فاصلة

مراجعات

«التهام راؤول»… جوهرة كوميدية نسيها الزمن

Reading Time: 4 minutes

تتمتع الكوميديا بصلاحيّات لا تتوفر لأي نوعيّة فيلميّة أخرى، أهمها؛ قُدرتها على التعاطي مع كُل الطبقات والأفكار في المجتمع وتعرية تلك المكونات جميعها وإخضاعها للسخرية والابتذال أحيانًا لتتحول إلى نقد اجتماعي يتخفى وراء، فمرونة الكوميديا وطبيعتها الساخرة والكاريكاتورية تُحفف من ضرورة الالتزام بأي معايير تقليدية أو قوانين سائدة، مستعينة بخصوصيتها النابعة من كونها – إلى حد بعيد- لا تؤخذ على محمل الجد، ما يمنحها رُخصة الإشارة إلى مناطق رُبما ليست جديدة، ولكن بمنظور مختلف، كما حدث مع المُخرج والممثل “بول بارتيل” في تحفته “التهام راؤول” Eating Raoul – 1982، الذي أصدره “كتالوج الكرايتريون” The Criterion Collection عام 2012 وأعاده إلى ذاكرة الجمهور.

 الحقيقة أن الفيلم لم يكن من بين الأفلام التي تحتفظ بها ذاكرة الجمهور، فهو – بشكل ظالم- يصنف من أفلام الدرجة الثانية، لنمطه الإنتاجي ولطبيعة عمل مخرجه ممثلًا في كثير من أفلام الدرجة الثانية B – Movies، لذا لم يحصل على فرصة حقيقية في التوزيع أو المشاهدة، وتحول مع الأيام إلى جوهرة ثمينة ومخفية، ورُبما حان الوقت لإعادة اكتشافها باعتباره واحدًا من أفضل أفلام الكوميديا السوداء الأمريكية، والحقيقة أن تصنيفه كوميديا سوداء يبدو مخلًا في بعض المواضع، فهو يتجاوز التصنيف، بيد أنه يقدم نوعًا مختلف قليلًا من الكوميديًا، نوع يُخفي داخله نوعًا من الشراسة من السهل التنبه لها من السياق العام للقصة والحبكة، ولكن ببرودة مطلقة، فهو ليس من أفلام الكوميديا عالية الحرارة؛ رغم وجود الجنس كعُنصر أساسي، ولكن بارتيل يأخذ تيماته الساخنة إلى منطقة أخرى، يروّضها ويستحوذ عليها داخل إطار أشد برودة في ظواهره الحسية.

التهام راؤول

يفتتح بارتل فيلمه بصوت يمنح المتفرج بعض التفاصيل العامة عن الواقع الاجتماعي للمكان، إلى جانب تسلسل بصري لشوارع هوليوود بكاليفورنيا، يرصُد المخرج طبيعة هوليوود الاستهلاكية، ويوضح انتشار العُنف والرذائل، إلى جانب الجوع الكامن داخل أبناء المدينة للجنس الذي ينعكس على كُل أوجه الحياة، إلى درجة انحلال الحد الفاصل بين الطعام والجنس، فهو مجتمع رأسمالي استهلاكي يقوم على الإشباع اللحظي للغرائز. ولكن هذه السمات الاجتماعية لا تنطبق بشكل مباشر على بول بلاند (المخرج بول بارتل) وزوجته ماري بلاند (ماري وارنوف)، حيث أنهما يبدوان مثاليان في عالم ماجن بطريقة مثيرة للسخرية، الأمر بينهما رُبما يتبدى كحب أفلاطوني، ولكنه في الحقيقة ليس كذلك بالضبط، أو كما وصفته الزوجة ماري بعد أن مارست الجنس مع راؤول (روبرت بلتران) “زواجنا مبني على شيء أهم من الجنس، مثل الصداقة والأمان”.

التهام راؤول

يتحرك بارتل من الانتكاسة المادية لشخصياته كمدخل لنقد أوهام الحلم الأمريكي، ويبني كُل وقائعه بطريقة ساخرة وكاريكاتورية، فبعد أن خسر بول وظيفته في متجر لبيع الكحوليات لأنه طلب صندوق من الكحوليات الفاخرة التي لا يمكن بيعها في متجر يخدم طبقة فقيرة، ويحتفظ في منزله بمجموعة نادرة من زجاجات النبيذ؛ فقد عمله بسبب ذوقه الانتقائي في الكحول، وبينما يجادله صاحب المحل، يدخل رجُل عصابات أسود ويهددهم بمسدس، فيخرج صاحب المحل مسدس أكبر منه ويقتله في لحظتها، يؤسس ذلك الموقف لحالة من التناقض، ويتعاطى معها كتيمة جوهرية تخلق نزعة السخرية المطلوبة، ولكنه في الحقيقة يعمل على حبكة أكثر تعقيدًا في إطارها العام.

