في تسعينيات القرن الماضي، ازداد في هوليوود إنتاج أفلام الرعب السوداء التي تدور أحداثها في الحيّ (Ghetto, Hood). أفلام مثل «كاندي مان» (1992، «Candyman»)، و«مصاص دماء في بروكلن» (1995، «Vampire in Brooklyn»)، و«حكايات من الحيّ» (1995، «Tales from the Hood») وغيرها، كانت في الغالب بميزانية صغيرة، غير طموحة، ولم تحقق أي عمق أو تأثير حقيقي. غاب إنتاج هذا النوع من الأفلام تقريباً مع نهاية التسعينيات، ولكن عادت سنة 2017، بفيلم «اخرج» («Get Out») لجوردن بيلي الذي حقق شهرة ونجاحاً كبيرين بسلسلة أفلام رعب سوداء، آخرها فيلم «كلا» (2022، «Nope»). انضمّ ريان كوغلر الآن إلى هذا الاتجاه الذي يُمكن وصفه بموجة الرعب السوداء الجديدة، بفيلمه «الخطاة» (2025، «Sinners»).
ريان كوغلر… قصة نجاح
نادراً ما كانت هناك قصص نجاح في هوليوود تضاهي المسيرة السينمائية لريان كوغلر الشاب (38 سنة). بعد إخراج فيلمه الأول المستقل، المقتبس من مأساة حقيقية، «محطة فروتفيل» (2013، «Fruitvale Station»)، بميزانية منخفضة وحصوله على الجائزة الكبرى وجائزة الجمهور في مهرجان ساندانس، وعرضه في مهرجان كان في مسابقة «نظرة ما»، وحصوله على جائزة الفيلم الأول. تمكّن المخرج من تصوير أول مشروع أحلامه، وهو فيلم «كريد» (2015، «Creed»)، المشتق من سلسلة أفلام «روكي». بعد ذلك، أتيحت له فرصة إخراج فيلم لأحد أشهر الأبطال الخارقين السود في عالم مارفل السينمائي، «النمر الأسود» («Black panther») بجزئيه، وقد حقق نجاحاً باهراً بمليارات الدولارات، وترشّح لجوائز الأوسكار. اليوم اسم كوغلر على كلّ لسان، وفيلمه الجديد «الخطاة» يحقق إيرادات كبيرة على شباك التذاكر.

قصة «الخطاة»
يعود التوأمان سموك وستاك (مايكل بي. جوردان)، من شيكاغو بعدما عملا مع آل كابوني، إلى مسقط رأسهما في مسيسيبي، لافتتاح نادٍ ليلي خارج المدينة حيث يمكن للعمال السود في حقول القطن المحلية الشرب والرقص للتخلص من رتابة عملهم. يزوران أصدقائهما القدامى واحداً تلو الآخر لمساعدتهم في الاستعداد للافتتاح الكبير المخطّط له في المساء. حشدا أهمّ فناني البلوز في المنطقة، من بينهم ابن أخيهما سامي (مايلز كيتون)، الذي يحشد بصوته المبهر طاقات من عالم آخر، إلى درجة أنه يستطيع بصوته وعزفه طبقاً للأساطير، فتح الفجوة بين الحياة والموت والماضي والمستقبل، مطلقاً تهديداً على بطلينا لم يكونا مستعدين له.
بين الرعب والغرب الأميركي وأفلام العصابات
اتخذ كوغلر خطوة جريئة في هذا الفيلم، والنتيجة عنوان يتحدى حدود الأنواع السينمائية، جامعاً بين الرعب والغرب الأميركي وأفلام العصابات والأفلام الموسيقية. تتخلله مواضيع عن المحو الثقافي والسلطة والهوية والمقاومة. «الخطاة»، قصة مأساوية تعبّر عن الجنوب العميق، متعمقة في نشأة أميركا، مضافةً إليها نكهة ثقافية موسيقية منعشة. يتناول الفيلم العبودية بطريقة كئيبة لكن رقيقة، ويزيّنه موسيقى جذابة تجمع بين غنى موسيقى الفولك الأيرلندية، والجاز، والبلوز، والسول من البداية إلى النهاية. سرد «الخطاة»، مشبّع بالتوتر، يستكشف بطريقة شاعرية وقاسية الندوب الجسدية والعاطفية لأولئك الذين عملوا في حقول القطن، ونقلوا لنا بلاغة موسيقى البلوز والجاز بإرثها وروحها، ولمسوا أشباحهم، ونشروا الهودو (Hoodoo)، وهزموا شياطينهم ومصاصي الدماء. يبدأ الفيلم أساساً كفيلم عصابات يتناول موضوعاً اجتماعياً حساساً، وينتهي كفيلم رعب دمويّ. وفي النصف يُبرز الثقافة الموسيقية وأساطير البلوز في الثقافة الشعبية («إذا عزفت موسيقى الشيطان، فسيأخذك»). توضح القصة، في جوهرها، الأثر المُدمر للاندماج مع الأقليات من خلال قيام مصاصي الدماء ببناء مجتمعهم الخاص من الضحايا المُتحولين، قاضين بذلك ليس فقط على الناس، بل على ثقافتهم (لاحظ مشهد جيش مصاصي الدماء السود يرقصون على أنغام أغنية شعبية أيرلندية)، وهناك طريقتان لمحاربة هذا القمع: بالموسيقى كأحد أشكال الفنّ، وبالعنف إذا لزم الأمر.

