فاصلة

مراجعات

«الرجل الذي أطلق النار على ليبرتي فالانس»… سينما مخترع أمريكا

Reading Time: 5 minutes

يصعب الحديث عن أفلام المخرج جون فورد، وبالأخص الفيلم الذي نناقشه بهذا المقال، دون عودة موجزة لأصل الأشياء، سواء أصل الفن السينمائي، أو أصل القوة العظمى الأمريكية التي حكمت هذا الفن – عالميًّا – لما يزيد عن قرن من الزمان. 

المعروف أن د. و. جريفيث هو من وضع القواعد النحوية للسينما الروائية، لكن السينما كي تنمو كفن جماهيري مُؤثر ومُعبر احتاجت ما هو أكثر من النحو… احتاجت البلاغة.

يرى الناقد والمُنظر أندرو ساريس أن جون فورد وهوارد هوكس هما رافدا التطور اللذان تفرعا من نهر جريفيث. المعنى نفسه صاغه المخرج أورسون ويلز بشكل أفضل حين قال: “هوكس هو النثر، وفورد هو الشِعر”. وبحسب مارتن سكورسيزي؛ فإن فورد هو جوهر السينما الأمريكية، وكل من يصنعون الأفلام اليوم مدينون له.

الرجل الذي أطلق النار على ليبرتي فالانس

الرجل الذي اخترع أمريكا

لكن الفضل الحقيقي لفورد ليس المساهمة في تطوير فن السينما وحسب، إنما وضع سياق ثقافي أو أسطورة مؤسسة للأمة الأمريكية من خلال الأفلام. إذ لم تهتم أفلام فورد كثيرًا بالمجتمع الأميركي الحداثي بعد ثورة التصنيع وترسيخ النظام الديموقراطي والقوة العسكرية الكبرى، بقدر ما اهتمت بالجذور التاريخية البدائية للبيئة التي أفرزت كل ذلك في القرن الـ19؛ سواء الوقائع منها أو الأساطير.

فلا عجب أن أكثرية أعماله تنتمي لنوعية “أفلام الغرب” (western)، وهي نوعية أمريكية أصيلة، جاءت كثير من تفاصيلها من وحي المبالغات في القصص ومجلات الكوميكس بنهاية القرن الـ19 وبداية القرن الـ20. والتقطتها أفلام الغرب عمومًا وأفلام فورد خصوصًا، لتضعها في إطار التاريخ والجغرافيا السياسية للولايات المتحدة. 

وفق هذا المعنى يقدم الكاتب هانز بورينغر مقاربة مثيرة تذهب كالتالي: “الإغريق لديهم الإلياذة، والرومان لديهم الإنيادة، واليهود لديهم التوراة… والأميركيون لديهم جون فورد”.

واختزل المخرج الفرنسي جان كريستوف هذا المعنى بالعنوان الذي اختاره لفيلمه الوثائقي عن حياة فورد: “الرجل الذي اخترع أمريكا”.

الرجل الذي أطلق النار على ليبرتي فالانس

شعب بلا دولة!

فيلم “الرجل الذي أطلق النار على ليبرتي فالانس” هو فيلم ويسترن من إنتاج 1962. وهو فيلم يطرح الأسئلة الصعبة حول المفاهيم السياسية التي مازالت تثير التفرقة والأزمات إلى اليوم: الدولة والسلطة والقانون والحرية. ويسهل التمادي في قراءته باعتباره فيلم يكشف عن الأساس الأخلاقي والسياسي الذي قامت عليه الولايات المتحدة نفسها، أو دول العالم الحديث بشكل عام.

تعود أحداث القصة بالـ”فلاش- باك” إلى ماضي قرية في الغرب الأمريكي اسمها “شينبون”، كانت تعيش على هامش النظام، ويضربها التأخر بكل مناحي الحياة، لا قطارات تصل إليها ولا سدود للأنهار ولا أمن ولا مدارس ولا قانون. والشؤم الأكبر رجلٌ يُدعى “ليبرتي فالانس”، يقوم مع عصابته بترويع سكان القرية وسرقة مواردهم، في ظل عجز شُرطي القرية على التصدي لهذا المجرم الفوضوي وفرض النظام.

فيما كان بطل الفيلم رانسوم (جيمي ستيوارت)، المحامي الشاب الطموح حينها، أحد ضحايا اعتداءات ليبرتي فالانس. قبل أن يظهر راعي بقر شجاع اسمه دانفون (جون واين) ليمثل صوت الردع الوحيد ضد ظلم ليبرتي فالانس.

الرجل الذي أطلق النار على ليبرتي فالانس

الغاية تبرر الوسيلة أحيانًا

يتغذى البناء الدرامي للفيلم على سمات التشابه والتنافر بين شخصيتي رانسوم ودانفون، الرجلان يجمعهما نُبل النوايا رغم اختلاف الوسائل. تنافسا على حب نفس المرأة “هايلي”، واتفقا على هدف التخلص من “ليبرتي فالانس” وإنقاذ القرية من شره، ثم اختلفا على التفاصيل.

رانسوم رجل مثالي، متمسك بما درسه في كتب القانون والسياسة من نظريات حول تطبيق العدالة بالتعليم والتوعية والديموقراطية وتفعيل القانون. بينما دانفون لا يفهم سوى لغة القوة ورد العنف بالعنف والغدر بالغدر.

