فاصلة

مراجعات

«الثلث الخالي»… من يملك السلطة؟ المال أم الصحراء؟

Reading Time: 6 minutes

نحن في المغرب، في الجزء الجنوبي الذي يحكمه جفاف الصحراء. لا يوجد تحديد واضح لبقعة بعينها رغبة في التجريد. هناك حيث مهدي وحميد، الصديقين اللذين يعملان في واحدة من وكالات تحصيل القروض الشعبية، مستخدمين سيارة حميد القديمة – التي يقصون سقفها تارة، وتارة يعيدونه- متقاسمين الغرف المزدوجة في الفنادق البائسة.

الرحلات التي يخوضانها تشكل خارطة الفيلم المغربي «الثلث الخالي» للمخرج فوزي بن السعيدي المعروض ضمن برنامج «الفرانكو- أراب سينما» أو السينما الفرنسية العربية المشتركة، أحد فعاليات الدورة الخامسة لمهرجان عمان الدولي (أول فيلم) الذي أقيم في الفترة بين 3 إلى 11 يوليو الجاري.

لهذا البرنامج، اختار المعهد الفرنسي المسؤول عن شاشة البرنامج ثلاثة أفلام طويلة من أبرز تجارب سينما الإنتاج العربي الفرنسي المشترك، وهي: التونسي بنات ألفة لكوثر بن هنية والجزائري ما فوق الضريح وثالثهم، الفيلم المغربي «الثلث الخالي» لفوزي بن السعيدي.

الثلث الخالي

 أي ثلث خالي؟

في رحلة مهدي وحميد، لا يحدد الفيلم أسماء القرى، ولا اتجاهات السيارة، كأننا نتحرك في فضاء لا نهائي، لا يسكنه سوى الاتساع والتلال العالية والفقر المدقع والبيوت الطينية التي يقيم فيها أنصاف أحياء.

يمنح التجريد مساحة طيبة لتعدد المجازات، المجاز الأول والأقرب للذهن هو البلد نفسها، أو المجتمع. هذا القفر والفقر والفاقة لا يقيمون حصريًا هنا، بل يمتدون ليجثموا على المجتمع باتساعه، حتى أن المشاهد يتساءل أين تذهب أموال القروض إذن التي يحصل عليها السكان على اختلاف المهن الدونية التي يمارسونها؟ حتى التجار منهم لم يعد لديهم زبائن يشترون – كما نرى في مشهد صاحب البقالة الذي يتأكد من صلاحية المشروبات قبل أن يرشو المحصلين بها لأن احدا لم يعد يشتري منه شيئا منذ وقت طويل.

الثلث الخالي

الثلث الخالي إذن ليس هو المكان، ولكن كل ما يعبر عنه ذلك المكان اجتماعيًا واقتصاديًا وإنسانيًا. وفي مقابل السلطة الممنوحة للمحصلين من قبل الشركة – بعد أن توبخهم مديرتها على أنهم أقل من كل زملائهم أصحاب البدلات الملونة تحصيلًا للأقساط- ثمة سلطة أخرى أكبر هيمنة وأوسع مجالًا؛ هي سلطة الصحراء. ليس فقط من زاوية المسافات الشاسعة أو الاتجاهات المبهمة البعيدة، ولكن لأن السكان أنفسهم يحتمون بها ويلجأون إليها ملاذًا أخيرًا في فرارهم المستمر من مطاردات الدائنين وممثليهم من محصلي الأقساط، بل والحياة نفسها على حد سواء – كما نرى في مشهد تسلل واحدة من العائلات المُطالبة بالأقساط عبر سلم خشبي من الجدار الخلفي للبيت الواقع في مربع صحراوي كأنما هو أثر من حضارة قديمة-.

الثلث الخالي

 سؤال السلطة

  يبدو ثمة سؤال ملح في سياق نمو الأحداث باتجاهات غير متوقعة مع حركة المحصلين المستمرة من أجل تحقيق هدف الشركة: من يملك السلطة في هذا الخلاء؟ أو من يملك السلطة في المجتمع؟… من يملك السلطة عمومًا؟

 في مجموعة مشاهد طريفة نرى واحدًا من الشابين المحصلين؛ حميد، بعد أن نزع سقف سيارته وحولها إلى كابروليه، لكي يبهر بها خطيبته التي يفترض أن يقضي معها يوم إجازته. لكن حماته المتسلطة التي لا تكف عن شتم زوجها؛ تركب معهما السيارة لقضاء بعض مشاويرها الخاصة التي تلتهم اليوم بالطبع، وتلتهم وقت الخطيبين!

