركين وقطعًا لا يعني أرباح مستمرة تتوالى بتوالي أرباع السنة المالية (تحسب الشركات أرباحها كل ثلاثة أشهر بالمقارنة بالأشهر الثلاثة المثيلة في السنة السابقة).
لكن منصة أبل في سبيل تضخيم حصتها السوقية في ظل المنافسة المحتدمة، لم تلجأ إلى الاعتماد بنسبة كبيرة على الأساليب القديمة المتمثلة في شراء حقوق أعمال وأفلام منتجة مسبقًا وعرضها على منصتها؛ بل تسلك طريقًا وعرًا وأكثر مخاطرة، وهو إنتاج أعمالها الأصلية.
وبالنظر للسنوات القليلة الماضية، لا يمكن إنكار عُلو كعب جودة أعمال المنصة مقارنة بنظيراتها، كما أثبتت مسلسلات مثل «انشطار Severance» و«تيد لا سو Ted Lasso» وهما من الأعمال التي استطاعت السيطرة على اهتمام محبي المسلسلات مع كل موسم جديد المسلسلات فيها، مع الأخذ بالاعتبار الختام الذي كرهه المتابعين لمسلسل تيد لاسو، والموسم الثاني المخيب لمسلسل «انشطار».

لكن القصة لا تتوقف عند هذين العملين، بل تمتد إلى أعمال ناجحة نقديًا ولها شريحة صغيرة من المتابعين الأوفياء، وهنا نذكر أعمال كـ «تطبيب نفسي Shrinking» و«سايلو Silo» و«البرنامج الصباحي The Morning Show». الغريب أن المنصة لا تبذل جهدًا حقيقيًا في ترويج بعض هذه الأعمال، ولا نشعر أن هناك محاولات جدية لكسب متابعين جدد. وقد تكون الخطة على المدى البعيد هي تأسيس مكتبة محتوى قوية لسنوات طويلة ممتدة، مكتبة لم توفر المنصة أي ميزانية في إنشائها.

أحدث إنتاجات أبل الناجحة هو مسلسل «شركة الإنتاج – الاستوديو The Studio»، وهو عمل كوميدي من كتابة وإخراج سيث روغان. يسلط المسلسل الذي عُرض موسم الأول الضوء على رئيس استوديوهات كونتينينتال «مات ريميك»- يقوم بدوره روغان نفسه، الذي يحاول الموازنة بين عشقه للسينما كفن بصري وبين متطلبات الاستوديو بإنتاج أعمال تجارية تسيطر على شباك التذاكر.
يأخذنا العمل في رحلة مضحكة في دهاليز هوليوود وصناعة الأفلام، ويعرض سلسلة من التحديات والعقبات التي تواجه أي صانع أفلام لتمرير ما يريد من أفكار ومتطلبات حتى يمكن الخروج بمنتج نهائي مرضي عنه.
مسلسل «الاستوديو» هو رسالة حب للسينما وصناعتها، منذ الحلقة الأولى لا يتوقف العمل عن عرض كواليس صناعة الأفلام والتقنيات المستخدمة فيها، وتؤتي ميزانية العمل وضخامته بثمارها في عرض كوكبة من النجوم إما بأدوار مختلقة للمسلسل أو بأسمائهم الحقيقية.
الحلقة الأولى تتمحور حول تبني الاستوديو لأحدث أعمال مارتن سكورسيزي الذي يظهر في عدة مشاهد بالإضافة إلى ظهور شرفي لتشارليز ثيرون وستيف بوشيمي.

في الحلقة الثانية يقدم العمل أكثر حلقاته طموحًا وعنفوانًا، حلقة «المشهد الممتد The Oner» وهي تحمل اسم تقنية تصوير سينمائي تتمثل في تصوير مشهد كامل في تتابع واحد بدون انقطاع من خلال تتبع الكاميرا لحركة الشخوص. في الحركة يزور مات موقع تصوير أحد الأفلام التي ينتجها الاستوديو، تأتي أهمية هذه الزيارة لأن المخرجة تحاول تصوير لقطة طويلة مرة واحدة بدون أي زوايا تصوير أخرى يمكن استخدامها في المونتاج. مات بحكم حبه للسينما وشغفه بهذا النوع من الأمور، يصر على الحضور، ولكن دوره التنفيذي وكونه رئيسًا للجميع يخلق نوعًا من اللباقة المزيفة تجاهه ويسبب حضوره توترًا عامًا لموقع التصوير تتسبب في تخريب كافة محاولات تصوير اللقطة الواحدة. المثير ان كل التقنيات السينمائية التي تتحدث عنها الحركة بما فيها تصوير الأحداث في لقطة واحدة طويلة بلا مونتاج، يتم استخدامها في تلك الحلقة التي صًوِّرت كلها في لقطة واحدة، مع بعض الاقتطاعات البسيطة التي يشار إليها بذكاء في الحوارات.

