فاصلة

مقالات

اختيارات نقاد «فاصلة» لأفضل أفلام 2024

Reading Time: 14 minutes

كان العام المنصرم في عالم السينما عامًا جديرًا بالملاحظة، رغم أنه ربما لم يكن رائدًا مثل العام السابق له. ومع ذلك، فقد منحنا بعض الروائع غير العادية. لقد حظينا بامتياز رؤية مجموعة واسعة من الأفلام سواء في المهرجانات المرموقة أو خارجها. كان عام 2024 بالتأكيد عامًا تميز بعودة صُناع الأفلام الكبار مثل فرانسيس فورد كوبولا وكلينت أيستوود وبيدرو ألمودوفار، الذين قدموا أعمالًا جديدة لا تزال تلقى صدى عميقًا لدى الجماهير.

وإلى جانب هؤلاء الأساتذة المخضرمين، تعرفنا على أصوات جديدة ومخرجين مبتدئين، جلبوا وجهات نظر جديدة ومثيرة إلى الشاشة، من الواضح أن الأصوات الراسخة والناشئة تُبحر في مناطق إبداعية جديدة ومثيرة. كان هناك شعورًا قويًا بالاستكشاف الموضوعي عبر الأنواع، وعلى الرغم من أن بعض الأفلام ربما لم تصل إلى مستوى الإشادة العالمية، إلا أنه لا يزال هناك الكثير من الأعمال البارزة. وفي نهاية المطاف، بدا أن أفلام هذا العام تعكس نطاقًا أوسع من الأصوات، مع التركيز المتزايد على القصص المتنوعة، والتي من المرجح أن تستمر في تشكيل مستقبل الصناعة.

نقّاد «فاصلة» كانوا موجودين في أفضل ثلاثة مهرجانات سينمائية (برلين، كانّ، البندقية) وخارجها، حيث اكتشفوا مجموعة من الأعمال الاستثنائية. وكما هو الحال دائمًا، يتمتع كل ناقد بعدسة فريدة ينظر من خلالها إلى السينما، مما يؤدي إلى آراء متباينة حول ما يبرز كأفضل فيلم في العام. 

فيما يلي، ستجد اختياراتهم لفيلمهم المفضل لعام 2024. ورغم أن هذه الاختيارات قد لا تتوافق مع اختياراتك المفضلة، أو حتى مع تفضيلات النقاد الآخرين، إلا أنها تمثل ما يعتقد كل منهم أنه أفضل ما في هذا العام.

The Brutalist (2024)
The Brutalist (2024)

هوفيك حبشيان.. الوحشي

سلسلة مشاهد مُقلقة تفتتح «الوحشي The brutalist» لبرادي كوربيت: الكاميرا تتعقّب رجلاً يخرج إلى الضوء من عتمة سفينة تغصّ بالمهاجرين إلى الشواطئ الأميركية. هذا الوصول نتلقّاه كإشارة رمزية تدل على بداية جديدة. يظهر تمثال الحرية في أول مشهد حقيقي، ولكنه رأسًا على عقب، ممّا يمهّد لوجهة نظر مغايرة ستسود طوال الـ215 دقيقة اللاحقة. العمل سيرسم لنا وللبطل خريطة طريق تمتد عبر أكثر من خمسين عامًا، تتناول التحولات الجذرية في سيرة شخصية تتنقّل من ماضٍ ثقيل إلى مستقبل مليء بالمجهول، دون ان يسمح لهذا الماضي بإطفاء شعلته أو كسر طموحه. يحدث هذا كله في ظلّ تحدٍّ جديد: الانتقال من بطش النازية إلى قيود الرأسمالية.

الشخصية الرئيسية، لاسلو توت (أدريان برودي)، مهندس معماري من المجر، هرب من أهوال الحرب العالمية في أوروبا. نجا من المحرقة، لكنه فقد أثر زوجته (فيليسيتي جونز) وابنة أختها (رافي كاسيدي)، إذ لا يعلم ما إذا كانتا لا تزالان على قيد الحياة. لن يركّز الفيلم على مأساة الهولوكوست وتفاصيلها التي تصبح ماضيًا فور بدء الفيلم، بل على محاولة لاسلو التكيف مع واقعه الجديد في بلد يُفترض بأنه يمنح فرصًا بلا حدود. في هذا المعنى، يقدّم كوربيت قصّة تحدٍّ وإعادة بناء للذات في عالم مليء بالوعود، لكنه لا يخلو من الرهانات والتحديات التي تدنو أحيانًا من المستحيل. 

