فاصلة

مراجعات

البرتقالة الآلية A Clockwork orange.. سريالية العنف: من المنع إلى المجد

Reading Time: 4 minutes

حرية الإنسان لا تكمن في أنه يستطيع أن يفعل ما يشاء، بل في أنه لا يُجبر على فعل ما لا يريد – ميخائيل باكونين

عندما نغوص في عالم فيلم «برتقالة آلية A Clockwork Orange»، نجد أنفسنا أمام مشهد سريالي تتشابك فيه الفوضى مع النظام، والعنف مع الأخلاق، والحرية مع الإكراه. فيلم أثار الذعر عند صدوره ووصل تأثيره المفزع حد منعه من العرض في بعض الدول. لم يكن «برتقالة آلية» مجرد عمل صادم، بل كان أطروحة فلسفية حول طبيعة الإنسان وحدود السلطة، وما إذا كان الخير يمكن فرضه بالقوة.

منذ اللحظات الأولى، نشاهد الفوضى في شوارع بريطانيا، حيث تنعدم القيم، ويصبح العنف جزءًا طبيعيًا من الحياة اليومية. أليكس وعصابته يجوبون الليل ويرتكبون الجرائم بلامبالاة واستمتاع، وكأن العنف ليس مجرد وسيلة للسيطرة، بل طقسٌ وجودي يعبرون به عن ذواتهم.

لكن الفيلم لا يهتم بتقديم درس أخلاقي حول مآلات العنف، ولا يعامله كأمر مرفوض منبوذ؛ على العكس، هو يسألنا: هل الفوضى والعنف جزء أصيل من الطبيعة البشرية؟ إن أليكس، رغم وحشيته ليس مختلفًا عن المجتمع من حوله. فالشرطة تمارس العنف، والسياسيون يستخدمون القوة، حتى العلماء يحاولون فرض الأخلاق بالقوة. إذن، أي نوع من الفوضى هو الأسوأ؟ تلك التي يولدها الأفراد أم تلك التي تفرضها الدولة؟  

A Clockwork Orange (1971)
A Clockwork Orange (1971)

أليكس بين روسو وهوبز: هل الإنسان خيرِّ أم شرير بطبيعته؟

يرى الفيلسوف الفرانكفوني روسو أن الإنسان يولد خيرًا لكن المجتمع يفسده؛ أما الإنجليزي هوبز، فيعتقد أن الإنسان في حالته الطبيعية كائن متوحش، لا يردعه عن الشر سوى سلطة الدولة.

لا يتعرض الفيلم بشكل مباشر للفرضيتين وإنما يختبرهما في شخص بطله أليكس، الذي يخضع لعلاج قسري يسمى تقنية لودوفيكو Ludovico Technique، حيث يُكره أن يرى جرعة مكثفة من الشرور التي ارتكبها من عنف واغتصاب يرافقها موسيقى مؤلفه الموسيقي المفضل «بيتهوفن». 

تقنية العلاج تلك لا تجعل من أليكس شخصًا صالحًا، بل يصبح كآلة مبرمجة فقدت قدرتا على الاختيار.  هنا، يضعنا الفيلم أمام معضلة فلسفية عميقة: إذا كان الإنسان غير قادر على فعل الشر، فهل يمكن اعتباره صالحًا حقًا؟

البرتقالة الآلية
A Clockwork Orange (1971)

وفقًا لمنطق هوبز، فإن الدولة تدار من خلال عقد اجتماعي يحرم الفرد من بعض حرياته مقابل الأمان. لكن ما يحدث مع أليكس ليس تنازلًا طوعيًا، بل إلغاء قسري لإرادته، مما يفقده مكونًا أساسًا من مكونات آدميته.

 الفيلم يتحدى فرضية هوبز بأن السلطة يمكن أن تجعل البشر أكثر أخلاقية، ويقترب أكثر من رؤية روسو، التي ترى أن التدخل القسري لا يصنع إنسانًا فاضلًا، بل عبدًا للنظام.

