فاصلة

مقالات

الجميع قلق على خسارة كوبولا لأمواله إلا هو!

Reading Time: 5 minutes

فرنسيس فورد كوبولا على كلّ لسان هذا العام في مهرجان كانّ السينمائي (14 – 25 أيار). «هل شاهدتَ ميغالوبوليس؟». هذا أحد أكثر الأسئلة التي طرحها الصحافيون والنقّاد بعضهم على بعض في أروقة القصر وداخل الصالات وهم ينتظرون العروض. كُتب الكثير عن فيلمه مدحاً وانتقاداً، لكن الكلمة الفصل في السباق على «السعفة الذهبية» عند لجنة التحكيم. كعادته، استطاع واحد من آخر معلّمي «هوليوود الجديدة» إيقاظ الجدال وتحريك المياه الراكدة. بنزعته التجريبية بالفطرة، بدا أكثر السينمائيين شباباً، رغم أنه أكبرهم سنّاً داخل المسابقة. هذا ما لا يمكن أن ينكره حتى أشد أعداء فيلمه.

«جئتُ مع جيش من الأطفال»، قال وهو يدخل قاعة المؤتمرات في قصر المهرجان، مسنوداً بحفيدته. ثمة صورة قديمة له، يوم فاز بـ«السعفة» عن «القيامة الآن»، يضع فيها ابنته صوفيا (آنذاك في الثامنة) على ظهره. اليوم، ترافقه حفيدته. شهد كانّ ثلاثة أجيال من آل كوبولا، ويمكن القول إنّ السينما هَمٌ عائلي عند هؤلاء؛ لوثة لم يفلت منها ابنه رومان ولا ابنته صوفيا، ولا حتى زوجته إيلينور الراحلة قبل أسابيع، تاركةً فراغاً في حياة صاحب “واحد من القلب”. لكن، FFC ليس أول الفنّانين في العائلة الكريمة، بل هو ابن موسيقي (كارمين كوبولا) وحفيد موسيقي (فرانتشيسكو بينّينو) أيضاً. 

كوبولا

 الرجل الثمانيني يمشي اليوم بعكازات، مثقلاً تحت وطأة السنوات التي يحملها فوق روحه، لكن أفكاره تسير دربها المعتاد دونما تعكيز. ثمة دائماً شيء لم أعتده حتى بعد 25 عاماً من العمل الصحافي، وهو لقاء بعض القامات الكبيرة وجهاً لوجه، من الذين تربيتُ على أفلامهم. يُضاف إلى ذلك، في حالة كوبولا، هذا الشيء الأبوي. لعلَّ لأصوله الإيطالية الجنوبية دوراً في تكريس هذا الإحساس.

في كانّ، ألحَّ كوبولا على الكلام والتواصل مع الآخرين. صحيح أننا نقسو على بعضهم عندما لا يعجبنا أحدث أعماله، لكن هذا يجب ألا يجعلنا نصرف النظر عمّا يعتمل في داخل الفنّان. لحظة كشفه عمله الجديد أمام الجمهور للمرة الأولى، هي لحظة يكون فيها في أعلى درجات الهشاشة. فكيف برجل أمضى عقوداً يخطط لما قيل إنه «مشروع العمر». هذا الظمأ للكلام لمسته عنده في لقائه مع الصحافة. تمنّى على الحاضرين أن يطرحوا عليه مزيداً من الأسئلة حتى بعد انتهاء فترة الحصّة، قائلاً غير مرة إنّ الفيلم ثمرة عمل جماعي، لا من باب المجاملة بل لإيمانه العميق بذلك. وعندما شارف المؤتمر على النهاية، وقال الجميع تقريباً كلمة باستثناء أخته تاليا، تمنّى على أحدهم التوجُّه إليها بسؤال، فتحدّثت عن تشجيع شقيقها الناس على المجازفة والمضي قدماً، ثم أضافت نبذة شخصية من سيرته: «كان رؤيوياً منذ سنّ التاسعة. في ذلك العمر، أصيب بالبوليو ولم يقوَ على المشي. هذا المرض منع المصابين به من السير، لكن فرنسيس قرر أن يمشي. كان هذا فعل شجاعة». 

