تتمتع سينما شرق آسيا بثراء إبداعي منقطع النظير، رُبما بدأ الجمهور برصده والانتباه إليه بشكل أكبر مع حصد فيلم “طُفيلي” Parasite لأربع جوائز أوسكار، إلى جانب السعفة الذهبية.
في منطقة شرق آسيا وجنوب شرقها ثروات ثقافية وفنية متوارثة وتاريخ ثري، لكن ثرواتها الفنية لا تتوقف على ما أبدعته شعوبها تاريخيًا وإنما يمتد طبيعيًّا ليظهر في التجارب الإبداعية التي أنتجتها تلك الثقافات في أعقاب الحرب العالمية الثانية، والموجات الحداثية وما بعدها، واستقبلت تحوّر المفاهيم والمصطلحات إلى أشكال وأنماط أكثر انفتاحاً وسيولة، ما أفضى إلى بيئة مُناسبة للتجريب مع التعرّض كثير من الحركات السينمائية والإبداعيّة التي بدت متطرفّة آنذاك، لكنها أضافت الكثير إلى السينما بأطروحاتها وأفكارها على كُل المستويات الفكرية والتقنية.
وعندما تحدثنا في فاصلة عن تخصيص ملف لسينما الأبيض- أسود، كان لا بد من إعادة تسليط الضوء على بعض الأفلام الأسيوية التي تنتمي لهذا اللون الفني- الزمني، والتي فتحت الباب لمخرجين بعدها، لفرادتها على مستوى الطرح والتجريب، ولكونها ضروريّة كمُنتج إبداعي متجاوز للحظته الزمانيّة. أحد هذه الأفلام “Death by Hanging ـ الإعدام شنقاً” 1968، للمُخرِج الياباني المُدهش وأحد رواد “الموجة اليابانية الجديدة”، المخرج ناغيسا أوشيما.
يستلهم أوشيما فيلمه “الإعدام شنقًا” من قصة حقيقية حدثت عام 1958 للشاب الكوري ري تشينو، الذي قتل طالبتين يابانيتين، واعترف بعد ذلك بجرائمه ودوّنها لتنتشر على نطاق واسع في اليابان تحت اسم “Crime, Death, and Love”.
هذه اليوميات هي ما استند إليه أوشيما في بناء فيلمه السينمائي الفريد، منطلقًا من سؤال أوّلي حول عقوبة الإعدام ذاتها، وينخرط في تقنيّة حكائية تورّط المُشاهد مباشرة في الحكاية، ويباغته بعدة أسئلة موجّهة: هل رأيت غرفة إعدام من قبل؟ هل سبق لك أن شاهدت عملية إعدام؟ ويعقب أوشيما تلك الأسئلة بافتتاحية توثيقية ذات بعد تسجيلي بحت، يشرح فيها للمشاهد ماهيّة عمليّة الإعدام، يشرح بالتفصيل أبعاد المكان وكيفية الحركة وخطوات تنفيذ عملية الإعدام، ثم ينقلنا لمشاهدة عملية إعدام “آر R” (الممثل دو ين يو)، التي نشهدها على الشاشة قبل يحدث تحوّل استثنائي في مسار الأحداث، يأخذ الفيلم إلى منطقة مختلفة تماماً، ويفتح القصة على تأويلات ومجازات أوسع بكثير؛ فبعد أن خلع حراس السجن الحبال من على رقبة آر وانزلوه، يفاجؤون بأنه لم يمت.
ينقلنا أوشيما إلى مساحة أوسع بكثير من فكرة الإعدام ذاتها، ولكنه يؤطّر كُل المفاهيم والإسقاطات خلال الفكرة ذاتها، فهو يحوّر ويتلاعب بالمفهوم السائد للشكل الفيلمي، من خلال التفكيك وإعادة السرد عبر أنماط تجريبية يغلب عليها الشكل الأدبي والمسرحي الهزلي، فالمُنتج الإبداعي يتحول من كونه فيلم إلى مهزلة مسرحية أقرب إلى نماذج برتولد بريخت التي تُحطِّم القوالب والحواجز من أجل توريط المشاهد وسحبه إلى مركز المُشكلة وجعله جزءًا من العرض المسرحي/ الفيلمي، فينتقل أوشيما من الوثائقي الجاف، إلى فعل مقاومة الموت الذي يُنافي الطابع التسجيلي الذي يبدأ به الفيلم، ومن خلال تغيير اللعبة يُسهم في الكشف عما وراء الشخص الواقف، حين تتورّط إدارة السجن والحراس والكاهن والمأمور المشرف على الإعدام في عملية بعث لذاكرة آر، أو بمعنى أصح إعادة تشكيلها على النحو الذي يريده اليابانيون لشخص كوري يحتاجون إلى أن يظل مذنبًا.
