فاصلة

مراجعات

“الأحد” قصيدة سينمائية طافحة بالجمال

Reading Time: 3 minutes

في “الأحد” (٢٠٢٣) يكتب الأوزبكي شوكير خوليكوف (١٩٩٢) نصاً سينمائياً شعرياً مقتصداً، عن زوجين مسنيّن، يقيمان في بيت قديم لا يريدان تغيير أي شيء فيه. يريدانه كما هو، مثلهما مر عليه الزمن وغيّر فيه ما يكفي، وما عليهما سوى البقاء بين حيطانه حتى حلول ساعة رحيلهما. هذا ما لا يدركه ابنهما بوتير (نصرلونوروف)  المتوافق سلوكه مع تحولات رأسمالية كونية، تعزز نزعة استهلاكية، لم تفلت منها أوزباكستان وبسببها تتأتى التوترات، وتتأزم العلاقة بينه وبين والده. مردها على الدوام أنه ومن دون استشارتهما يجدد أثاث منزلهما الذي يفكر بهدمه وإعادة بنائه. يشتري لهما تلفازاً جديداً ويستبدل الثلاجة القديمة بأخرى جديدة ويفكر في بيع سيارة والده الروسية المتهالكة ليشتري لهما بدلاً منها واحدة جديدة غربية الصُنع.

على فكرة “التغيير” يتأسس المشهد العام، ومن بين ثناياه يقرأ شوكير التحولات الحاصلة في مجتمعه ويُعيد تشكيلها سينمائياً ليغدو “الأحد” نصا مؤثراً يحكي عن الأجيال وتناقضاتها وحيرة أمة تغيرت هويتها القومية وتشوهت مرات. يختار بطليه (الزوج المُسن يلعب دوره عبد الرحمن يوسف علييف والزوجة تؤدي دورها روزا بيازوفا) بعناية، ويوافق سلوكهما الدرامي مع سيناريو (كتبة المخرج نفسه) يعتني بنقل تفاصيل عيشهما في بيئة ريفية منعزلة، يشترط البقاء فيها انسجاماً معها وقبولاً ببساطة عيشها. بيئة شهدت تحولات سياسية واجتماعية كالتي شهدتها بقية دول آسيا الوسطى يوم هيمن الاتحاد السوفيتي عليها وفرض أيدولوجيته على سكانها، ومع ذلك تشبت الأجيال القديمة بموروثاتها وظلت توازن بينها وبين واقع فرض عليها، واليوم يفرض أولادهم عليهم تغييراً لا يريدونه، لأنه يثير فيهم خوفاً من اقتراب ساعة نهايتهم. كل قطعة أثاث يستبدها الابن تعني نهاية صلاحيتها وتقارب ضمناً نهاية صلاحيتهم للبقاء هم أيضاً. هذا يفسر غضب الأب من إلحاح ولديه واجباره على قبول التغييرات الحاصلة في البلد. ولده الأكبر غائب، يُفهَم من الحوارات المقتضبة أنه يعمل في بلد آخر. للتعبير عن اهتمامه بوالديه يدفع أخيه الأصغر لشراء أشياء جديدة لهما، هم في غنى عنها.

 

مواقف الأطراف المتناقضة لا تأخذ عند شوكير شكل صراع محتدم، على العكس في أحايين كثيرة تثير جواً من المرح الذي يسارع الأب دوما لإيقافه. جديته وغضبه يكتنفهما داخلياً طيبة ووداعة لا تظهران إلا في الوقت المناسب. علاقته بزوجته ظاهراً تبدو فجة وفظة، لسلوك ذكوري تربى عليه، لكنها وحين تمرض يغدو كائناً آخر، حساساً وعاطفياً. شخصيات “الأحد” تتصرف وفق منطقها الخاص، لهذا يسهل قبولها وبالتمعن في مواقفها تتجلى خلفيات تكوينها في بيئة قاسية، تخاف من التغيير القادم إليها من الخارج. تتحفظ عليه وتقبل بالأخذ به بجرعات قليلة، يعينها على ذلك اكتفائها الذاتي وبساطة عيشها. مشهد البيت مصغر لواقع أوزبكي جديد، متناقض ومحسوم مستقبلاً لصالح جيل متوافق مع تحولات العصر. لن يكتفي “الأحد” بذلك التوصيف بل يعمل على تفكيكه وإعادة تجسيده بمسارات درامية بطيئة الطابع، تكاد تقارب إيقاعات الحياة نفسها وربما لهذا السبب يتكفل التصوير (ديور إيسماتوف) بتعميقها بلقطات مقربة تحاكي بطء حركة أبطاله لكبر سنهما، وانسجاماً مع بيئة حاضنة ميالة للتريث، تأخذ وقتها المطلوب للنضوج كما الطبيعة نفسها. ذلك يفسر ظهور أسماء الأيام والفصول مكتوباً على الشاشةمع كل تحول درامي بسيط، وغالباً مصحوباً بموسيقى تصويرية رائعة لأنفار فايز، تُشعر المُشاهد بقصر الزمن المتبقي لهما. هذا يحصل، ومن دون مقدمات تمرض الزوجة وتموت وليلحق بها، يقرر الزوج المُسن الخروج من بيته الذي لم يعد بيته، بعد أن جاء العمال ليهدموا جدرانه القديمة ويبنوا بدلاً منها جدراناً جديدة لم يعد يطيق رؤيتها بعد أن أضحى وحيداً، لا أحد عنده يشكو أليه حزنه.

الأحد

فيلم “الأحد” طافح بالجمال. مَشاهده مصورة بحب وكأن كل من يشارك في تشكيلها قد أحبها حقاً وراح يعطي كل ما عنده لنقلها على الشاشة بكل الجمال الذي فيها. فوزه بجائزة أفضل إخراج في الدورة الثالثة لمهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي، تعبيراً دقيقا عن قوته. في السينما يظل نقل البيئة البسيطة والحياة الرتيبة البطيئة بحاجة إلى عقل سينمائي منقح قادر على خلق ديناميكية داخلية تعوض عن جمود الظاهر. هل يمكن القول أن نص شوكير جامع بين ظاهر وباطن بيئة أوزبكية لا يعرف كيف يُخرج الجمال الذي فيها إلا من تعمق في فهمها وحبها!

اقرأ أيضا: شماريخ: البحث عن أب وسط ضباب!

شارك هذا المنشور