البيض الذين يمتصّون دماء الأقلّيات
وفرة الأفكار والطموحات هذه كان لها ثمن صغير، وهو ما يتضح جلياً في تفاوت وتيرة الفيلم في بعض الأحيان. وفي الوقت نفسه، فإن استعارة مصاصي الدماء المتمثلة في البيض الذين يمتصون دماء الأقليات واضحة وبديهية إلى درجة أنها تبدو باهتة. إن العناصر الخارقة للطبيعة التي تبرز مع التغيير المفاجئ في الفيلم تُضعف إلى حد ما تأثير صدمة الوحشية ضد السود، والوحوش اللاواعية التي تقتل ترسم صورة مُبسطة لطبيعة العنصرية. إن استغلال كليشيهات الرعب المختلفة يعيق تطور المشكلات الاجتماعية المثارة، ويُضعف الأفكار المثيرة التي بدأ فيها الفيلم مثل قبيلة الهنود الحمر التي تصطاد مصاصي الدماء، وتظهر مرة واحدة فقط، أو الزخارف التوراتية التي تظهر في البداية، مع تعاليم واعظ الكنيسة، وهجوك الثعبان الذي يركز على الوقوع في الخطيئة، لا تصاحبها نهاية مرضية.

تصوير بصري غني
مع ذلك، حقق المبدعون تصويراً غنياً بصرياً وثقافياً لدلتا المسيسيبي في نهاية ثلاثينيات القرن العشرين. نرى شخصيات، حتى في أحد أحلك أيام تلك السنوات، قادرة على إيجاد متعة الحياة، سواءً كانت الحفلات، أو الخمر، أو الموسيقى، أو الجنس، وغالباً ما تكون مزيجاً من كلّ هذه. أضف إلى ذلك التصوير الأصيل والدرامي لجامعي القطن السود وموسيقيي الشوارع وأفراد العصابات، كما نلقي نظرة خاطفة على الحياة اليومية للمهاجرين الصينيين. لحسن الحظ، نحن لا نتحدث عن فيلم يرثي معاناة السود بطريقة إباحية، بل عن قصة مفعمة بالحيوية والترفيه والفكاهة في كثير من الأحيان، مدعومة بإخراج كوغلر الأنيق، وموسيقى لودفيغ جورانسون الرائعة، التي تعتمد على الغيتار، وتستحضر أجواء أفظع أفلام مصاصي الدماء القوطية المظلمة، بينما تنقل أيضاً أجواء الفيلم بالكامل، الغارق في موسيقى البلوز. في مشهد الحفلة في منتصف الفيلم، تمزج موسيقى البلوز الكلاسيكية مع موسيقى الراب الحديثة وموسيقى الآر أند بي باحترافية، وبالتالي يقدم الفيلم ماضي وحاضر ومستقبل الموسيقى السوداء، التي تصبح أبرز ما يميز الفيلم. فيلم «الخطاة» ليس جريئاً من حيث نوعه ومواضيعه فحسب، بل يوازن أيضاً بمهارة بين نبرته الجدية والعبثية، والإثارة والرومانسية، والعنف والعاطفة.
اقرأ أيضا: «محض لقاء»… شعرية الصلات العابرة