وفي مشهد آخر، نرى المديرة المتسلطة وهي توبخ المحصلين على قلة الأقساط التي يجمعانها- رغم أننا نشاهدهما من البداية يمارسان أكثر من نوع ضغط سخيف على المقترضين بلا قلب ولا رحمة، حتى أنهما ينتزعان سجادة من رجل فقير لا يملك غيرها لينام عليها أطفاله على الرغم من توسلاته.

ثم عندما يصلان واحدة من القرى ليلًا ويتورطان في مصالحة أحد الرجال السكارى على امرأته، نجد المرأة في غاية القوة والتحكم – مرتدية ملابس أقرب لثياب الرجال؛ تسبهما وتطردهما ثم تكسر زجاجة خمر على رأس زوجها الضخم الذي لا يملك سوى أن ينصاع لتوبيخها رغم كتلته الهائلة التي يمكن أن تبطش بها.

هؤلاء النساء الثلاث نماذج سلطوية لا تخفي تكريسها للسؤال الذي يؤرق بن السعيدي في الكثير من أفلامه!

الثلث الخالي

ولو مددنا الخط على استقامته فسوف نجد سؤال السلطة مستمر مع تطور الحكاية بصورة يصفها المخرج في حديثه عن الفيلم بأنها أقرب للويسترن، أو أفلام الغرب الأمريكي، في حين أنها تملك من رائحة الخيال الشرقي – بلياليه الألف- حضورًا نافذًا ومهيمنًا؛ خاصة عندما يسلب أحد المجرمين الهاربين المحصلين سيارتهما، ثم يتبين أنه ليس مجرمًا بالفعل؛ لكنه عاشق مسلوب، سلبه أحد زعماء الجريمة حبيبته محتجزًا إياها، بينما تقضي هي لياليها الطويلة في انتظار عودة حبيبها الذي أُخذت منه عنوة وهي تغزل السجاد اليدوي على النول شبه السحري الذي تضعه فوق مطلة جبلية عالية، كأنما تجلب النسيج من خيوط الشمس وضوء الرياح.

 السجادة السحرية

تبدو السجادة واحدة من الموتيفات/ العناصر السحرية داخل سياق السرد الذي يبنيه سعيدي بأسلوب المنعطفات.

كما أشرنا؛ في البداية نرى المحصلين ينزعان سجادة من بيت أحد الفلاحين الفقراء في مقابل جزء من قسط القرض الذي لا يملك تسديده، ثم نرى حميد وهو يتلحف بها وقت أن هطل عليه وزميله المطر بينما كان قد نزع سقف السيارة بالفعل، ثم نراهما يتدثران بها بعد سرقة سيارتهما على يد العاشق الراغب في استعادة حبيبته صانعة السجاد، ثم نرى النول نفسه وقد اشتعل بنار الغيرة بعد أن تأكد زعيم العصابة أن زوجته/ أسيرته هربت مع حبيبها! 

هكذا تبدو السجادة أقرب لخيط سحري خفي يربط عناصر القصة شبه المتشظية. ففي الظاهر لدينا قصتين أو خطين، الخط الأول هو حركة المحصلين بين بيوت المقترضين، والتي كان من الممكن أن تستمر إلى ما لا نهاية مستعرضة الحال الاجتماعي والنفسي والمادي لشعب الثلث الخالي بكامل مجازاته. أما الخط الثاني فهو عندما يتوقفان في واحدة من القرى ويتورطان في تسليم متهم للشرطة فيسرق منهما سيارتهما، ويجدان نفسيهما تائهين في مملكة الصحراء، يتأملان حالهما الخائب ويتساءلان عن مغزى ما يفعلانه، فتارة ينضمان إلى مجموعة من المهاجرين غير الشرعيين الذين يعبرون الصحراء هربًا من سلطات القمع والفقر، وتارة يصعدان الجبل لكي يبحثا عن سيارتهما التي يجوب بها العاشق الصحراء هربًا من الوحش الذي يطارده بعد أن استرد منه حبيبته.

