فاصلة

مراجعات

«الحُلُم بالأُسُود»… رقصة زوربا في عصر الدعاية

Reading Time: 4 minutes

كيف تتناول قضايا ومفاهيم قاتمة وثقيلة دون أن تفقد بعض من جمهورك؟ هذا السؤال القديم قِدم الفلسفة والفن، جاهد المبدعون والفلاسفة وأهل الفن الأول «المسرح» كي يجدوا له حلاً سوى الكوميديا فلم يفلحوا، والكوميديا لم تخذلهم أبدهم، فلا تزال هي القادرة على طرح أكثر الأفكار تعقيداً بأقرب السبل إلى قلوب وعقول الجماهير، وهو ما أدركه المخرج والكاتب البرتغالي باولو مارينو بلانكو عند العمل على فيلمه «الحُلُم بالأُسُود Dreaming of lions» المعروض حاليًا ضمن فعاليات مهرجان البحر الأحمر السينمائي المقامة دورته الثالثة في جدة تحت شعار «للسينما بيت جديد». 

يصنف الفيلم البرتغالي ضمن قائمة أفلام الكوميديا السوداء، والتي تتعاطى مع قضايا وجودية وحتمية مثل الموت والمرض والتقدم في العمر، تلك القضايا والأفكار القديمة قدم الازل، ولكن في قالب معاصر تمامًا يحاول الإجابة عن سؤال: كيف يستجيب عصرنا هذا الذي تشيّأ وتُسلّع فيه كل الأفكار والمشاعر مع مسائل كالموت والمرض والاحتضار؟ 

لا شك أن سيادة الرأسمالية وقيم النيوليبرالية التي باتت تحكم العالم لا بد وأن تحضر عند حديثنا عن روح عصرنا هذا، فالبطلة جيلدا التي تعاني مرضًا عضالًا يقودها للموت ببطء، هي ببساطة لا تريد أن تعيش المعاناة والألم اللذان يفصلانا عن مصيرها المحتوم. هذه الجدلية بين المعاناة والموت ستكون حاضرة طوال الفيلم، حيث سنلحظ لفتة ذكية قدمها المخرج بطريقة رائعة أو لنقل أتقن الصنعة، بعيدًا عن جمالية الفن وتقييمه، وهو أمر لا يعنيني كثيرًا، حيث أن التقييم دائمًا يأخذ طُرقًا مختصرة كما أنه يحجب عنا رؤية الحقيقة كاملة.

ولكني في استعراضي للفيلم سأتخذ منهجًا يقترب من الظاهراتية، أي قراءة ظاهر الأشياء، ويبتعد عن حصر الوعي في مقولات منطقية أو حتى شعورية، بالمختصر هذا الفيلم ينتمي بجدارة لما أسميه «تيار الشعور»، واعتمد المخرج والكاتب فيه على رافعة الكوميديا لتقديم قضيته الكبرى، أو كما يقول: «الضحك هو وسيلتي الدفاعية لتحمل الحياة»؟ 

الحُلُم بالأُسُود
Dreaming of Lions (2024)

نلحظ منذ بداية الفيلم خروج بلانكو عن طريقة المونتاج التقليدية واللقطات المعتادة، لكن هذا ليس بالحدث الجديد نظرًا لتاريخ السينما، لكن المهم هو رانه على ما أراد إيصاله للمتفرج، ودفعه إياه إلى أن يُدرك مباشرةً أننا لا نشاهد الواقع اليومي المعتاد على الشاشة، إنما نحن نسبح ونغرق داخل وادي من المعاناة مغطى بجبالٍ من الضحك.