على غرار كثرٍ من اليهود الذين هاجروا إلى الولايات المتحدة بعد الحرب، يجد لاسلو نفسه في رحلة بحث عن مكان له في «أرض الفرص». إلا أن الحظ وحده لا يكفي في بلد يكاد يكون شعاره «البقاء للأكثر موهبةً وكفايةً». في النصف الأول من الفيلم، نجد أنفسنا أمام تساؤلات وجودية حول معنى النجاة، وكيف أن هذه النجاة لا بد أن تؤثّر على نظرة الإنسان إلى الحياة. وكيف يمكن أن يتحول الألم إلى إبداع؟ وهل يمكن للفنّ أن يُخلق على هامش منظومة اقتصادية متوحشة لا ترحم؟ الفيلم سيجيب عن بعض هذه الأسئلة على نحو خجول وسيترك بعضها الآخر معلّقًا. 

التحوّل الكبير في واقع لاسلو يحدث عندما يُطلب إليه تصميم مكتبة لملياردير أميركي (غاي بيرس). ما يبدو بداية مشرقة، سرعان ما يتحوّل إلى مشروع غير مسبوق من حيث الطموح والحجم. مشروع سيشكّل اختبارًا صعبًا يتحدّى حدود قدراته النفسية وطاقاته الجسدية. يصبح لاسلو كمَن يمشي على حبل مشدود، ذلك أنه يجد نفسه على وشك السقوط في الهاوية في كلّ لحظة، محاولًا تجاوز نفسه.

كوربيت يصوغ عمله السينمائي بروح ملحمية تضعه في مصاف الكبار، معتنقًا الإصرار والدقّة اللذين يتعامل بهما لاسلو مع بنيته المعمارية، ومستوحياً من المدرسة الوحشية في فنّ العمارة. تتبّع المَشاهد وإيقاعها والتنسيق الجمالي بينها، يجعلنا نعتقد أننا أمام كاتدرائية سينمائية عملاقة، ويأتي هذا الانطباع بعد أن يستثمر المخرج كلّ طاقاته في تصميم مَشاهد تتحدّى السائد وتعطّل توقّعات الجمهور.

يتناول «الوحشي» مجموعة واسعة من المسائل: العلاقة المعقّدة بين العمارة والمجتمع، تأثير الحبّ الذي يتغلّب على الزمن، الصدمات النفسية العميقة، الإذلال والثقة الهشّة بالمؤسسات البورجوازية. ما يستحق الاعجاب هو ان هذه المواضيع المتداخلة لا تتزاحم ولا تبدو مشتّتة، إنما تنسجم معًا بسلاسة ضمن ظروف مليئة بالتناقضات. كلّ تفصيل في الفيلم يخدم السياق العام، ممّا يمنحه شعورًا بالتناغم فيذكّرنا بإيقاعات سمفونية، حيث تتداخل النوتات لتنتج عملًا متماسكًا يلامس القلب ويخترق العقل. ولعل ما يجعل العمل استثنائيًا إلى درجة وضعه على رأس قائمة مشاهداتي لعام 2024، ليس طموحه فحسب، بل هو ذلك الخيط الوجداني الذي يعبره وينشئ صلة بينه وبين أعمال ملحمية أخرى لن أذكرها هنا لضيق المساحة. بأسلوبه ورؤيته وصنعته المتقنة، ينحت كوربيت مكانه في عالم السينما، قافزًا فوق كلّ القيود التي تُفرض على الخلق الفنّي، وهذا ما صرّح به يوم عرض فيلمه في مهرجان البندقية الأخير: «هذا العمل يتجرأ على فعل كلّ ما صُنِّف في إطار المستحيل».

All We Imagine as Light (2024)
All We Imagine as Light (2024)

فراس الماضي.. كل ما نتخيله نورًا

عندما يُذكر اسم السينما الهندية، تتبادر إلى الأذهان فورًا الألوان الصارخة، والإيقاعات الراقصة، والاحتفالات البصرية الصاخبة، لكن سينما بايل كباديا تنأى بنفسها عن هذا النمط السائد، متخذة مسارًا مغايرًا تمامًا، إلى حد يجعل أعمالها مُهمّشة داخل أوساط السينما الهندية، التي اختارت أن تُقصي فيلمها الفائز بالجائزة الكبرى في مهرجان كان 2024 من تمثيلها في سباق الأوسكار. 