على الناحية الأخرى، تعمل الزوجة ماري كممرضة تتعرض لمضايقات الرجال الذين يرغبون في التهام جسدها بشكل مُباشر من دون مقدمات واضحة، سُعار جنسي حقيقي لا يتبدى على الشاشة بفجاجة، بل يتمظهر في قوالب ساخرة.

يسعى الزوجان إلى الخروج من المدينة إلى الهوامش، وشراء منزل يصلح كمطعم خاص، يقدمان فيه النبيذ الفاخر وبعض المأكولات ويعيشان في سلام بعيدًا عن العمارة الخرسانية الحافلة بالحفلات الجنسية، إنهما دائمًا في مرمى الجنس، ليدخل عليهم في مرة أحد مُريدي الحفلات الماجنة، يريد أن يمارس الجنس مع ماري، فبالنسبة لمُريدي تلك الحفلات ــ حسب تصور بول في الفيلم ــ كُل الأبواب تؤدي إلى جسد امرأة قابل للمضاجعة؛ فيقتله بول دون قصد بمِقلاة المطبخ، ويندهشان من محفظته المكتظة بالأموال، فيقرران أن يلعبا لُعبة لا يحبذانها، أن يتحولا إلى ثنائي يقدم خدمات جنسية، فيستدرجان الضحية الماجنة، ويقتلانها بالمِقلاة، ثم يلقيان بالجسد الميت في القمامة، ومن هُنا يتحولان إلى عصابة، قاتلان متسلسلان، سلاحهما جمال ماري الغريب، والمِقلاة وأكياس القمامة، حتى يُلاقيان راؤول، فتى لاتيني يعرف خطتهما، ويعرض عليهما التعاون في التخلص من الجثث، ليبدأ الثلاثي عملهم.

المثير للسخرية هُنا أن كُل الأشياء تحدث بمرونة وسهولة تامة، لا توجد مفاجآت كثيرة أو عراقيل تعطل عمل الثلاثي، إضافة إلى كون الفيلم يحافظ بشكل واضح على الحد الأدنى من العُنف، فتعاطيه مع الجسد يأخذ نمطًا مختلفًا عن أفلام الدرجة الثانية، فالمعروف أن الجسد هو مركز الأحداث، الجسد في أكثر أشكاله صدامية وإغراء. ولكن الجسد هُنا لا يحتفي به، بل هناك مسافة بين الحبكة والجسد كأداة مركزية، فهو لا يبغي التركيز على الجسد أو رصد فرادته، بل الجسد هو مجرد شيء شائع ومن هُنا تقل أهميته، حتى محاولة ترويج المُنتج الإبداعي كفيلم آكلي لحوم بشر سيكون غير دقيق، لأن المخرج يجرد الفيلم من العُنف على الرغم من كثرة جرائم القتل، ولكن طابعها الكاريكاتوري والمفارقة التي تنطلق من استخدام الثنائي للرذيلة التي يحتقرانها أداة لتحقيق المبتغى وجمع المال، هي مُفارقة تكشف عن النفاق الاجتماعي للطبقة الوسطى، ووهم الحُلم الأمريكي الفارغ من المعنى، فكُل ما يحدث في الفيلم هو محاولة الثنائي للتسلق الاجتماعي والترقي الطبقي، هذا يأتي على حساب كل شيء، وفي سياق بارد للغاية، والفكرة أن المفارقات والمواقف الساخرة، تحمل صراحة فجة، وتعرّي الواقع.

في أحد مشاهد النهاية، يذهب الثنائي إلى حفلة جنسية، حيث يخلع الجميع ملابسه وينزل في مسبح تدفئة، فيلقي عليهم بول أحد المصابيح الكهربائية فيقتلهم جميعًا، ولكننا لا نشعر بأي تعاطف، رُبما ينتزع بعض الضحكات منا، ولكننا لا نمنح الموقف الجدية المصاحبة لفعل القتل، ولكن في الحقيقة أن بول وماري لا يختلفان كثيرًا عن الأشخاص الذين يقتلونهم، فالدرع الأخلاقي أو الرقي الكاذب لا يفلح في الدفاع عنهما، كنتاج لمنظومة فاسدة، ونموذج للمواطن الأمريكي المُبطن بالعُنف حتى في أكثر أشكاله برودة، ففي مشهد النهاية، يقتل الثنائي شريكهما راؤول ويطبخانه ويقدمانه طعامًا لضيفهما، الذي يعجب جدًا بالطعام الشهي، وهذا المشهد الختامي له إحالات كثيرة جدًا، ويمكن تفسيره في أطر مختلفة، ولكنه بالطبع يحمل في داخله مجازات الشراهة والعُنف والوصولية التي تُصاحب نزعة التسلق المتأصلة لدى بول وماري.

اقرأ أيضا: سينما الكوميديا.. زيارة نقدية

شارك هذا المنشور