فاصلة

مراجعات

«الباقون» لألكسندر باين… دعوةٌ لفتح العين الثالثة

Reading Time: 4 minutes

“تذكروا! النص أولًا… في البدء كانت الكلمة، اجعلوا النص جزءًا من الموسيقى”، يقول أستاذ الموسيقى لكورال تلامذته في مستهلّ “الباقونالفيلم الطويل الثامن لألكسندر باين (62 عامًا). مشهد افتتاحي يفصح مبكرًا عن نغمة عمل يعتمد بشكل أساسي على سيناريو متماسك قوامه حوار ذكي ومحكم الجمال ـ لا يخفي المخرج أن فكرته الأولى انبثقت عندما اكتشف “ميرليس” (1935) للفرنسي مارسيل بانيول ـ كتبه ديفيد هيمنسون، وإخراج جذاب بكلاسيكيته واهتمامه بالإيقاع والتفاصيل، بالإضافة إلى أداء رفيع من الثلاثي الرئيسي، الشاب دومينيك سيسا في ظهوره الأول على الشاشة، دافين جوي راندولف، وبالخصوص، بول جياماتي في أروع أدواره السينمائية ربما.

شتاء 1970، في ثانوية “بارتون” الداخلية المرموقة بمقاطعة “نيو إنغلاند” الأمريكية. هونام، أستاذ مادة “التاريخ القديم”، متعالم وقاسي الطباع، يتولّى مهمة حراسة التلاميذ الذين لم تُتح لهم، لأسباب مختلفة، فرصة السفر لقضاء عطلة عيد الميلاد مع عائلاتهم. تعمل مقدّمة الفيلم وفق مبدأ الانتقال التدريجي من مكان ضاجّ بالحركة الذي تشكله ثانوية تغص بأساتذة وتلاميذ يستعدون في صخب للسفر، حين يفرغ من الحركة شيئًا فشيئًا، إلى أن نلفي أنفسنا وسط فضاء موحش، يلفّه السكون وبياض الثلوج بلمسة ملنخوليا تُعتبر سمة ثابتة في معظم أفلام باين، لا سيما “عن شميدت” (2002) و”نبراسكا” (2013).

بعد مفاجأة سارة، ينتقل أربعة من التلاميذ الباقين إلى أجواء أرحم من روتين الدراسة والتمارين الرياضية، يتركز السرد على 3 شخصيات رئيسية، لم يختر أي منها العزلة أثناء عطلة العيد، لكنهم بحثوا عن الاختباء فيها بطريقة ما (هنا ضربة معلم أولى في بناء السيناريو)؛ نبقى مع “هونام” لأن لا مكان آخر يذهب إليه بحكم أنه عازب خمسيني يعيش في الثانوية ويعشق القراءة، و”أنغيس” التلميذ النابغ ذي النزعة التمرّدية التي تخفي شرخًا عائليًا يقبع خارج إطار الحكي، لكن مكالماته الهاتفية مع والدته تلقي الضوء على شرط عائلة مفككة لا تنبذه تمامًا لكنها لا ترحّب به، و”ماري” الطباخة الرئيسية التي لم تنجز بعد الحداد على فقدان زوجها في سن مبكرة بسبب حادثة عمل، ثم ابنها التلميذ السابق في بارتون الذي قضى نحبه بدوره في حرب فيتنام، لتغرق شجنها في الكحول غير آبهة بخطوات حارس الثانوية الذي يبتغي التقرّب منها.

فيلم الباقون the holdovers

على غرار شخصياته الرئيسية التي تُواري وراء أقنعة الجفاء وجهًا مفعمًا بالهشاشة والإنسانية، تحجب كلاسيكية الإخراج عند باين اشتغالًا كبيرًا، منذ الاهتمام بتفاصيل صغيرة لكنها مفصلية، كشعارات الشركات المنتجة في افتتاحية الفيلم العائدة إلى زمن السبعينيات وهندسة الديكور ببوستن التي تعيد خلق أجواء الماضي بمنتهى الإقناع، مرورًا بتدابير جمالية تحيل إلى أساليب الفترة ذاتها كحركة اقتراب العدسة أو ابتعادها بشكل فجائي، وصولًا إلى الاعتماد على عمق المجال في مشاهد فارقة كاللقطة المهمة وسط مشهد الحفلة، التي نكتشف خلالها في خلفية الصورة أن ليديا (سكرتيرة مدير الثانوية) مرتبطة بشخص آخر رغم الاهتمام الذي تبديه بهونام، بينما نرى في مقدمة الصورة الأثر البليغ الذي يطبعه هذا التطور على محيَّا الأستاذ رغم تصلّب مشاعره ظاهريًا، أو في مشهد التئام الشخصيات حول التلفاز في المساء، ونشوء حوار بين ماري وهونام حول عدم قدرة هذا الأخير على تأليف كتاب، ليشترك أنغيس، القابع في خلفية الصورة، معهم في تبادل آراء حميمي يخرجه لأول مرة من علاقة تلميذ بمشرفين عليه، وكأنه بهذه الخطوة التي يقع فيها بلمسة إخراجية خلاقة (بفضل تكوين الإطار والإضاءة) داخل فضاء الحوار وخارجه في نفس الوقت، يخطو بسلاسة داخل عالم البالغين.