مع ذلك، فإن فيلمها الثاني «كل ما نتخيله نورًا All we imagine as light» بعد عملها الأول «ليلة أن تعرف لا شيء A night of knowing nothing» يعلن عن ميلاد مخرجة من طراز رفيع، تحمل حساسية هاو شياو شين ورقة إدوارد يانغ، وتتقن استحضار تجاوزات الذاكرة بطريقة تُذكّرنا بروح أبيشاتبونغ في «شيء غامض في الظهيرة Mysterious object in afternoon».

في هذا العمل الآسر، تنطلق كباديا من لقطات توثيقية لليل مومباي، حيث تتمازج ألوان الصورة الزرقاء برسائل صوتية تعكس أحلام النازحين من القرى إلى المدينة. بداية رحبه ومفتوحة على احتمالاتٍ شتى، تحمل أصداء من فيلم «أخبار من المنزل News from home» لشانتال أكرمان، لكنها لا تدوم طويلًا، إذ تحكم كباديا قبضتها السردية وتنقل المشاهد من اتساع المدينة الهائلة وتزاحمها بالسكان، لتقودنا من الواسع العام إلى الضيق المُركّز في دراما نتتبع خلالها ثلاث ممرضات جئن إلى مومباي من القرى المجاورة، هناك «برابها» التي تعيش قلقها على زوج غادر إلى ألمانيا ولم يترك لها سوى الصمت، و«أنو» الشابة المفعمة بحماسة الحب الأول، تعيشه بين رسائل وهمسات ولقاءات متقطعة، وأخيرًا «بارفاتي»، الأرملة الصلبة التي تحمل تحت قسوتها دفء الأمومة ودعمًا لا ينضب لرفيقتيها.

ما نشاهده هنا هو ليل بمعظمه، فهو الإطار الذي تنبثق منه حياة الممرضات الثلاث خارج حدود العمل، ومن هذا الظل الأزرق الذي يلف تفاصيل حياتهن تبدأ حكاية الفيلم بالظهور، حيث تتبلور غايته في استكشاف ذاك التوق المُلِح إلى الحميمية وللرغبة في التماس دفء العلاقات الإنسانية وسط صخب المدينة.

تصوّر كباديا مومباي هنا كما لم نراها من قبل؛ فضاء مديني شاسع ومكتظ، لكنه ينبض برهافة استثنائية. يتحرك الفيلم بثقة داخل هذا الفضاء، غارقًا في تفاصيله اليومية التي تحتضن الشخصيات وتشكل حياتها. وعلى الرغم من تركيز كباديا على ثلاث شخصيات ذات سياقات متباينة، يبقى السرد متماسكًا وعفويًا، بينما يتحلى الفيلم بجرأة استثنائية في إعادة تعريف الحب، والذي لا يقدمه باعتباره شعور عابر أو تجسيدًا بشريًا، بل كتكوين مركب ينمو بين الواقع والخيال، بقدم راسخة في الحياة الملموسة وأخرى في الأحلام الهاربة.

وفي الثلث الأخير، تترك كباديا صخب المدينة خلفها، لتقودنا إلى الريف بالقرب البحر. هناك، يتحول الفيلم من واقعية حضرية إلى عالم يغمره السحر، حيث تتلاشى فيه الحدود بين الحقيقة والخيال، ويكتسب السرد أبعادًا ضبابية تضفي عليه طابعًا غامضًا وجذاب. في هذا الانتقال، ترتقي الدراما لتصل إلى ذروتها، لتتحوّل إلى مسرح نابض يستحضر عوالم الذاكرة بثرائها العاطفي وعمقها الإنساني.

The Substance
The Substance (2024)

أحمد شوقي.. المادة

تكتسب بعض الأفلام أهميتها من أنها أتت تمامًا في الوقت المناسب، ومنها «المادة The Substance» للفرنسية كورالين فارجيا المتوّج بجائزة أحسن سيناريو في مهرجان كان، والمرشح للمزيد خلال موسم الجوائز الحالي. فيلم وليد العصر واللحظة، يعبر ببراعة وجرأة ومتعة عن هواجس وأفكار صارت – شئنا أم أبينا – شائعة في عالمنا المعاصر: جراحات التجميل، هوس الكمال الجسدي، وإدمان أي «مادة» يتوهم الفرد أنها تساعده أن يصير نسخة أفضل من نفسه.