يرد المسؤولون الفكرة الغرائبية إلى شيء عقلاني، فالرجُل الذي لم يمت من الشنق في أول مرة، يجب أن يُعدم مرّة أخرى، ولكنهم يُصدمون كون آر لا يتذكر كونه آر في الأساس، لقد انمحت ذاكرته بالكامل وأصبح إنسانًا جديدًا، وفي القانون يجب أن يكون المُجرم واع بجرائمه حتى تتم عقوبة الإعدام، ومن هُنا تبدأ مسرحيّة هزلية، يُعاد فيها تشكيل فصول من حياة آر، بحيث يتذكر جرائمه وذنبه ويعترف بهم.
عند هذه النُقطة يتحرر آر من كونه مُجرمًا، بيد أنه على الناحية الأخرى يَظهَر همّ وهوس السُلطات ليس بتحقيق العدالة وإنما بإنهاء القضايا عبر وصم هذا الفرد بالإجرام، وهذا يُحيلنا إلى إشكاليّة ضرورية في السرد، يُشير إليها أوشيما بوضوح خلال المتوالية الحالمة والخيالية، وهي إنكار الواقع السياسي، ومجانبته بشكل كامل كمؤسس للفرد، وهو ما يهدف إليه أوشيما بشكل غير مباشر: تصويب النظر حول المجتمع والطبيعة الإمبريالية للحُكم، والعنصرية والتهميش غير العادل الذي يواجهه الكوريون في اليابان.
في أحد المشاهد الهزلية التي يعيد فيها فريق الإعدام سرد واحدة من فترات حياة آر المعدمة، يقول الضابط المنوط بتثقيفه لحارس يلعب أحد الأدوار في المسرحية: “عليك أن تتصرف ككوري”، وهذه قمّة العنصرية والشوفينية، فهُم يحاكمونه ككوري وليس كإنسان، بدون النظر إلى البيئة أو المجتمع، أو محاولة السؤال مباشرة، لماذا قام المجرم بجريمته؟ والحقيقة أنهم يجيبون عن هذا السؤال بشكل غير مُباشر، بشكل مُضحك وساخر، فالكوميديا السوداء التي تصبغ الفيلم، ومساحة التأويل والرمزيات الكبيرة، تجعل من السهل حشد الكثير من الأفكار الناقدة لطبيعة المجتمع الياباني خارج إطار عقوبة الإعدام عمومًا.
تتحول عمليّة إعادة تثقيف آر، أو خلق وتشكيل هويته بالأحرى، إلى إسقاط مروّع على سياسة اليابانيين ومجتمعهم، مع كُل فصل من القصة يُعيد آر استكشاف نفسه، ولكن من منظور جديد، ومعه نستكشف النمط الاجتماعي المُحيط للفرد. ومع انتقالنا من فصل إلى آخر، تتحول السُلطة المنوطة بإعدام آر إلى مجموعة من المهرجين. وفي الفصول الأخيرة، يظهر أوشيما تابوت مُغطى بعلم اليابان، كإسقاط صريح على أن الشعارات مُجرد أكاذيب وأوهام تُخفي تحتها طبقات من الفساد وإشكاليات في حاجة ماسة إلى المعالجة.
وفي نهاية الفيلم، يعترف آر بكونه آر، ويقرّ بجريمته، ولكنه لا يوافق على إعدامه، في صرخة داخلية تصرّح بكُل شيء، أن الجريمة التي اقترفها ليست ذنبه وحده، إنما خطيئة هيكل اجتماعي وسياسي كامل. يدعم أوشيما ذلك المعنى ويضخمه عبر الكاميرا الثابتة واللقطات القريبة الرائعة، إضافة إلى أنه يُحرك فيلمه بطريقة تجريبية مختلفة قليلاً، رُبما يراها البعض نقطة ضعف إذا نفذها مُخرج آخر، فإدارة السرد بطريقة أدبية ومسرحية، بتقنية السؤال والجواب التي تلعب على أوتار كثيرة وتقلب المواضيع والجهات عبر حوار مميز. إضافة إلى أن معظم الفيلم يدور في مكان واحد وهو غرفة الإعدام، لكن الحوارات الكثيرة والمكان الواحد لا يضعفون السرد، فالكتابة المميزة نجحت في طرح كثير من الأفكار والمفاهيم المجردة، حول الهوية والذاكرة والإمبريالية والفردانية، والوعي الجمعي.
فما يحدث في غرفة الإعدام على طبيعته الهزلية؛ يبقى شديد الديناميكية، أشبه بعملية تأملية مُلهمة بالأبيض والأسود، يجب إعادة اكتشافها. هذا ببساطة من أفضل الأفلام ذات البعد السياسي التي تم صنعها على الإطلاق، إنه صرخة حقيقة في وجه الموت.
اقرأ أيضا: «أبيض – أسود» أم «أبيض وأسود»؟