مع استمرار عرض المسلسل، يتضح أن كل حلقة مخصصة لتغطية أحد جوانب صناعة الأفلام، أو تقديم تحية إلى نوع معين من أنواع السينما. تبدو الفكرة جديدة ومنعشة، خصوصًا مع الطاقات الإنتاجية والإخراجية التي تخول للمسلسل استكشاف هذه المناطق وتصوير الحلقات بطرق مختلفة ومتنوعة تخدم الثيمة العامة بتقديم رسالة حب خالصة للسينما، ورسالة سخرية أيضًا من نهم ستوديوهات هوليود للمال على حساب الفن أحيانًا.
لكن هذا التفوق التصويري والتقني يأتي على حساب أي تطور سردي لشخصيات المسلسل والقصة العامة. أتكلم من تجربة شخصية بحتة، مع نهاية الحلقة الثالثة أدركت أنني لم أعد مهتمًا إطلاقًا بالشخصية الرئيسية ومن معها من شخصيات مساعدة، لأنني أعلم تمامًا أنه سوف يتم استخدام هذه الشخصيات بشكل كاريكاتوري يخدم الهدف العام والثيمة الرئيسية للحلقة. تشعر أن هذه الشخصيات تخوض رحلة مصغرة في كل حلقة وتعود إلى نقطة الصفر في بداية الحلقة التي تليها، لا يوجد رحلة حقيقية تخوضها الشخصيات والتحديات التي توضع أمامها لحظية وغير مؤثرة إجمالًا.

أدرك تمامًا أن العمل كوميدي يميل إلى الهزلية المفرطة، ولكن ذلك لا يعني التهاون بتقديم شخصيات حقيقية يمكن للمشاهد أن يرتبط بها ويرى نفسه في تجاربها. تظهر هذه المشكلة تحديدًا في كون المسلسل يقدم نظرة متعاطفة مع المنتجين التنفيذيين، وكيف أن حتى امتلاكهم لتوجهات إبداعية لا يعني إعفائهم من اتخاذ قرارات صعبة تخالف ميولهم الفنية وتقتضي تقديم المصلحة الربحية فوق أي شيء آخر.
بينما بالنسبة إلى المشاهد والذي غالبًا يتابع المسلسل مدفوعًا بحبه للسينما، فتأتي هذه النظرة المتعاطفة كمحاولة تلميع زائفة لفئة سينمائية لا يتهاون أفرادها بإبداء آرائهم وتوجهاتهم المضرة بالسينما كفن، وساهمت قراراتهم في السنوات الأخيرة بضعف الإقبال على صالات السينما وتوجه العديد من الأفلام إلى الإصدار الرقمي على منصات البث بشكل مباشر دون أن تحظى بفرصة إصدار سينمائي.

ما يزعج في هذا العمل هو أنه متصنع في كثير من الأوقات، لا يمكن لي كمشاهد إيجاد نبرة مصداقية وأصالة في عمل لا يتوقف عن تلميع صورة هوليوود وجمالية العمل فيها. في أوقات كثيرة يتوقف المسلسل عن كونه مسلسل بقصة وحبكة ويتحول إلى محاولات دؤوبة لإقناع المشاهد بأن هوليوود هي الأرض الموعودة حتى في أسوأ حالاتها.
بطولة سيث روغان للمسلسل لا تساعده إطلاقًا، بالنسبة إلى عمل يروي قصة بطل يقاوم إدارة الاستوديو باستمرار ليوازن بين حبه الشخصي للسينما وبين رغبات مدرائه الربحية، فهناك مجال واضح هنا للتعمق وتقديم صراع شخصي، حتى لو كان داخل إطار الهزل المسيطر على المسلسل. لكن كل هذا ينهار تمامًا حينما يسلم الدور الرئيسي لأحد أكثر الممثلين بقاءً في قالب واحد مهما اختلفت أدواره. سيث روغان منتج ومخرج تلفزيوني نشيط جدًا، لكن العمل احتاجه أن يبقى خلف الكاميرا أو أن يحد من ظهوره إلى مشاهد معدودة فقط مثل الكثير من أعماله الأخرى الناجحة.

حتى الآن لم ينضب البئر الذي يغرف منه المسلسل أفكاره التي يتبناها في كل حلقة، ونجاح هذه الأفكار تحديدًا قدم لنا حلقات تلفزيونية ممتعة مثل «الشريط المفقود The Missing Reel» التي تبنت أسلوب أفلام التحقيق والنوار بشكل ذكي، وحلقات كان خلفها نبرة صادقة بالحديث عن ماهية الفن وما هو سبب تدشين بعض الأفلام كفن حقيقي واعتبار أفلام أخرى مجرد هراء تجاري كما في حلقة «طبيبة سرطان الأطفال The Paediatric Oncologist».
لكن كل هذا يضعنا أمام تساؤل يصعب على المسلسل مواجهته، بعد كل هذه الأفكار ومحاولات تبني أنواع وثيمات مختلفة من السينما، هل العمل قادر على الوقوف على قدميه بدون الاتكال على هذه المعطيات؟ هل نحن أمام عمل مستقل بذاته أم أنه مجرد ميزانية ضخمة لمسلسل متصنع يحاول تلميع صورة هوليوود في زمن خسرت احترامها فيه؟
اقرأ أيضا: «ميمنتو» كريستوفر نولان: ما تبقى من الخيال… والذاكرة