وإذا كانت المعالجة البصرية هي ما يميز مخرج عن آخر، فإن فارجيا تتمكن من اللحظات الأولى بأسر الجمهور عبر تتابعين صامتين، توصل فيهما المعنى وتضع المشاهدين في الحالة المزاجية المأمولة. التتابع الأول لمادة يتم حقنها داخل بيضة فتجعلها تنقسم لنسختين من ذاتها، ثم يعرض الثاني مراحل حياة نجمة من نجوم ممشى المشاهير في هوليوود، من تثبيت النجمة والاحتفاء بصاحبتها واهتمام الناس بها، ثم خفوت الصيت وانزواء الأضواء وتحوّلها مجرد بقعة على الأرض يسير عليها البشر دون أن ينتبهوا للاسم المدوّن عليها.

هذا باختصار، وببراعة استهلال مدهشة، تضعنا المخرجة الموهوبة داخل العالم المتداعي لإليزابيث، التي كانت قبل عقدين نموذجًا للجاذبية، لكنها الآن كهلة تستعد لأن تخرج من مصاف النجوم لتوضع في متحف الذكريات، حتى يأتيها العرض الذي يصعب رفضه بتعاطي المادة التي ستخلق نسخة أخرى منها تتبادل معها الحياة، أسبوعًا لكل نسخة، دون استثناءات أو إجازات. التوازن الذي نعلم بطبيعة الحال أنه سرعان ما سيختل.

تدرك المخرجة وبطلتاها المدهشتان، ديمي مور ومارجريت كوايلي، أن تشييء المرأة عنصر جوهري في فيلمهم. أو لنكون أكثر دقة تشييء النجوم وتقديس الكمال. كي تكون نجمًا يجب أن تكون كاملًا على المستوى الشكلي، وكي تتواصل النجومية ينبغي عليك الحفاظ على هذا الكمال بأي صورة ممكنة، حتى لو كان الثمن أن تنسلخ عن نفسك، وتصير نسخة مختلفة من ذاتك. إليزابيث تأخذ الأمر لمساحة خيالية متطرفة، لكنها ليست ببعيدة عن نجمات شوهن وجوههن فصرن نسخًا عجيبة من الصورة القديمة. صورة ليست حتى بجاذبية وجمال سو.

لكن لا ننسى أن «المادة» كلمة تشير في أغلب الحالات إلى المخدرات. من ينظر للفيلم من هذه الزاوية سيجده دراسة حالة عميقة، بالغة التشويق، غير مألوفة عن التردي التدريجي في هاوية الإدمان، وكيف يتوهم المدمن في البداية أنه سيتمكن من استخدام «المادة» بتوازن يجعله يظهر للآخرين في أفضل صورة ممكنة، ثم يعود لذاته بأمان عندما يغلق عليه باب بيته. غير أن هذا التوازن واهم، متطاير، لا يدوم لسبب بديهي هو أن النسخة الأفضل أفضل – كما يبدو لصاحبها – وأنه سيُفضِّل في كل مرة أن يزيد من زمن استمتاعه بالصورة الأكمل، حتى يصحو يومًا فيجد الأصل قد تشوه بما لا يمكن علاجه أو ترميمه.

«المادة» ينقلب في فصله الأخير إلى عمل يحتاج صبرًا لاستكمال مشاهدته دون شعور بالتقزز، لكن ذلك جزء أصيل من اللعبة: أن نرى ما يفعله البشر بأنفسهم في صورته الحقيقية، لا في تلك الصورة المثالية المختبئة وراء «ابتسامة هوليوود».

أفضل أفلام 2024
The Seed of the Sacred Fig (2024)

عبيد التميمي.. بذرة التينة المقدسة

يأسر «بذرة التينة المقدسة The seed of the sacred fig» مشاهديه منذ افتتاحيته المهيبة والتي تحمل ثقلًا محسوسًا غير مفهوم. يرافق هذه الافتتاحية شعور بوحدة شديدة، وتظهر ملامح بطل القصة «إيمان» مليئة بالهموم والمسؤولية.