كما يؤكد الفلاسفة الليبراليون أمثال جون ستيوارت ميل؛ الخير لا يكون فضيلة إلا إذا اختاره الإنسان بوعي وإرادة منه، أما الأخلاق المفروضة بالقوة فهي ليست أخلاقًا، لأن جوهر الإنسان ليس في كونه صالحًا أو شريرًا، بل في كونه حرًا في اتخاذ قراراته. بجانب ذلك، يرى الفيلسوف الفوضوي ميخائيل باكونين أن الفوضى ليست انعدامًا للنظام، بل هي رفضٌ للسلطة القسرية التي تسلب الإنسان حريته الفطرية.

البرتقالة الآلية
A Clockwork Orange (1971)

من المنع إلى المجد: كيف انتصر الزمن للفيلم؟ 

عند صدور «برتقالة آلية A Clockwork Orange» في 1971، كان تأثيره أشبه بصدمة مجتمعية ليس فقط بسبب مشاهد العنف التي يظهرها، بل أيضًا لأنه كان يشير إلى هذه الفوضى الاجتماعية والتحديات التي يواجهها المجتمع البريطاني. الفيلم كان يشكك في قدرة الدولة على فرض النظام والأخلاق بالقوة، وهو ما اعتبره البعض تهديدًا للقيم الاجتماعية الراسخة، لدرجة أن ستانلي كوبريك نفسه قرر سحب الفيلم من العرض في المملكة المتحدة بعد تقارير عن جرائم مستوحاة منه. 

ظل الفيلم محظورًا هناك لعقود، كأن المجتمع كان غير مستعد لمواجهة الأسئلة التي يطرحها. لكن الزمن كما هو الحال دائمًا، كان له رأي آخر. بمرور السنوات، بدأت النظرة للفيلم تتغير، وأصبح يُعتبر تحفة سينمائية فلسفية. 

اليوم، هو محفوظ في السجل الوطني للأفلام في الولايات المتحدة، ويُدرَّس في الجامعات كأحد أهم الأعمال السينمائية التي تتناول مواضيع الحرية والأخلاق والسيطرة الاجتماعية.

A Clockwork Orange (1971)
A Clockwork Orange (1971)


ما يجعل «البرتقالة الآلية» خالدًا؛ ليس عنفه ولا مشاهده الصادمة، بل الأسئلة التي يطرحها عن الحرية والاختيار والإنسانية. هل يمكن أن يكون الإنسان إنسانًا من دون حرية؟ هل الخير الحقيقي يُفرض بالقوة أم ينبع من الداخل؟ وهل يمكن للمجتمع أن يكون أكثر وحشية من الأفراد الذين يحاول ضبطهم؟  

ويبقى السؤال الأكبر: هل ينحاز كوبريك للحرية المطلقة أم يخشى عواقبها؟ هل الفيلم يحتفي بالفوضى أم يحذر منها؟ 

الحقيقة أن كوبريك لا يمنح إجابة مباشرة، بل يضعنا أمام تناقضات الواقع. فمن جهة؛ الفيلم يرفض فكرة فرض الأخلاق بالقوة، وينتقد الدولة حين تحاول تحويل الإنسان إلى آلة مجردة من الإرادة. هذه رؤية قريبة من روسو، الذي يرى أن القمع لا يصنع مجتمعًا فاضلًا، بل مجتمعًا خانعًا. لكن من جهة أخرى، لا يقدم الفيلم الفوضى كحالة مثالية. أليكس في البداية وحش غير مقيّد، يمارس العنف بلا ندم، والمجتمع الذي يعيش فيه ليس أكثر رحمة. هنا يظهر جانب هوبز: عندما تنهار السلطة، يظهر العنف بأبشع صوره.

البرتقالة الآلية

كوبريك، بأسلوبه البصري القاسي، لا يقول إن الفوضى هي الحل، لكنه لا يثق في السلطة أيضًا. في النهاية، الفيلم ليس دفاعًا عن الحرية المطلقة، ولا تبريرًا للقمع، بل تحذير من عالم لا يوجد فيه توازن بين الاثنين. إن كان هناك موقف نهائي، فهو أن الإنسان يجب أن يمتلك حرية الاختيار، حتى لو كانت اختياراته خاطئة. لأن الخير المفروض بالقوة ليس خيرًا على الإطلاق.

اقرأ أيضا: «صمّاء».. رسالة حبّ مُخرجة إلى أختها

شارك هذا المنشور

أضف تعليق