كوبولا

عرض الفيلم في كانّ سبَّب لكوبولا مزيجاً من الارتياح والبهجة. اعترف بذلك بلسانه: «ليت ثمة كلمة واحدة لوصف مزيج هذين الشعورين… بعد كلّ هذه السنوات من فكرة واكبَتني، بنيتها على مراحل. أحياناً كنت أتخلّى عن المشروع ثم أعود فأتمسّك به. قبل سنوات، عندما أعلنتُ أنني أنوي إنجاز ملحمة رومانية تجري أحداثها في أميركا، سألني البعض: لماذا؟ كان جوابي: ببساطة لأنّ أميركا تأسّست على فكرة الجمهورية الرومانية. حتى إنّ تخطيطنا للمدن جاء على شاكلة روما القديمة، مثل مبنى محطة بنسيلفانيا الذي دُمِّر، يا للأسف. عندما خطر لي هذا الفيلم، لم أمتلك أدنى فكرة عن أنّ السياسات الحالية ستجعله ذا قيمة أكبر. فما يحدث الآن في ديموقراطيتنا هو بالضبط ما حدث في روما وأدّى إلى انهيارها قبل قرون. سياسيونا أخذونا إلى نقطة سنخسر فيها جمهوريتنا. ولكن، الرد عليهم لا يكون بدعم سياسيين آخرين، بل يجب أن يأتي من فنّاني أميركا. وظيفة الفن هي الإضاءة على حياتنا العصرية. الفنّ الذي لا يضيء على الحياة مثل الهمبرغر الذي تأكله ولا يحمل قيمة غذائية. حلمي أن يضطلع الفنّانون في أميركا بهذا الدور لعلّهم يسمحون للناس أن يشهدوا على ما يحدث. أنت المواطن لا تستطيع أن تفعل شيئاً إذا لم ترَ ما يحدث. العالم اليوم تهيمن عليه نزعة فاشية، وهذا مرعب. أي شخص عاش الحرب العالمية الثانية وشهد على الفظائع، لا يرغب في تكرار تجربتها». 

 غداة العرض، جرت استضافة كوبولا في التلفزيون الفرنسي، وعندما سُئِل عن النقد السلبي في حقّ فيلمه، قال: «عندما تأكل رقائق البطاطس المقرمشة، هل تعلم أنّ الناس أنفقوا ملايين الدولارات على محتوى الملح والسكر؟ ليس لتكون الرقائق جيدة، لا، ولكن لتستمر في تناول المزيد. كذلك، عندما تأكل برغر من «ماكدونالدز». ينفقون كثيراً من المال، ليس لتحصل على شيء جيد من الناحية الغذائية، ولكن لتحصل على مذاق مألوف. وهذا ينسحب على الأفلام. عندما تذهب لمشاهدة فيلم، اعلم أنه جرى إنفاق ملايين الدولارات على تلقينك كيفية المشاهدة. من الدقيقة الأولى، عليك أن ترى البطل. في الدقيقة الثانية، عليك أن ترى الشرير. الفكرة هي استهلاك الفيلم. يريدوننا مستهلكين لا مشاهدين. هذا لمصلحتهم. لذلك، إذا أتيتَ بعمل لا يتوافق مع هذه الصيغة، فسيقول الناس إنه ليس جيداً. لأنهم يتوقّعون ما جرى تلقينهم. عليك التفكير بنفسك. الإعلانات اليوم موجودة لتعريفك كشخص. في الماضي، عندما كنتَ صانع فخّار، فهذا ما عُرفتَ به. اليوم أنت معروف بما تستهلكه. كلّ هذا للتحكّم بنا بشكل أفضل».

