فاصلة

مراجعات

«الذراري الحُمر».. عن المراهقين الذين لم يعودوا كذلك

Reading Time: 4 minutes

من خلال فيلمين طويلين وعدة أفلام قصيرة، يؤكد المخرج لطفي عاشور كونه مهمومًا بشكل حقيقي بواقع المجتمع التونسي المعاصر، وأزماته خاصة السياسية منها، والتي تنعكس بشكل مباشر على المواطنين. عادة ما يختار شخصيات مهمشة ليصبحوا شخصيات رئيسية، ما يجعل في أفلامه شيئًا صادقًا وصادمًا في آن واحد.

«الذراري الحُمر» (2024) الحائز على جائزة اليُسر الذهبية لأفضل فيلم طويل في الدورة الرابعة  لمهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي، يقدم قصة مبنية على وقائع حقيقية، تدور أحداثها في إحدى القرى الريفية في تونس. أشرف ( الممثل علي هلالي) ونزار (ياسين سمعوني) مراهقان يرعيان الغنم في منطقة يسيطر عليها بعض الجهاديين الذين يعتدون عليهما، ويصبح على أشرف أن يُوصل رسالة شديدة القسوة إلى أهله وأهل نزار، وعليها يترتب تغيّر كامل في حياته وحياة أهل القرية.

الذراري الحمُر
مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي (2024)

نهار مظلم

المتابع لأفلام لطفي عاشور، سيرى أنه يختار بدقة الأسلوب المناسب لعرض قصته، فبينما استخدم الكوميديا السوداء في «علوش»، واستخدم التحريك والفانتازيا في «نقطة عمياء»، فإن القصة التي يقدمها في «الذراري الحُمر» قاتمة ومظلمة ولهذا يختار أن يكون أسلوبه فيها صريحًا وواقعيًا لينقل لنا الأحاسيس التي يود التعبير عنها. عكس ما يمكن توقعه عند قراءة قصة الفيلم، والتي تسمح بأجواء مظلمة، فإن الفيلم يبدأ في نهار مشمس جميل، نشاهد خلاله أشرف ونزار يقضيان وقتًا مرحًا بين رعي الأغنام والاستمتاع بالبيئة المحيطة بهما. لحظات مثالية لمراهقيّن، يحاولان الابتعاد عن الكبار، والاقتراب من الخطر بحذر، لكن هذه الأجواء المبهجة لا تدوم، ولكن ورغم هذا لا يتحول الطابع البصري المشرق كثيرًا بعد وقوع المأساة مبكرًا في الفصل الأول من الفيلم، وهذا أول ما يلفت النظر إلى صورة الفيلم.

فيلم ( الذراري الحُمر -2024)
فيلم ( الذراري الحُمر -2024)

يتمسك عاشور بالشكل الواقعي في أغلب مشاهد الفيلم، وهكذا نشاهد تتابعات المأساة لدى أشرف وأهل القرية وفي الخلفية لا زالت الشمس مشرقة وهذا الاختيار إنما يثير التأمل في الكثير من عناصر الفيلم. أولها أن هذه المأساة -رغم قسوة تفاصيلها- هي جزء من طبيعة الحياة هناك؛ الخوف من بطش الجهاديين، وغياب حماية الدولة، أمر يعيش في كنفه أهل هذه القرية، وثانيها هو أن الظلام الذي تقدمه هذه الأحداث لم يستطع أن يسيطر بالكامل على نفسية أشرف أو حتى رحمة (وداد دبابي) صديقته هو ونزار. يتابع الفيلم وقع هذا الحدث على نفسية جميع أهل القرية، ليرصد تأثير التحولات على كل شخصية بشكل دقيق؛ الأمهات، والأشقاء، رجال القرية ونسائها. في هذه التتابعات نلمس وقع الأحداث وكأننا نعيش بينهم، نرى مِن تنهار تمامًا، ومَن يرفض التصديق، ومَن تحاول حماية المقربين لها، ومَن يلوم الشرطة التي لا تفعل شيئًا، ووسط كل هؤلاء يقف أشرف ليتلقى كل هذا ويتفاعل معه.

