فاصلة

مراجعات

«الدرجة الثالثة»… تجاهُل في الواقع وعلى شاشة السينما

Reading Time: 5 minutes

بينما تتجه الثمانينيات لنهايتها، استقبلت دور العرض في مصر فيلمًا لثنائي فني مميز، لم يدم تعاونهما طويلًا، لكنه أنتج خلال نحو عقد أربعة من الأفلام المهمة في تاريخ السينما المصرية، وهما الثنائي شريف عرفة والكاتب ماهر عواد. 

لم يحقق الفيلم الذي نتناوله في هذا المقال نجاحًا يذكر في شباك التذاكر ورُفع بعد أيام قليلة من العرض، وهوجم بعنف نقديًا وقتها حتى أن بطلته الراحلة سعاد حسنى أسفت لموافقتها على بطولته، إذ كان اول إخفاق لها في شباك التذاكر بعد أن كان اسمها كافيًا لاكتساحه. الفيلم هو «الدرجة الثالثة»، وهو الفيلم الثاني في رباعية عرفة وعواد بعد «الأقزام قادمون» 1987، التجربة التي كانت مبشرة بشكل كبير بميلاد سينما جديدة، وميلاد مخرج أصبح من أهم مخرجي السينما المصرية في العقود الثلاثة الأخيرة.

وعلى الرغم من أن «الدرجة الثالثة» أعيد اكتشافه كما كثير من الأفلام التي أخفقت جماهيريًا، ورُد لها الاعتبار لاحقًا، إلا أنه لا يزال مستبعدًا حتى من العرض على شاشات الفضائيات -التي تنقب عن الأفلام غير المكتشفة لتتميز بها عند المشاهدين والمُعلنين-، في ظاهرة غير مفهومة، فأنا لم أشاهد الفيلم إلا بعد ظهور مواقع الأفلام بالإنترنت، برغم أنه من بطولة نجمين كبيرين بحجم سعاد حسني وأحمد زكي، مما طرح سؤالًا في ذهني، هل تم التعامل مع الدرجة الثالثة على أنه فيلم مشاكس للسلطة؟ أم نُظر إليه على أنه يحمل مضمونًا سياسيًا تحريضيًا رصدته عين الرقيب بارتياب؟ 

في ظل ما تشهده الساحة الفنية من تزايد في الرقابة وسياسة المنع غير المبرر دون ابداء أسباب، نتطرق لهذا العمل الفني الهام الذي قدمه المخرج شريف عرفة في بداية مشواره السينمائي، ليكشف عن أهمية الفن كوسيلة للتعبير وكأداة للطرح والنقد الاجتماعي.

الأفلام الأربعة التي جمعت شريف عرفة بالمؤلف ماهر عواد من الممكن تسميتها بالكاريكاتير السينمائي، وهي على الترتيب: «الأقزام قادمون»، «الدرجة الثالثة»، «سمع هس»، «يا مهلبية يا»، لاعتمادها على أسلوب ونكهة سينمائية متفردة لا تخطئها عين خبير أو هاوي، بداية من الحس الموسيقي الواضح، واستخدام الرمزية المطعّمة بإسقاطات سياسية بشكل مستتر أحيانًا ومكشوف أحيانًا أخرى، نهايةً بالأداء التمثيلي الزاعق الطريف. فعلى سبيل المثال، سعاد حسني أيقونة الأنوثة والجمال، تلعب هنا دور «مناعة» بائعة السمين ولحمة الراس، تتلون بأداء صارخ، غير واقعي، هزلي ومسرحي، لكنه يشبه «روح مخرجه»، فملعب الدرجة الثالثة يعتبر ملعبًا جديدًا على نوعية الأدوار التي تقدمها سعاد حسني. كما كان اختيار نادي كرة القدم نموذجًا مصغرًا ممكن من خلاله التعبير عن هموم وطبقات المجتمع ككل.

فيلم الدرجة الثالثة
فيلم الدرجة الثالثة (1988)

يرفرف علم النادي صباحًا على أرض الملعب مع إيقاع موسيقى أشبه بتحية العلم، كأنه راية لدولة، وليس مجرد شعارًا لنادي رياضي. 

العلم شكليًا يخلو من أية رموز بصرية فيما عدا لونين متراصين بالتوازي، الأحمر والأبيض، وهما اللونان اللذان يشيران لنادييّ الأهلي والزمالك، في دلالة واضحة أن اللونين جنبًا إلى جنب يمثلان المجتمع ككل، وأن ذلك النادي الوهمي هو قطعًا رمزًا لشقيّ الوطن متجانسين.

تلك الرمزية الصريحة أعطت الفيلم بُعدًا غير واقعي من اللقطة الأولى، ما هيأ المشاهد لاستقبال الفيلم كمسرحية هزلية يمكن في إطارها تقبل أي غرابة أو شطحات فانتازية بناءً على القوانين التي دشنها الفيلم لنفسه من البداية. 

ينقسم ذلك النادي الذي لا يحمل اسمًا لطبقتين لا نرى سواهما بالأحداث، «جمعية حبايب النادي» التي تمثل جماهير المقصورة، و(الدرجة الثالثة) التي تمثل طبقات الشعب الأدنى، وتدور الأحداث في فلك المناوشات المستمرة بينهما.