كوبولا

 بعدما تردد أنه لم يجد موزّعاً في أميركا، أُعلن في كانّ أنّ الفيلم سيُعرض في جميع أنحاء العالم داخل صالات مجهّزة بتقنية الـ«أيماكس». الخروج في الصالات لملحمة مماثلة يجب ألا يكون ترفاً، بل ضرورة. أناييس بورداج كتبت في موقع «سلات» تقول: «الفيلم يوفّر لحظات لا تُنسى تؤكد على ضرورة الاستمرار بمشاهدة الفيلم السينمائي في المكان المخصص له». كوبولا لن يخالف هذا الكلام، لا بل عندما يُسأل عن منصّات العرض التدفّقي، بديلاً للصالات، يردّ: «هل تقصد ما كان يُعرف سابقاً بالهوم فيديو؟ لا أعرف مَن اخترع عبارة عرض تدفّقي، كان اسمه سابقاً فيديو ودي في دي. أشاهد الأفلام وأنا جالس في مسرح كبير مع 800 شخص وأتماهى وإياهم. هذه هي تجربة المشاهدة. أخشى أن تصبح صناعة السينما مجرّد تسديد ديون، ولا يعود الغرض منها هو إنجاز أفلام جيدة. لكن، قد لا تصمد الاستوديوات الكبيرة، وبعضها عظيم، أمام آبل بلاس وأمازون اللتين تملكان كثيراً من المال».  

 على سيرة المال؛ فإنّ أحد الأشياء التي تكرر الحديث عنها في شأن «ميغالوبوليس»، هو أنّ كوبولا باع جزءاً من ممتلكاته ليستثمر فيه بمبلغ 120 مليون دولار. ثمة مَن ذكر رقماً أكبر من هذا. لكن، يبدو أنّ الجميع قلق من خسارته المحتلمة، إلا هو: «لا يهمّني إذا خسرتُ. لم أهتم للمال يوماً. عام 2008، وفي عز الأزمة المالية، استلفتُ 20 مليون دولار لأفتتح كروم النبيذ. جازفتُ، ثم استثمرتُ أموال تلك المجازفة في مجازفة جديدة. لا مشكلة لدي على المستوى المالي. ثم إنّ ولديّ، صوفيا ورومان، ناجحان ولا يحتاجان لثروتي. لذلك، لن تؤثّر النتيجة عليّ. المال لا قيمة له، الأهم هم الأصدقاء. المال يتبخّر، الصديق يبقى».

 كون «ميغالوبوليس» يتحدّث عن الزمن – من جملة ما يتحدّث عنه – أراد أحدهم معرفة ما إذا كان مفهوم الزمن تغيَّر عند كوبولا على مرّ السنوات. الجواب بالأحرى عند الممثّل لورانس فيشبرن، الذي يضطلع بدور في الفيلم: «فرنسيس وأنا نعمل معاً منذ عام 1976، وكنت آنذاك في الرابعة عشرة. أعرف رومان منذ الطفولة؛ كبرنا معاً. ما أحببته دائماً عند فرنسيس هو حديثه عن قدرته على إيقاف الزمن، حتى قبل هذا الفيلم. كان يقول: بإمكاني إيقاف الزمن، وسأريك كيف».

لعلَّ محاولة إيقاف الزمن أحد المشاريع الذي سيشغل كوبولا في السنوات المقبلة، إذ أعلن في كانّ بأنه قد يعود إلى المهرجان بعد 20 عاماً، أي عندما يكون قد تجاوز المئة بخمس سنوات! هذا الزمن الذي يحلو لي الاستماع إليه وهو يتحدّث عنه: «كلّ فنّان يتحكّم بالزمن. الرسّامون يجمّدونه. الراقصون يستخدمونه للتحرّك في الفضاء. أما غوته فقال: الهندسة موسيقى مجمّدة. الفنّ هو محض تحكّم بالزمن».

اقرأ أيضا: «لقاء مع بول بوت»: عن الحقيقة في بلاد القتل الجماعي

شارك هذا المنشور