بالمناسبة الحبيبة المسلوبة الهاربة هي نفسها الأخت التوأم للزوجة المتسلطة التي تضرب زوجها السكير.

ألم نقل إنها مغامرة من ليالي ألف ليلة؟! السجاد السحري والأميرة التوأم المنتزعة من الحبيب المغدور والوحش التي يحتجزها والعابرون إلى الحكاية في قصد آخر لكنهم يتورطون عن جهل أو غباء أو قدر! كل هذا يمنحنا لمسة تراثية فوق واقعية تتجاوز شكلية الويسترن الحداثي واستبدال الخيول بالسيارات.

الثلث الخالي

 الكاميرا الثابتة!

 في الصحراء يسحبك الصمت للتأمل، لاحترام سلطة السكون، والبوح بالكامن دون صوت يخدش الهواء. في الصحراء، تبدو البيوت الطينية كأنها تملك أعمارًا من ألف سنة، وقت أن شيدتها الحضارات الأولى حين اكتشفت بهاء الارتفاع عبر الحوائط والأسقف، وفي الثلث الخالي يبدو بن السعيدي مستجيبًا للصمت المفعم بالحركة الداخلية. الكاميرا ثابتة كعادته، متأمله، لديها سلطة منح الوقت للمشاهد لأكثر من مستوى (أن يرى وأن يعرف وأن يفكر)، ثلاثة مستويات مشعبة من الصورة وبالصورة، ورغم أن الأحداث تبدو موترة، والقلق شديد، وثمة سرقة وهروب وهرب ومطاردة وإطلاق رصاص ونيران تشعل مغزلًا سحريًا، إلا أن هذا التوتر ينتقل عبر شحنة الصورة وليس عبر حركة الكاميرا.

يضع فوزي كاميراه ثابته من أجل أن يعتصر كل ما في الصورة من تفاصيل تمثل سرديته الأساسية، يبدو مولعا باللقطات الواسعة التي تبجل الصحراء وتمنحها سلطتها الواقعية والمجازية، تذكرنا اللقطات العلوية من فوق الجبل للسيارة الصغيرة التي تحدث غبارًا خفيفًا بافتتاحية كوبريك في «إشراق» The shining حيث السيارة البيتلز/ الخنفساء الحشرية التي تتلوى وسط كنوز الخضرة باتجاه الفندق الملعون.

يسلب فوزي السيارة وراكبيها من سلطتهم، قبل حتى أن تُسلب منهم، حين يراها راكباها الأصليان قطعة صفيح تافهة في متانة الاتساع الرملي الكامل. ساعتها يبدو لصمتهما وتأملهما صوت يدق في رأس المشاهد، كم هي تافهة مهنتهما، ليس لأنها تسلب المحتاجين ما لا يملكونه، ولكن لأن العالم حاول أن يمنح المال السلطة على الصحراء فهزمته وضيعت أثره المادي وبقي الفقر والفاقة اللذان يحتاجان إلى ما هو أكثر من مال لكي يزول أثرهما من فوق أجساد ونفوس ساكنيها.. يحتاجان إلى الرحمة والعدل.

هذا فيلم عن غياب عنصرين كريمين عن الوجود الإنساني في تلك البقعة، التي يتسع مجازها ربما ليشمل بتجريده الدنيا كلها. في غياب الرحمة وخفوت العدل يمكن أن يحدث أي شيء. وما نظنه عبثًا يصبح هو الواقع بذاته وهيئته، وهو ما يمكن أن يدفعنا إلى العودة لقراءة كل المشاهد الطريفة التي تبدو دربًا من تخفيف الصراع، أو حيلة لإضفاء بهجة سوداء تكسر من حرارة الرمل الساخن، مثل مشهد تعطل السيارة عن المضي بسبب ضخامة الزوج السكير الراغب في الهرب من ضرب زوجته وحقيبته الثقيلة. لكن حين ندرك أن المسألة تخص التقييم الوجودي لحياة لم تعد تشبه الحياة، ساعتها يصبح لكل هذا العبث وتلك الألعاب مغزى حاد أكثر قسوة حتى من صلب الحبكة نفسها وخشونة الأحداث والتفاصيل.

اقرأ أيضا: «الغريب»… الوطن هو ألا يحدث ذلك كله

شارك هذا المنشور