فيلم الدرجة الثالثة (1988)
فيلم الدرجة الثالثة (1988)

 «الكأس ليس كأسك وحدك… ده كاسنا كلنا»

تلك الجملة التي ينطق بها مذيع الراديو مناديًا على سارق الكأس مستجديًا إياه لإرجاعه، بعدما “استعار” سرور بائع الكازوزة الكأس في غفلة من الأعين بعد فوز ناديه بالمباراة، لرغبته في أن ينام الكأس في حضنه تلك الليلة، كحق شرعي له كمشجع مجذوب بناديه، وكحلم مواطنًا فقيرًا يرغب في اقتناص واحد من طموحاته المتواضعة، مع ملاحظة تمرير الكأس بين أيادي طبقات الشعب عامة، الفلاح والصعيدي والعامل ورجل الشارع العادي (حتى الراقصة قد استبدلت شمعدان الرأس بالكأس) في دلالة واضحة أنه ليس فقط كأسًا، ولكنه حقٌ في الحياة بعدالة وتكافؤ بين كل الطبقات.

وبعد أن أرضى طموحه البسيط، يتسلل سرور للنادي واضعًا الكأس في مكانه، ولكن يتم الإمساك به والزج به في الحجز بتهمة السرقة. ذلك هو الصدام الأول بين سرور وبين جمعية حبايب النادي التي يمثلها كابتن عوف المتغطرس، الذي يتحدث مع جماهير الدرجة الثالثة من شرفة عالية، ويبعث لهم فقط باقة ورود رخيصة عند خوضهم أي مناوشات تؤدي لاشتباكات مع مشجعي نادي آخر، ويصف جمهور الثالثة (بالمحتلين) عندما استعاروا قطعة من مدرجات المقصورة لمراسم زواج «سرور ومناعة»، فأصغر حقوق البسطاء ممنوعة وقابلة للاتهام والمحاكمة في عُرف «عوف» وجمعيته.

فيلم الدرجة الثالثة (1988)
فيلم الدرجة الثالثة (1988)

 «بقالنا سيف ودرع»

 جملة الرئيس السادات في خطابه بمجلس الشعب بعد نصر أكتوبر، التي يرددها أحد جماهير الدرجة الثالثة عندما يقع اختيار جمعية حبايب النادي على سرور بائع الكازوزة الساذج للانضمام لهم، حينها تتوهم الجماهير أن سرور سيكون متحدثًا باسمهم، سيفًا ودرعًا لهم، حاميًا ومدافعًا عنهم؛ ولكن اتضح أن الأمر برمته مجرد «ملعوب» من الجمعية لتوريط سرور في عدد من المشكلات لمص دماء جماهير الدرجة الثالثة، بدايةً من غلاء أسعار تذاكر المباريات، ثم شراء واقي زجاجي مضاد للرصاص لن يستفيد منه إلا جماهير المقصورة.

ثم أخيرًا الرغبة المجنونة لجمعية حبايب النادي في الإطاحة بمدرجات الدرجة الثالثة وهدمها بالكامل بالديناميت بحجة تآكلها بسبب الأملاح الزائدة.

مدرجات الدرجة الثالثة من منظور الفيلم ليست طوبًا مطليًا وحجارة اسمنتية، بل رمز لطبقة بكاملها، تُحرم بحجج مختلفة من مواطئ أقدامها ومهاجعها. الدرجة الثالثة هنا قد تكون بيوت البسطاء وأحيائهم السكنية التي تؤويهم والتي يتصادف أنها مطمع لواحد من طبقة «حبايب النادي» لحرمان البسطاء منها في الواقع.  

فيلم «الدرجة الثالثة» ملغمٌ بتلك الرموز والتلميحات التي تؤكد على متلازمة العلاقة بين (المواطن/ السلطة) وبين (الوطنية/الخيانة) وبين (الأصالة/الزيف). ففي بداية الفيلم نسمع جملة واحد من مشجعي الدرجة الثالثة يقول فيها: «اللهم هز شباكهم وشتت هجومهم واكفنا شر الحكام الأجااانب»، حتى والد سرور، الأب العجوز العالق في الماضي، والساخط على قوانين وقيم ذلك العصر، يلمّح في مشهد «ده أنا ياما فرقعت معسكرات للانجليز والديناميت لعبتي» فيتضح أنه رمزٌ للتاريخ والنضال، فيساعدهم بخبرته على إبطال مفعول الديناميت الذي وضعته جمعية حبايب النادي لتدمير مدرجات الدرجة الثالثة.

أما الموسيقى التصويرية لمودي الإمام، فتتأرجح ما بين الجدية والمرح، وتميزت في عدة مقطوعات باستخدام آلة العود التي تضفي إحساس بالبراءة والعذوبة، مما يعكس احلام تلك الطبقة، ويتبدّل العود بنقلات مفاجئة لآلات أكثر حدة كإشارة لأن تلك الطبقة المهمشة لم تعد تحتمل وها هي تصرخ وعليها أن تأخذ بحقها في الحياة بأي وسيلة مهما كانت.

فيلم الدرجة الثالثة (2024)
فيلم الدرجة الثالثة (1988)

لا أظن أن فيلم الدرجة الثالثة تعرض لمقص الرقيب وقت عرضه. ولا أتصور أنه أثار جدلًا علنيًا بخصوص تلميحاته السياسية.

ولكن مما لا شك فيه أنه تعرض للتجاهل عن عمد، بدايةً من انصراف جمهور السينما عن مشاهدته، وسحب دور العرض للنُسخ في أيام عرضه الأولى، ثم تجاهل عرضه بأي من قنوات التليفزيون المصري أو حتى الحديث عنه من قريب أو من بعيد طوال أكثر من خمسة وثلاثين عامًا.

ولكنه مثل أي عمل فني ذي قيمة حقيقية، يظهر معدنه مع الوقت ويزدهر ويأخذ مكانه بين جمهوره ومحبيه، ولن يطمس معالمه أبدًا تجاهل متعمّد.. أو مقص رقيب.

اقرأ أيضا: «أنا الاتحاد»… رشاقة سرد التاريخ بأداء باهت

شارك هذا المنشور