يقدم المخرج محمد رسولوف في هذا العمل أحد أفضل الأمثلة على أهمية استقراء المشاعر والأحاسيس التي تخوضها الشخصيات عوضًا عن إخبار الجمهور بتلك المشاعر من خلال الحوارات. في هذا الفيلم الذي تسبب بضجة في إيران وصاحبه إصدار مذكرات اعتقال وأوامر منع سفر بحق المخرج والممثلين، يناقش روسولف المشهد الإيراني السياسي تحت السلطة الدينية الأبوية على نطاقين؛ النطاق العام والذي يشمل إيران بأكملها، والنطاق الخاص الذي يشمل عائلة المحقق إيمان، وما تعيشه أسرته من تغيرات جوهرية نظرًا للجو السياسي المشحون.

نتحدث كثيرًا عن أهمية إحكام السرد في الأفلام وعدم الوقوع في فخ التشتت وترامي أطراف وثيمات القصة، وامتداد مدة العرض لفترة طويلة، لكن هذا الفيلم لا يتأثر بذلك بأي شكل من الأشكال. استطاع روسولف تأسيس أفكاره الرئيسية التي سوف يبني عليها أحداث فيلمه بامتياز، ولم تؤثر المدة التي استغرقها للوصول إلى الحدث الرئيسي للفيلم بذلك. قبل أن يختفي مسدس إيمان -وهو الحدث المفصلي ونقطة الانطلاق الحقيقية- نعيش مع عائلته كل تفاصيل مرورهم بالثورة ونشأة الصراع الأسري الذي يتسلل من الخارج. يأخذ الفيلم وقته بالكامل لاستكشاف الأسرة التي تتحكم السلطة الأبوية فيها من كل زاوية وتفرض حدودًا وقوانين جديدة مع كل تغيير يطرأ.

الأب صاحب السلطة العليا وصاحب الثقة التامة بالنظام كذلك. تلك الثقة لم تكن في بدايتها حقيقية، بل كانت مبررًا يسوقه إيمان لنفسه ليتعايش مع وحشيته والجرائم التي ارتكبها. يحتاج «إيمان» إلى هذه الثقة العمياء كي يستطيع أن يعود إلى منزله ليلًا بعد يوم عمل طويل من التحقيقات وسحب الاعترافات قسريًا، ويحظى بنوم هانئ. لأنه في أعماقه يعلم تمامًا أنه من الناحية الإحصائية يقوم بإرسال عشرات الأبرياء إلى حبل المشنقة بدون دليل حقيقي.

الأم ترضخ وتؤمن بهذه السلطة الأبوية وتحاول حماية بناتها من التأثير الخارجي ما دامت تنتفع من هذه السلطة، من أولى حملها الحوارية في الفيلم؛ سؤالها زوجها عن إمكانية الحصول على شقة بثلاث غرف نوم. ونشاهد التشابه في نوع العطف والحنو اللذان تقدمهما لزوجها الذي يأتي من عمله منهكًا، فتقوم بغسل وجهه وحلاقته، كما نرى طريقة تنظيف الجرح العميق الذي يعتلي وجه صديقة ابنتها التي أصيبت في المظاهرات، في أول صدمة حقيقية تتسبب بإيقاظ غريزة الأمومة والنزعة النسوية لديها. بناتها نتاج جيل جديد ثائر على العادات والتقاليد ويرفض تلقي المعلومة من مصدر واحد محدد مسبقًا، وهذه الثورية والنزعة إلى التحقق من المعلومات تضع بناتها في مواجهة مباشرة مع أبيهن.

إنها دراسة رائعة لثلاث عناصر مجتمعية وكيف تتفاعل سويةً وقت تضارب مصالحها، يقوم روسولف بتجهيز كل ذلك قبل أن يبدأ خط سير الأحداث الرئيسي في فيلمه، ويستطيع أن ينتقل بين عدة ثيمات وطرق سردية بسهولة فائقة سلسة لا تصيب المشاهدين بصدمة أو ملاحظة لتغيير نبرة الفيلم.

