فاصلة

مراجعات

“الأيام المثالية” ….. الروتين كطقوس عبادية

Reading Time: 3 minutes

في الفيلم التأملي (الأيام المثالية) Perfect Days يحوّل المخرج فيم فيندرز الروتين اليومي إلى حالة طقوسية ذات طابع تعبدي. فالتجوال الروتيني الذي يؤدية المفتش هيراياما (كوجي ياكوشو) على دورات المياه العامة التابعة لشركة حمامات طوكيو يتجاوز مهمة التنظيف بأعلى المعايير المهنية إلى استكشاف أعماق التواصل الإنساني، وإدراك القوة التحويلية للروتين، التي تكشف بدورها عن العلاقة ما بين الجمال والقبح. وذلك من خلال التأكيد على تقبل النقص، المعبر عنه بفضاء المراحيض، والتبادلات الإشارية اللامعلنة، التي وظفها المخرج كعدسة فاحصة لمراقبة السلوك البشري والأعراف المجتمعية، وكأنها منصة مراقبة لرصد التفاعل الإنساني.

هذه اللحظات العادية الصغيرة التي تتصعد في سياق الفيلم كطقوس هي جزء مهم من مصادر الراحة والاستقرار في يوميات وحياة هيراياما. حيث يحقق من خلال دعك المراحيض بتفانٍ وسعادة واضحة الهدف الذي يبقيه في حالة انتشاء، فهي حركات روتينية مشبعة بالقصد والمعنى. ليستكمل ذلك الفعل اليومي بمتوالية من الأفعال الروتينية التي تمده بالفرح، كجرعة الحديث اليومي مع نادلة المقهى، وتناول الغذاء وحيدًا في الحديقة، والاعتناء بنظافته الشخصية، ورعاية نباتاته في شقته، وإراحة جسده في مغطس السونا، وقراءة الكتب، والاستماع إلى الأغاني الأجنبية عبر الكاسيتات وهكذا. حيث تلتقط العدسة كل تلك التفاصيل المتعلقة بالتفاعل البشري وجمال المناظر الطبيعية، من خلال لقطات بطيئة أحيانًا، وطويلة، قد تصيب المشاهد بالملل بالنظر لتكرارها ولطول الشريط البصري وخلو المشاهد من الأحداث والتوتر الدرامي، كما يعطل الفيلم كل مقومات الحبكة والدوافع، إلا أنها في نهاية المطاف تدفع المشاهد للانغماس في عالم الفيلم والتفاعل مع لحظات التأمل الهادئة.

من خلال عيون هيراياما الممتلئة بالرضا، وابتسامته الهادئة الأخاذة، نكتشف الجمال المباغت، كما نتلمس التواصل الإنساني المبثوث بشكل لا مرئي في الأماكن العادية. حيث يتبنى الفيلم فلسفة “وابي سابي” التي تعني في الجماليات اليابانية رؤية العالم في حالة من الزوال وعدم الاكتمال، أو بمعنى أدق تقدير الجمال غير المكتمل. وهي هنا في سياق فيلم “الأيام المثالية” تحيل إلى تقدير صريح للعيوب واللحظات العابرة التي تسبغ على الحياة معنى. كما تحفظ للشخصيات كرامتها وعمقها العاطفي العميق، التي أثرت نسيج الفيلم بقيم التواصل الإنساني. فجماليات النقص وتقدير الحياة العابرة، التي تنقض أصالة التجربة الحياتية، يقابلها احتفاء بالشقوق والعيوب في تصميم الحمامات العامة التي يحاول هيراياما مداراتها بالتنظيف والتلميع الفائق عبر عمل دؤوب أشبه ما يكون بالفروض العبادية.

هكذا يقدم فيلم “الأيام المثالية” تجربة سينمائية فريدة وسخية على مستوى المشاعر. إنه فيلم يراهن على جاذبية الشخصية، حيث صور الحزن بمهارة فائقة، وذلك من خلال التأكيد على إبراز لحظات التأمل الهادئة وزمن الصمت الاستبطاني مما سمح للمشاهدين بالتواصل المتدفق مع مشاعر البطل الدفينة. إنه فيلم يدعو إلى التأمل، ويشجع على تقدير ما هو عادي، كما يعيد التذكير بأهمية البحث عن الجمال في الأماكن غير المتوقعة. حيث يمكن العثور على جمال الحياة اليومية، والتقاط الفرح وسط ما يصنف في خانة النقص والعيب. وهو فيلم لا يخلو من التعقيدات العاطفية. حيث تستبطن رسالة الفيلم موضوعات الوحدة والحزن ومرور الوقت. كما يواجه هيراياما فقدان زوجته وعدم اليقين بشأن مستقبله. ومع ذلك، يحتفل الفيلم في النهاية بمرونة الروح الإنسانية وقوته الكامنة لاستخلاص المتعة من الأشياء البسيطة.

لقد راهن المخرج فيم فيندرز على السينما باعتبارها فن الصورة، وعلى قوة السينما البطيئة تحديدًا، بما تختزنه من صور ومشاهد تكرارية، ليقدم فيلمًا أشبه ما يكون بالقصيدة الشعرية، بتجاوزه للبناء التقليدي، فهو لم ينشغل بتثبيت العدسة على الحمامات العمومية، بل دار بها في حركة تأملية فيما يشبه الاستكشاف الشعري لجوهر مدينة طوكيو، بحيث حوّل المشهد الحضري إلى لوحة من الجمال للفت انتباه المشاهد إلى فرادة أجواء المدينة، واستظهار زواياها الخفية، وكذلك سلّط الضوء على الشعر المخبوء داخل الفضاءات التي تبدو عادية، ليقدم فيلمًا تأمليًا على المستوى الشعوري، ومذهلًا على المستوى البصري.

اقرأ أيضا: “قتلة زهرة القمر” ….. جمال مؤلم

شارك هذا المنشور