فاصلة

مراجعات

«الذراري الحُمر».. هناك دماء دائمة في الطريق

Reading Time: 5 minutes

لا يدخر المخرج التونسي لطفي عاشور في فيلمه الجديد «الذراري الحُمر» (2024) وقتاً طويلاً في كشفه للحدث الرئيس الذي ستُبنى عليه بعدها كل رحلته، إذ يضعك مباشرة وبعد دقائق قليلة، أمام حدث صادمٍ وقاسٍ لأحد الشخصيات، الذي يتم قطع رأسه على يد جماعات إرهابية. 

يبدأ الفيلم، المشارك في المسابقة الرسمية للدورة الرابعة لمهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي، بمشاهد تأخذنا في علاقة حميمية وودية ما بين الطفل «أشرف» وأبن عمه المراهق «نزار»، مطلين على حياتهما في رعي الأغنام، والسباحة وصعود قمة الجبل للتأمل والاستجمام. من هذه البداية الحميمية يتضح أن المنطقة التي يتواجدان فيها محظورة وخطيرة بسبب انتشار الألغام، إلا أن «نزار» يبرر وجودهما فيها بسبب قلة الماء والعشب في قريتهم البسيطة والفقيرة. 

فيلم ( الذراري الحُمر -2024)
فيلم ( الذراري الحُمر -2024)

تتغير الأجواء بشكل مفاجئ حين تهاجمهم مجموعة من الرجال، يعرف المُشاهد لاحقاً إنهم من جماعة إرهابية، يتعدون عليهما بالضرب، وعلى إثره يفقد «أشرف» وعيه. منذ هذه اللحظة يجعل المخرج ـ من خلال وجهة نظر أشرف ـ المُشاهد جزءاً من الرحلة التي سيخوضها الطفل لاحقاً.  باستعادته لوعيه، يحاول الطفل إيقاظ ابن عمه، الممد أمامه بعينين مفتوحتين وكأنه ينظر بهما إليه. في تلك الأثناء، يتحرك أحد الإرهابيين الواقف بينهما، لتنكشف الصدمة: رأس نزار مفصول عن جسده! يترك الإرهابيون أشرف حياً ليحمل رأس أبن عمه ويعيده إلى القرية وهكذا تبدأ رحلة درامية مؤلمة، نتابع من خلالها مَشاهد حمل الرأس بشكل تفصيلي من بداية محاولته وضعه في الحقيبة حتى عودته إلى القرية وسط أجواء من التوتر والأسى.

يأخذنا الفيلم، المستوحى من حدث حقيقي وقع في عام 2015 في جبل مغيلة بتونس في رحلتين؛ الأولى رحلة الطفل أثناء حمله لرأس أبن عمه والعودة به إلى القرية، وما يواجهه من صعوبات تظهر في محاولته النفسية المؤلمة لوضع الرأس في الحقيبة، إلى جانب انفجار لغم يقتل أغنامه، ما عدا خروفاً صغيراً يحمله معه إلى القرية وسط صدمة الجميع. الثانية، هي رحلة العودة إلى الجبل نزولاً عند رغبة الأم المكلومة والمصرة على استعادة جسد ولدها «نزار» لدفنه مع الرأس. 

 يمر أشرف بعد عودة الرأس، برحلة ذاتية ـ لعلها الرحلة الثالثة في الفيلم ـ  مليئة بالاضطراب النفسي والذكريات المؤلمة، إذ يظهر له نزار في رؤى ضبابية، أحياناً من بعيد وأحياناً قريباً منه، ليجسد ثقل الفقد والصدمة. تتداخل هذه المَشاهد مع ذكريات خاصة تجمعهما، ما يضيف عمقاً إنسانياً إلى القصة الصداقة والحزينة. رحلته الذاتية تميزت بجوانب بصرية، امتزجت فيها الأحلام والتأملات، مع تصوير بديع للحياة في القرية ومن داخل بيوتها وخارجها، مع حضور استدلالي للشجرة الباسقة وسطها، كرمز إلى شجرة الحياة وما يعنيه ذلك، لأهل القرية التي يلجأ إليها أشرف للتأمل  أو الجلوس مع واحدة من بنات عمومته، التي كان «نزار» يحبها، وكانت هي أول من عَلِم بموضوع الرأس، عند عودته من الجبل. 

فيلم ( الذراري الحُمر -2024)
فيلم ( الذراري الحُمر -2024)

خلال تلك الرحلات المؤلمة يواجه المخرج لطفي عاشور تحدياً متمثلاً  في الحفاظ على تماسك القصة واستمرارية جذب المشاهد حتى النهاية إليها؟.  بعد عودة الرأس إلى القرية لا جديد يحصل درامياً، لتبقى القصة تدور حول تخيلات أشرف وأحلامه، وصراعات العائلة مع الشرطة التي تكشف تخاذلهم، إلى الجدل الدائر بين أفرادها حول خطورة وصعوبة إرجاع الجسد، ثم قرارهم بالذهاب إلى الجبل. حتى الرحلة الثانية تبدو باهتة ولا تقدم شيئاً جديداً. رحلة خالية من المفارقات أو الأحداث المثيرة، لا تقدم سوى حدثاً واحداً طيلة زمنها الطويل. على عكس الرحلة الأولى المليئة بالخوف والدهشة وترقب ما سوف يحدث. اختيار المخرج لتقديم ما يحدث لاحقاً من منظور الطفل أشرف، بهدف فهم مشاعره وحساسيته اتجاه ما يمر به، أوقع الفيلم بنهايات متعددة، ولعل ذلك يعود لسيل التخيلات الكثيرة التي تُشعِر المُتفرج أحياناً بسبب طريقة تصويرها وما تحمله من معنى، أنها خاتمة طبيعية للفيلم، وأن لا حاجة بعدها لتقديم المزيد. 