لأي مدرسة فكرية ينحاز الفيلم؟ لمدرسة دانفون بالطبع، وإن لم يكن هذا الانحياز بشكل احتفائي بل من باب قبول أقل الضررين. هذا يظهر من عنوان الفيلم، حيث أن مقتل ليبرتي فالانس هو اللبنة الأولى لبناء اليوتوبيا التي يبشر بها رانسوم، وسنرى أثرها الإيجابي بمرور السنين في صورة ازدهار الحياة في شينبون.

لكن ليبرتي فالانس لم يُقتل فحسب، بل قُتل بطريقة غادرة (بمثل أساليبه) لا بمبارزة شجاعة وجها لوجه. وذلك تكريسًا لمبدأ خلافي بعض الشيء، بأن الرخاء في الواقع التطبيقي لا يُبنى بأيدي ناصعة النظافة، فلا توجد حضارة أو ديموقراطية حديثة قامت على أسس مثالية بحتة.

الكذبة أجمل من الحقيقة

السؤال الأهم الذي يحاول جون فورد طرحه هو، هل العوام مستعدون لتقبل هذه الحقيقة المُرة حول تاريخ بلدهم، أم الأفضل تجميلها ببعض الأساطير، حول هوية الرجل الذي قتل ليبرتي فالانس، وكيف قتله.

ذكرنا أن أفلام فورد دائمًا ما تنبش في التاريخ الأمريكي سواء بالوقائع أو الأساطير، وهنا وصل هذا النبش لذروة النضج والوعي الذاتي؛ بتقديم طرح يجمع فكرة الحقيقة ضد فكرة الأسطورة بشكل ديالكتيكي (فكري/ جدلي)، فيه من الطرافة، لكنها طرافة باطنها التشاؤم والسخرية.

الرجل الذي أطلق النار على ليبرتي فالانس

فورد يرحل عن الطبيعة

اختار فورد تناول تلك القضية بأسلوب الرمزية الواضحة، دون تعقيد أو غموض في تمثيل الرموز، فجاء الطرح الفني أقرب لأسلوب المسرح الذهني. البطل الأول هنا هو التناظر الحواري وتبسيط المعاني، بالاعتماد الأكبر على الأداء التمثيلي ومحدودية مواقع الأحداث. فموضوع الفيلم أعقد من أن يتم التشويش عليه بجماليات دخيلة على هذا الإطار.

ولنفس السبب يعتبر هذا الفيلم من أقل أفلام فورد اهتمامًا بالجوانب المرئية الطبيعية، حيث عاد للصورة بالأبيض والأسود بديلًا عن الألوان التقنية Technicolor التي ترسخت في السينما الأمريكية في ذلك الوقت، وفضّل تصوير معظم الفيلم في ديكورات داخلية مصنوعة باستوديوهات بارامونت، وتنازل عن مشاهد المطاردات كما تنازل عن التكوينات البصرية المبهرة التي اعتاد عليها في روائعه السابقة مثل “الباحثون” The searchers و”الرجل الهادئ The quiet man” و”عزيزتي كلمنتين My darling Clementine” و”عناقيد الغضب Grapes of wrath”، حيث كانت أماكن التصوير الطبيعية تحتضن أحداث تلك الأفلام وتقدم لوحات بصرية فاتنة.

الدوق والجنتلمان

أيضًا، جاءت عملية اختيار فريق التمثيل لتضيف الكثير لمصداقية الفيلم. جيمس ستيوارت وجون واين هما من أبرز نجوم العصر الذهبي، وأكثرهما تباينًا في صورتهما الذهنية عند المُشاهد، ما يخدم الصراع بين دوريهما بالفيلم. 

ستيوارت الذي اشتهر بأدوار “الجنتلمان”، الرجل الطيب الليّن الظريف ضعيف البنية والساذج أحيانًا (إلا في أفلام هيتشكوك)، وجون واين الذي اشتهر بلقب “الدوق” وبأدوار الرجل الخشن القوي الساخر، فضلًا عن حياته الشخصية وميوله السياسية اليمينيَّة الإقصائية التي وضعته تحت بؤرة نيران الانتقادات التاريخية.

كل منهما يمثل وجهًا مختلفًا لأمريكا، والوجهان حقيقيان ومناسبان لرجل أطلق النار على ليبرتي فالانس. ما يعطي الفيلم مزيدًا من العمق التمثيلي.

مخرج بقوته الضاربة

تاريخ فورد السينمائي طويل بما يكفي ليحتوي على عديد من نقاط التحول، التغير في الأفكار والتوجهات وحتى الأساليب. يقسم ساريس تاريخ جون فورد لمراحل: “أصقل حرفته الإخراجية في العشرينيات، وبلغ قوة الدراما في الثلاثينيات، وأضاف المسحة الملحمية في الأربعينيات، وعرج للمنحى الرمزي في الخمسينيات”.

ولو أن هناك إجماعًا على أن “الرجل الذي قتل ليبرتي فالانس” هو آخر فيلم عظيم بتوقيع فورد. والمؤكد أن هذا الفيلم ذاق ثمرة من كل فواكه المراحل السابقة.

اقرأ أيضا: «أبيض – أسود» أم «أبيض وأسود»؟

شارك هذا المنشور