أفضل أفلام 2024
Vermiglio (2024)

شفيق طبارة.. فيرميلليو

«إن العائدين من الحرب يحملون أسرارًا»، هكذا همس الناس في فيرميلليو، آخر بلدة في فال دي سولي في ترنتينو في إيطاليا. إنه شتاء عام 1944، حيث يمكن الشعور بآخر ألسنة لهب الحرب العالمية الثانية كأصداء بعيدة من خلال الصحف، وآهات قريبة، على أمل عودة الأحباء من الجبهة. يلجأ بييترو (غويسيبي دي دومينيكو)، جندي شاب إلى القرية بشكل غير متوقع، لكنّ القرية ترحّب به. وبين الأحكام المسبقة والعواطف الجديدة، يُنظر إليه بريبة. يعيش في هذه القرية مدرس ابتدائي مستقيم، يحبّ شوبان والأرض والفنون والطبيعة. رجل صارم، مستبد في بعض الأحيان، لكنه ليس طاغياً في علاقته ببناته الثلاث: لوتشيا (مارتينا سرينزي) تتقرّب من بييترو على أمل الزواج منه، وتود آدا (راشيل بوتريش) تواصل دراستها ولكنّه محكوم عليها بكتم رغباتها وتطلعاتها. أما فلافيا (آنا ثالير) الصغيرة، فهي وريثة تطلعات والدها الاجتماعية ولكنها تشعر بثقل المسؤولية. انتهت الحرب، يستطيع بييترو الآن العودة إلى بلدته صقلية لتسوية أوضاعه، لكنّ هذا الحدث سوف يكسر السلام في القرية.

في «فيرميلليو Vermiglio»، الحائز جائزة التحكيم الكبرى في «مهرجان البندقية»، تكشف المخرجة الإيطالية مورا ديلبورو كيف أنّ الحالة المجتمعية تشكّلها العادات والتقاليد الاجتماعية والدينية، وتضيء على تأثير ذلك على سلوكيات الإنسان وقبل أي شيء على بعده العاطفي. في الفيلم، تأتي الموسيقى الشعبية، والثقافة الجبلية، واللهجة، والمآسي الريفية، والرهبانية كخيار للتمرد والحرية، والأمومة كنتيجة طبيعية لا تقبل الجدل. «فيرميلليو» مشبع بالبراغماتية. تعرف ديلبورو أين تضع الكاميرا لالتقاط حياة هذا العالم الصغير بطريقة متواضعة وشاملة. هنا، لا أحد متنمر، أو ضحية. كل إنسان يعيش حياته كما يستطيع، ويرتكب الأخطاء، لكن أيضاً الخيارات الأخلاقية الفريدة، التي تخضع للاختبار من خلال حرب تحرم الجميع من الكرامة الإنسانية والمستقبل. يحتاج الجميع في «فيرميلليو» إلى جنّتهم حتى عندما لا تمنحهم الظروف الحق في ذلك، ويبحثون عن القليل من «غذاء الروح»، سواء كان ذلك موسيقى، أو باقة زهور، أو قبلة مسروقة، أو نظرة مليئة بالرغبة.

«فيرميلليو» مبني على نقاط سردية متواصلة تقع فيها الأحداث غالباً خارج الشاشة، مما يتركنا كمتفرّجين نتقاسم العواقب الإنسانية. تتسلّل الدراما بصمت إلى الحياة اليومية، إلى تدفق الحياة والفصول. بصرامة شكليّة، تضع ديلبورو موضوع الأمومة عالميًا مرة أخرى بين الأبعاد العامة والخاصة والفلكلور والألم. وبينما تعيد المركزية للأجساد وللجنسانية التي تفلت من السيطرة الاجتماعية التي يتم التعبير عنها قبل أي شيء من خلال النساء، يأخذنا الفيلم برقّته لمتابعة قصّته، والاستمتاع بطعمه واستنشاق رائحته، وسماع موسيقاه ولهجته الجبلية وكلماته العتيقة، مع دفء كوب من الحليب بين يدين متشابكتين.

أفضل أفلام 2024
Jim’s Story (2024)

سعيد المزواري.. قصة جيم

رغم بساطته الظاهرة، لا شيء اعتيادي في «قصة جيم Jim’s story» للمخرجين أرنو وجان ماري لاريو. بداية من الشخصية المتوارية والخجولة من دون أن تكون خنوعة لبطله إمريك، الذي يفتتح الحكي بصوته الداخلي ليزودنا بلمحات عن طفولته وعلاقته بالجنس الآخر. تمتد أحداث القصة على مدار عقدين وتقبض على مراحل ارتباطه بفلورانس الحامل، وتبنيه لرضيعها جيم، قبل أن يعود والد هذا الأخير، فينشأ بينهم مربّع حبّ على حافة الغرابة، ويتمخض الفيلم شيئًا فشيئًا عن واحدة من أجمل حكايا الأبوة في السينما، وأكثرها وقعًا عل المشاهد.

