لافتة هذا العام، في مهرجان كانّ السينمائي (13 – 24 مايو)، كثافة الأفلام التي تتمحور على الأمومة والأبوّة والتوارث بين الأجيال والروابط العائلية المعقّدة. شاهدنا عددًا منها عن فقدان الأم واستعادتها على الشاشة، لا بوصفها كائنًا مقدّسًا، إنما ككيان مركَّب يُحتفى به بالحبّ والعتب معًا. بعض هذه الأعمال يحاول تخليد صورة الأم، لا عبر التمجيد السطحي، بل من خلال استحضارها كتجربة حيّة كلها تناقضات. فحبُّ السينمائيين لأمهاتهم لا يبلغ أقصى صدقه إلا عندما يتخلّله شيء من العتاب، من الأسى، من محاولة الفهم بعد فوات الأوان.
ثمة إصرار على إيجاد زوايا جديدة تُروى منها قصة مَن حملونا في أرحامهن تسعة أشهر. وعدد القصص يضاهي عدد الأمهات اللواتي مررن على هذه الأرض. واختلاف الطرح يأتي انعكاساً لاختلاف البيئات الثقافية التي ينتمي إليها صنّاع هذه الأعمال، وما يحملونه معهم من قيم وتجارب. غير أنّ هذا لا يعني أنّ الثقافات المُنغلقة أو المحافظة تتجنّب الاقتراب من موضوع الأم، فهذا الانغلاق يخلق أحيانًا شحنة تعبيرية، لا سيما حين تتحوّل الشاشة إلى مساحة للبوح.
هذا هو التحدي الذي يخوضه المخرج المصري الفرنسي نمير عبد المسيح في فيلمه الوثائقي «الحياة بعد سهام»، المعروض في قسم «أسيد» ضمن مهرجان كانّ، إذ يشرع في فتح دفاتر العائلة بعد وفاة والديه، بعدما كان سبق له أن شرع في هذه الرحلة خلال حياتهما، في محاولة لفهم ماضيه وماضيهما، بدافع سينمائي وشخصي معًا.

سنتعرّف إلى الأم، سهام، التي سبقت الأب، وجيه، في الرحيل، لتترك ابنها، الذي اعتاد التوثيق من دون أن يكترث كثيرًا برغبة الآخرين أو رفضهم لذلك التوثيق، في مواجهة مهمّة أكثر حساسية: رواية قصة عائلية تتنقّل فصولها بين مصر، الأرض التي جاء منها الأبوان، وفرنسا، حيث يرقدان الآن إلى الأبد. ولكن الدافع الأعمق لهذا المشروع يظلّ وعدًا قطعه الابن لأمه قبل وفاتها، أصبح بمثابة التزام أخلاقي يتجاوز الحافز الفنّي.
بعد فيلمه السابق «العذراء والأقباط وأنا»، يعود عبد المسيح هذه المرة إلى حيّز أكثر قربًا من ذاته، في عمل صادق ينبع من الأحشاء، عمل يُضني القلب أحيانًا، مع أنه يكشف عن ارتباكات بنوية متأصّلة، وقد يدور حول نفسه في بعض اللحظات، قبل أن يصل إلى خاتمته بأنفاس متقطِّعة، تُشبه في توتّرها ختام حياة وبداية وعي جديد.
ورغم الخلل البنيوي، يُحسب لهذا الفيلم الجهد النابع من الإخلاص، والوقت الطويل الذي خُصِّص لإنجازه، إذ لا تكمن أهميته في ما يطرحه من مواضيع فحسب، إنما في قدرته على طي صفحات… ليست صفحات عادية، بل تلك التي تؤرّخ للنهايات والبدايات، بين أمٍ ترحل وطفلٍ يُولد، بين جدٍّ أصبحت حكايته من الماضي، وحفيدٍ يتطلّع إلى مستقبل مجهول.
ينسج عبد المسيح هذا كله بخفر؛ بأحاسيس مدروسة. يبدو لنا، كوالده تمامًا، باطنيًا، لا يُفصح بسهولة عمّا يعتمل داخله. ولعلّ الفيلم كان، بالنسبة إليه، وسيلة للبوح بما عجز عن قوله، لتصبح السينما مرة أخرى أداةً للعثور على الذات، وربما لمصالحتها.
يبدأ الفيلم من الرواية الرسمية، كما تُروى عادةً في العائلات، قبل أن يبدأ تدريجياً بالتنقيب خلفها، ليكتشف المخرج الخمسيني، يوماً بعد يوم، معطيات تناقض تلك السردية. سرعان ما يتّضح أن الحقيقة ليست واحدة، بل متعدّدة، تختلف بين ما روته الأم وما قاله الأب، فتتّخذ معها طابعاً شائكاً.

يجمع الفيلم بين أزمنة وأمكنة متعدّدة، وينسج مادته من خليط بصري يتنوّع بين أرشيف شخصي، لقطات معاصرة، و«هوم فيديو» عائلي، ليشكل ما يُشبه كولاجًا بصريًا ووجدانيًا. ولعلّ الأجمل من ذلك، هو الحوار الخفي الذي يجريه الفيلم مع السينما المصرية، التي تُستَحضَر كظلّ فني وروحي، في تداخل ذكي بين الواقع والمتخيّل، وذلك سيُعزز من آفاقه السينمائية.
هذا كله يفضي إلى فسيفساء موضوعها الذاكرة والهجرة والإصرار على الحياة بكرامة. كما يفتح الباب واسعاً للنقاش حول مفهوم الوطن، لا ككيان جغرافي، بل كأثر، كصدى، في وجدان أولئك العرب والأفارقة الذين صاروا جزءًا من النسيج الاجتماعي الأوروبي، فيما اقتصر دور أهاليهم في الوطن الأصلي على ذاكرة تُروى للأبناء لا أكثر.
على هذا المستوى، يلامس «الحياة بعد سهام» نقاطًا شديدة الأهمية، لكنه لا ينغمس فيها كما كان ينبغي. يبقى الأثر، ويبقى الحسّ، لكن ربما ليس بما يكفي ليُحدث نقاشًا. يحصر عبد المسيح عمله بإطار الاهتزاز الخفيف في الوعي.
اقرأ ايضا: «القضية 137»… الجريمة وعدم العقاب