جيلدا تكسر الجدار الرابع منذ بداية الفيلم، وهذه الإشارة الأولى لعدم واقعية الحدث، وبعده تتوالي الإشارات حتى وإن لم تكن بنفس المباشرة، كما ما نرى عليه حبيبها الجديد الذي التقت به في منظمة «الانتقال السعيد الدولية» وهو حانوتي يجمّل الجثث، فنحن نجده يتحدث مع الأموات. هو لا يعاني مثلها من علة جسدية تجعله متعلقًا بالموت وساعيًا إليه؛ فقط نشاهد شابًا يتحدث مع الأموات، وهذه الإشارة الثانية التي يرسلها المخرج للمتفرج، فكانت النتيجة التي خرجت بها هي أن جيلدا وحبيبها لا يمكن أن نعتبرهم شخصيتين مختلفين كما أنهما ليسا من الشخصيات القائمة بذاتها، بل هما انفعالان مختلفان يعكسان قلق الإنسان من مصيره.

الحُلُم بالأُسُود
Dreaming of Lions (2024)

 ثمة جدلية صلبة يصعب تجاوزها وهي إرادة الحياة مقابل إرادة الموت. كلتاهما ليستا منفصلتين كما قد نتصور، فهما متلازمتان لدى كل إنسان. تحدث كل من فرويد ودالي ولويس بونويل عن سمةٍ عجيبة لدى الإنسان، وهي رغبته المستعرة للعودة للرحم الأمومي، إن الرحم يجسد حياة السكون والصمت الأبدي وعدم خوض معاناة الحياة وتقلباتها، ومن أجل أن نعود لا سبيل لنا غير الموت.

جيلدا وحبيبها لا يهربان من الموت، بل يهربان إليه من المعاناة والاضطرار إلى تحمل ضربات القدر. تلك هي المعادلة الصعبة للوجود البشري، وهي أنه لا يملك خيارًا غير تحمل الألم أو تطوير ما يساعده على العيش، وهنا يأتي الحل الذي يقدمه المخرج وهو حلٌ بات شائعًا في الفلسفة والأدب والفن بشكل عام منذ بداية القرن العشرين، وهو الضحك رغم الألم والمعاناة، ولا أدل على ذلك مثل ما قدمه لنا الروائي كازانتزاكس في شخصيته الأشهر زوربا.

الحُلُم بالأُسُود
Dreaming of Lions (2024)

 في المحصلة، يعد فيلم «الحُلُم بالأُسُود» فيلمًا للضحك في وجه الحياة، لترسيخ الضحك كأداة فعالة للعيش السعيد وتحمّل الألم.

ومن حيث تقنيات التصوير والاعتماد على التلاعب الزمني في المونتاج وتداخل الكادرات والشخصيات، كل ذلك يضع المتفرج مباشرةً أمام تيار شعور المخرج ذاته وهو الكاتب أيضًا. في نهاية المطاف ما رأيناه ليس العالم في ذاته، بل هو مرآة المخرج التي تعكس العالم. هل نعتبر هذه المرآة صحيحة أم لا؟ أترك إجابة هذا السؤال لكم. إلا أنني سأضع علاماتٍ على الطريق قد تساعدنا على أن نهتدي لجوابٍ، لا أقول إنه بالضرورة جواب صحيح، لكنه جواب – في نظري- مُقنِع؛ وهو أن المتأمل في الفن المعاصر من حيث الشكل والمضمون يستشف ذلك التعطش الغريب نحو الخلاص، ثمة شعور قوي بالفراغ الروحي إن جاز التعبير، هناك استلاب واغتراب وسعي حثيث نحو لقمة العيش، كما أن هناك حروب لا تهدأ.

جيلدا بطلة الفيلم المصابة بالسرطان التي تحتضر ببطء، لا تبتعد عن كونها رمزًا للحضارة التي نعيشها، فتاريخ الحضارات حتى اليوم استعمل كل الأدوات الممكنة من أجل عيشٍ سعيد، كما أن جيلدا جرّبت كل الطرق حتى تنهي حياتها. نحن المعاصرون نحمل إرث تاريخٍ طويل، جرّب واستعمل كل ممكناته ولم يبق لنا من كل وسائل المقاومة غير الضحك والرقص.

Dreaming of Lions (2024)
Dreaming of Lions (2024)

اقرأ أيضا: جوان هو و«كلب أسود» منبوذا «الحلم الصيني»

شارك هذا المنشور