فيلم ( الذراري الحُمر -2024)
فيلم ( الذراري الحُمر -2024)

أكثر سؤال تبادر إلى ذهني خلال مشاهدتي للفيلم وترسخ بعد انتهائي من مشاهدته، هو:  لماذا أراد المخرج وكاتب النص (لطفي عاشور مع نتشا دو بونشارة، درية عاشور، وسيلفان كاتونوا)  تقديم هذه القصة بالتحديد؟ لا شك أنها قصة مأساوية، فلا جدال حول ذللك، بالإضافة إلى كونها كما أشرنا رحلة تحمل في داخلها مأساة، سواء رحلة عودة الطفل إلى القرية حاملاً الرأس معه، أو رحلة الرجال لجلب الجسد. كل هذه المؤشرات تجعلنا نعتقد أننا سنشاهد فيلماً مختلفاً ومميزاً، وهذا ما يحصل بالضبط إلى حد معين! إذ بالرغم أن الفيلم يقدّم بعض اللحظات المميزة بفضل قوة الحدث وثراء القصة، إلى جانب جمال التصوير والخيالات التي عاشها الطفل، إلا أن الاستثمار الدرامي في الحكاية لم يصل إلى مستوى يجعلنا نرتبط بالكامل ببطله ومأساته. هذا التفاوت في تقديم القصة أضعف بعض الخطوط الدرامية، مثل خط محبوبة نزار الذي بدا في بعض الأحيان دخيلاً ومصطنعاً. إذ ما الداعي لذهاب البنت وبشكل عاجل، بعد معرفتها سبب مقتل حبيبها للصعود إلى الجبل واللحاق بالآخرين بالرغم من خطورة الوضع، وتخوف الجميع من الذهاب إلى هناك، بينما كل ما فعلته هو أنها صعدت بجسارة ودون خوف لمكان أخذ النقاش حوله من الرجال وقتاً طويلاً، كما أنه لم يضف بعداً على مستوى الحدث.

أفلام الرحلة عادةً ما تبدأ بحدث يغيّر مسار الشخصية، ليأخذنا معها في رحلة تحول وتطور. هذه الرحلات ليست مجرد انتقال من مكان إلى آخر، بل هي انعكاس داخلي للشخصية، حيث يحدث تغيير عميق يمس معه المُشاهد أيضاً، ليدرك معانيها أكثر ويتغيّر معها. فالرحلة، مهما كانت بسيطة، تأتي عادةً مكثفة ومليئة بالمعاني التي تربطنا بها على المستوى الإنساني. «الذراري الحمر»، لم يستثمر هذا المفهوم إلا بقدر التركيز على مأساة شعب تورط بوجود الإرهابين وبتخاذل حكومته. فيلم يجعلنا ننظر من خلال عين الطفل، بهدف الوصول إلى معنى مأساته ومأساة شعبه. 

فيلم ( الذراري الحُمر -2024)
فيلم ( الذراري الحُمر -2024)

يقترب نص «الذراري الحُمر» من الأسلوب التسجيلي، إذ لا يهتم بأن يجعلنا نشعر ونتغيّر بتحول البطل وشعوره، ولكن عوضاً من ذلك يجعلنا نفهم. نفهم أن الذبح والموت يمكن أن يُبرر باسم الجهاد والدفاع عن الوطن، وأن الحق ليس له وجه واحد في عملة الحياة، وبأن الكل يجر قرص الصواب باتجاهه لتضيع الحقيقة ويغيب المنطق دون أن نعرف من الذي هو على صواب، ومن هو المخطئ؟ ولكن وبالرغم من بعض النقاط التي أضعفت من قوته وتماسكه، إلا أنه  يقدم تجربة مميزة تستحق التقدير. إذ يتميز العمل بصرياً بأسلوبه الجمالي الذي أُشرنا إليه سابقاً، وبالسرد الذي نجح في جذبنا وتوريطنا عاطفياً مع الطفل أشرف، لنعيش مأساته ونحمل الرأس معه، وكأننا شركاء في الألم وفي الرحلة، كما أن طريقة اقترابه من موضوعه كانت مميزة، فعلى الرغم من السوداوية والمأساة التي تغلف أحداثه، استطاع المخرج أن يعالج القصة بأسلوب شاعري وحالم في كثير من اللحظات. هذا التوازن أتاح للمشاهد أحياناً الخروج من الأجواء المليئة بالدماء والدمار الروحي والنفسي، ليجد متنفساً بصرياً وشاعرياً يمنح القصة بعداً إنسانياً أكثر رحابة وتأثيراً.

اقرأ أيضا: «ميرا ميرا ميرا».. فيلم قصير عن ضياع المعجم التعبيري

شارك هذا المنشور