فيلم الباقون the holdovers

فرادة “الباقون” تتعلق أيضًا بأنه فيلم ينتمي لعدة أنواع لكنه لا يلتزم بمفاتيح أي منها على وجه التحديد. فهو يخلق عائلة بديلة متكونة من ثلاثة أفراد كسرتهم الحياة (Misfits أو لامتكيفون في قاموس آرثر ميلر) لكن فصله الثالث لا يترجمها إلى ارتباط عائلي حقيقي كما قد يتوقع المشاهد.

هو فيلم تعلُّم (أو بلوغ) بالنسبة لأنغس، من دون أن يحمل في مساره أي قوس تطور اعتيادي من صنف الأعمال التي تلقّن الدروس وتستخلص العبر، حتى أننا نودع الشاب من دون أن نضمن أنه لن يقوم بحركة متمردة في اليوم التالي، قد ترمي به في أحضان مدرسة عسكرية. والأمر ذاته مع هونام، الذي وإن كان مآله الأخير ينطوي على لمسة تحرر من قيود عمل مكبّل وحياة بائسة، وفق منطق أفلام القصص المبهجة Feel-good، فإن تحوله يترك في أنفسنا شعورًا مختلطًا بين السعادة والمرارة، يحيل إلى نهاية “جمعية الشعراء الموتى” (1989) لبيتر وير. أما ماري، فتفتح بقصة فقدانها المأسوية لفلذة كبدها المجنّد في الحرب دونًا عن أقرانه البيض، جرحًا غائرًا وسط حكي الفيلم، يصل ماضي التفرقة العنصرية بالولايات المتحدة الأمريكية بحاضر الانتهاكات التي لا يزال السود يتعرّضون لها ببلد العم سام.

the holdovers

الصلة الوثيقة بين الماضي والحاضر التي تقع في قلب طرح الفيلم، تجد انعكاسًا لها في خطاب هونام المفعم بقصص ومراجع التاريخ القديم والاقتباسات عن عظماء الفلسفة الإغريقية والرومانية باللغة اللاتينية. في مشهد زيارة المتحف، يخاطب الأستاذ تلميذه أمام أيقونة إيروتيكية تعلو مزهرية من العصور القديمة قائلًا “لا شيء جديد في تجربة البشر… إذا أردت فهم الحاضر أو نفسك، يتعيّن عليك أن تبدأ من الماضي”. مشهد يبدو، وفق تدبير مرآوي (ضربة معلّم أخرى)، كرجع صدى لاختيار ألكسندر باين موقعة فيلمه في الماضي، وهمسة في أذن من قد يسيئون فهم هذه اللفتة فيخلطونها بسيل الأفلام التي تخرج من مصنع هوليوود كل عام، ولا تقدّم أي شيء غير شعور مخدّر وأملس بنوستالجيا الأزمنة الغابرة.

في أحد أجمل مشاهد الفيلم، يشير هونام إلى عينه اليمنى متوجها إلى أنغيس قائلًا “هذه العين”، ردًا على سؤال ظلّ معلّقًا من دون جواب (ضربة معلم ثالثة) طرحه التلميذ حول أي العينين ينبغي أن ينظر إليها حين يحادث أستاذه، بحكم أن هذا الأخير يعاني من مرض نجم عنه حَوَل بليغ. وكأن “الباقون” يدعونا إلى نظرة جديدة تتجاوز الأحكام المسبقة على الأشخاص المحيطين بنا، مهما بلغت قسوتهم أو توحّدهم، لأنهم غالبًا ما يخفون معدنًا إنسانيًا تكفي مسحة من التعاطف للكشف عنه. في “عالم يمضي نحو الاضمحلال وحياة ترتكز على الإدراك” (يقول هونام اقتباسًا عن ديموقريطس)، لا مناص من فتح عين ثالثة ـ المعروفة في العلوم الباطنية بأنها توفر إدراكًا يتجاوز الرؤية العادية ـ تسعى إلى ما وراء المظاهر الخادعة بحثًا عن أجمل ما في الآخرين، لنصنع معًا حياة أكثر قابلية للعيش في عالم قد يستمر في الاضمحلال، لكن بشيء من الإنسانية على الأقل. 

اقرأ أيضا: بين الدقّة التاريخية والترفيه أفلام السيرة الذاتية… فَخر الصناعة الهوليوديّة

 

شارك هذا المنشور