فيلم ( الذراري الحُمر -2024)
فيلم ( الذراري الحُمر -2024)

مراهق في منتصف العالم 

أشرف المراهق الذي خَرج توًا من مرحلة الطفولة، لا يزال يستكشف عالم الكبار، وإذا به يدخله بأسوأ طريقة ممكنة، فالحادث الذي مر به كان كفيلًا بإضافة الكثير من السنوات المرة إلى عمره وخلال لحظات قليلة. يحكي المخرج لطفي عاشور عن العملية الطويلة لاختيار الأطفال المناسبين للدور، وطيف أنهم كانوا يمنحون بضع دقائق فقط لكل طفل أمام الكاميرا لاختباره، بينما كلمه المسؤول عن عملية اختبارات الممثلين تشير إلى أن أحد الأطفال جذبه تمامًا، حتى أنه استكمل الحوار معه أمام الكاميرا لمدة أربعين دقيقة! كان هذا الطفل هو علي هلالي الذي فاز بالدور.

يدرك صناع الأفلام وربما المشاهدون أيضًا صعوبة وقوف وتحريك الأطفال أمام الكاميرا، فماذا إذا كنا نتحدث عن دور شديد التعقيد مثل دور أشرف في الفيلم؟ يتميز الممثل علي بملامح حادة ولافتة، حتى يمكن تمييزه بين عدد كبير من في مثل سنه، وكانت تلك الملامح مناسبة جدًا للدور، بل يمكن القول إنها تحكي بعض التفاصيل عن تاريخ الشخصية، فسنه المكسورة مثلًا تخبرنا أنه مشاغب؛ لكن بالتأكيد الملامح وحدها لن تكون كافية، فالدور ثقيل جدًا ويحتاج إلى ممثل موهوب.

فيلم ( الذراري الحُمر -2024)
كواليس فيلم ( الذراري الحُمر -2024)

أفضل ما قدمه علي في الدور هو حفاظه على براءة الطفولة في المشاهد التي تحتاج إلى ذلك، وتقديم ملامح الكبار في الأحيان الأخرى. فعندما يضحك أشرف في بداية الفيلم أو في مشاهد الفلاش باك، يضحك بروح الطفل الذي لا يهتم سوى بهذه اللحظة الممتعة، وعندما ننتقل إلى مشاهد ما بعد الحادث فإن عينيه -دون حوار- يحملان همًا لا يمكن تجاهله. ربما كان المشهد الأفضل لمُشاهدة قدرة هذا الممثل على الإمساك بالشخصية هو مشهد لعبه كرة القدم بعد الحادث مباشرة. نشاهده وهو لا زال مذهولًا وغير قادر على استيعاب ما حدث له ولنزار، وفي الاثناء يدعوه بعض الصبية  للعب كرة القدم معهم. يلعب بمنتهى العنف وكأنه ينتقم مما حدث له مُجَسدًا في شخص رفاقه. هذا المشهد هو بمثابة نقطة تحول لأشرف من مرحلة إلى مرحلة أخرى، وهو يقدمه بدقة يصعب تحقيقها.

لم يكن هذا الاختيار فقط للموهبة، ولكن لاستكمال الرؤية التي يحملها المخرج في الفيلم، فكما بدأ من عند المراهقيّن فهو يستمر خلال الأحداث وحتى مشاهد النهاية معهم. يختار لطفي عاشور رغم بشاعة أحداث الفيلم، الانحياز إلى وجود الأمل الكامن في هؤلاء، أو من بَقيّ منهم قادرًا على المقاومة واستكمال الحلم. رغم سوداوية الواقع، يقرر عاشور في هذا الفيلم الانحياز لمستقبل يحمل بصيصًا من الضوء، حتى وإن كان خافتًا.

«الذراري الحُمر» فيلم يستحق المدة الطويلة التي استغرقها في التحضير، ويؤكد على وجود مخرج لديه رؤية ممتعة، يتأنى في أعماله لكنه يقدم دائمًا ما يليق بموهبته.

كواليس فيلم ( الذراري الحُمر -2024)
كواليس فيلم ( الذراري الحُمر -2024)

اقرأ أيضا: «الذراري الحُمر».. هناك دماء دائمة في الطريق

شارك هذا المنشور