ينطلق «الدنيا حفلة»، الفيلم القصير للمخرج السعودي رائد السماري، الفائز بجائزة لجنة التحكيم في مهرجان «صن دانس» Sundance، بإيقاع سريع وحكي مختزل وكأنّه يسابق الزمن ليضع دنيا، شخصيته الرئيسية، في مأزق يعصف بتوازنها ويدفعها لمساءلة وجودية لاختياراتها في الحياة.
بعد مقدمة قصيرة، تُظهر الخادمة ماريا وهي تهرع لإخبار عبدو، المنهمك بالحفر خارج فيلاـ مزرعة تقع في ضواحي الرياض، بأن عليه الفرار معهم فورًا لأن «سيّدتهم فقدت صوابها». يستقلّ الخدم جميعهم شاحنة ويفرّون وكأن الموت يطاردهم.
تُبرز سلسلة المشاهد اللاحقة عزلة دنيا وسط فضاءات الفيلا الفسيحة والباذخة، بينما تنادي الخدم بأعلى صوتها من دون مجيب. يستخدم المخرج تقنية القطع والانتقال السريع jump cut وفق فكرة تسريع الزمان نفسها، لكن تبدّل مكان دنيا بقفزات مفاجئة وسط إطار ثابت يوحي باضطراب الشابة واختلال إحساسها بما يدور حولها. وما إن تحضر صديقتاها ديما ودلال حتى تتضح طبيعة الأزمة: ثلاث ساعات فقط تفصل دنيا عن استقبال أكثر من 70 مدعو لحضور حفلة تخرجّها، ولم تُستكمل بعد إعداداتها لهذه المناسبة، ولم يعد هناك موظّفون لخدمة المدعوين.
يتضح تأثّر المخرج ـ كما صرّح- بكلاسيكيات الكوميديا الشبابية، كـ«فتيات لئيمات «mean girl» (2004) لمارك واترز، في نسق تبعية الصديقتين لدنيا، ومجاراتها في كل رغباتها، كما في حس الكوميديا الجافة Deadpan الذي يرتكز عليه سيناريو الفيلم، ويتبدّى على وجه لخصوص في مشاهد تمزج الدراما الجادة بمواقف لا تخلو من خواتيم هزلية، مثل سعي دنيا وصديقتها النباتية ديما لذبح خروف، وذهابهما إلى أقصى الحدود في تحدّي طبيعتهما الحسّاسة والمترفة، وعدم اعتيادهما القيام بالأشغال المنزلية، قبل أن تُفاجآ بتطور فكاهي غير متوقّع.
يندرج حضور اللون الأحمر القاني بشكل طاغ (فستان دنيا، دم الخروف، البالونات…) في تصوّر فني خلّاق يدعم ما يوحي إليه هذا اللون من إحساس بدنوّ أحداث شديدة الوقع، وتأجّج مشاعر قصوى كالغضب والانتقام، على غرار مشهد وقوف دنيا أمام المرآة، بعد أن قامت بطلاء أظافرها باللون الأحمر دائمًا، لتضع أحمر الشفاه بينما تردّد جمل ترحيب بفتاة تُدعى «العنود»، فينكشف رهانٌ درامي مركزي يقوم عل تنافس بين دنيا وصديقتها اللدود «العنود» حول الاستئثار بقيادة المجموعة. هذا من أهم مفاتيح الكوميديا الشبابية، ولعل الاعتماد عليه مكن المخرج ـ كاتب السيناريو من تفعيل نواياه بتناول المرأة السعودية بنظرة مخالفة للسائد، تنأى بها عن ثنائية الضحية أو الملاك، فتبدو دنيا شخصية معقّدة، نرجسية وطموحة، مسيطرة وهشّة في آن، مغامرة وحريصة على التفاصيل، مرهفة وقاسية في ذات الوقت. تركيبٌ تمكّنت سارة بالغنيم (الممثلة والمخرجة الواعدة) من تجسيده ببراعة وسخاء يدين لهما الفيلم بالكثير. تعذّر على المخرج العثور على ممثلة مقنعة للدّور قبل أن يجد ضالته بشكل قدري في بالغنيم المسؤولة عن تجارب الأداء من بين مهام إنتاجية أخرى.

أهم اختيارات الفيلم الفنية هو الاقتصاد في الحكي، الذي يترك لمخيلة المشاهد حرية تخيّل حبكة التنافس بين دنيا والعنود، ودواعي هروب الخدم (هل أساءت دنيا معاملتهم أم أنها فقط متطلّبة أكثر من اللازم؟) وكل ما يمكن أن توحي به هذه الخطوط من تفاصيل تصبّ في التيمة الأساسية: كيف يؤدي البحث عن حظوة اجتماعية عبر الامتثال للمظاهر إلى فقدان الإنسان لاتّزانه ومحيطه الاجتماعي، كما فقدت دنيا التعاطف مع خدمها وصديقاتها فغدت معزولة.
والعزلة القصوى من علامات الجنون الذي ألمحت له ماريا في أولى جمل الفيلم. «الطّريق من الإنسان إلى حقيقته يمرّ عبر الجنون» يقول الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو، فيما يبدو تلخيصًا للقوس السردي الذي تمرّ عبره دنيا لكي تعود إلى نفسها بعد قضاء ليلة في حفرة – لا يمكن إغفال إحالتها على القبر-، مع تفصيل فقدانها لزوائد الشعر أثناء محاولتها الصعود من الحفرة كعائدة من الموت: فستانها المتّسخ، وتناول كعكة الحفل بنهم وعدم اكتراث بأي تهذيب، قبل أن يحلّ قطيع الخرفان كبديل عن مدعوي ليلة البارحة في حفلة نهارية تخلو فيها دنيا أخيرًا إلى نفسها من دون أن تكون معزولة.

كل تلك إشاراتٌ دالّة على حيوانية تمثّل درجةً قصوى من التّعاطف والغيرية، بعد ولادة جديدة إلى حياة أخرى مجرّدة من الاعتماد على المظاهر، والبحث عن مكانة اجتماعية زائفة. يذكرنا هذا بفيلم «الخرّيج» the graduate (1967) ـ من تباشير حركة «هوليوود الجديدة»ـ لمايك نيكلز مع دستين هوفمان الذي يقع في فترة ما بعد التخرج ذاتها، والاضطرابات التي تطرأ على شخصية شاب في هذه المرحلة الفاصلة من الحياة، فيمرّ من أزمة وجودية عميقة.
الاهتمامٌ بالتفاصيل ينمّ عن موهبة السماري في الكتابة، ويتجلّى اختياراته الإخراجية البادية في التّصميم الفني الذي تولته تَمارا كالو، والحرص على تكوين الصور بتناظر بديع تارة وتنافر تارة أخرى، ودقّة تقطيع تقني لا تترك أي شيء للصّدفة.

من الملفت هنا أن مدير التصوير أوليفييه توريا اضطلع أيضًا بالمونتاج مع السماري، ما يشي بانسجام اختيارات التأطير والتركيب، ما طبع الفيلم بإيقاع مضبوط وفعّال. تكاملٌ مكّن «الدنيا حفلة» من خطف جائزة أفضل فيلم قصير في المسابقة الرسمية لمهرجان صندانس، في تأكيد لموهبة المخرج الواعدة التي تعد بالكثير في تجربة فيلم طويل أوّل يُرتقب خروجه قريبًا على الشاشة الكبيرة.
اقرأ أيضا: 10 أفلام مرتقبة في مهرجان صندانس السينمائي