يلامس فيلم الأخوين لاريو القلب برهافة الاختيارات التي تذهب إلى حافة الميلودراما لالتقاط مشاعر الشخصيات بكل تنويعاتها، وذلك دون أن تتخلى عن واقعيتها، فينتج عن ذلك سحرٌ خاص وعصي على التصنيف. 

كما أن المزاوجة – عبر مونتاج إيقاعي رشيق- بين اختزال الزمن في فترات معينة وتكثيف تفاصيل عن أحداث وتجليات مراحل أخر فاصلة من القصة، منحت الفيلم سمكًا عاطفيًا جمًّا، خصوصًا أن هواية إمريك في التقاط صورٍ نرى نسختها السلبية على الشاشة بين الفينة والأخرى؛ ساهمت في بث الإحساس بانفلات الزمن بين ثنايا القصة، وسط مشاهد تخطف الأنفاس لطبيعة منطقة «جيرا» الجبلية بشرق فرنسا.

كما أن كريم ليكلو (بوجهه الطفولي وجسده الممتلئ) وليتيشا دوش برعا في تجسيد دوري إمريك وفلورانس، ونشأت بينهما كيمياء ملفتة، أضفت صدقية على تصرفاتهما مهما بدت غرابتها، ما ساعد على تشكيل ملحمة مشبعة بالعواطف الصادقة تنفرد أمام أعين المشاهد؛ تفصيلًا تلو التفصيل، كما يرسم فنّان تشكيليٌّ عبر ضربات صغيرة من ريشته لوحةً عامرة بالأحداث والألوان والطبيعة.

أفضل أفلام 2024
Dying (2024)

أندرو محسن.. احتضار

لم تكن دورة مهرجان برلين السينمائي الدولي لهذا العام تحمل الكثير من المفاجآت السارة، ولكن فيلم «احتضار Dying» للمخرج ماثياس غلاسنر، لم يكن فقط من أفضل ما قدمته هذه الدورة، بل من أفضل ما شاهدناه خلال 2024. في بدايته، يبدو الفيلم عن زوجين مسنين، يعانيان من أمراض الشيخوخة، وتستغيث الزوجة بابنها لمساعدتها في رعاية أبيه، ولكن الابن يبدو غارقًا في مشاكله الشخصية. تذكرنا بداية الفيلم قليلًا برائعة ميكائيل هانيكه «Amour» (حب)، إذ نشاهد كيف تتفاعل هذه الزوجة مع الأمراض المتزايدة لزوجها وبداية إصابته بالألزهايمر. لكن ما يبدأ من شخصيتين فقط سرعان ما يتوسع إلى عدد كبير من الشخصيات، أبرزها الابن والابنة، وكل منهما لديه قصته الخاصة به. خلال خمسة فصول يصطدم الفيلم بالكثير من الخطوط الحمراء التي صارت تُرفع مؤخرًا تحت شعار الصوابية السياسية، ولا نعني هنا أنه يصطدم بها لمجرد الاصطدام بل أنه يطرح أسئلة ذكية ومشروعة، والأهم إنسانية جدًا.

كما يتضح من عنوان الفيلم، فإن الأحداث ترتبط بالموت بشكل أو بآخر، بمعناه المباشر وغير المباشر. يناقش الفيلم بشكل أساسي، احتضار وموت العواطف الإنسانية، ليس بين العشاق فقط، بل بين الأخوة والأصدقاء والأبناء وآبائهم. في أحد أطول مشاهد الفيلم، تواجه الأم ليزي (كورينا هارفوخ) ابنها توم (لارس إدينغير) معترفة بأنها تحب أخته أكثر مما أحبته. هذا المشهد يلخص بشكل دقيق الكثير من أفكار الفيلم. كم فيلم استعرض مناقشة كتلك؟ ربما شاهدنا أفلام عن قسوة الآباء أو عقوق الأبناء، ولكن من النادر أن نشاهد مناقشة بين أم وابنها تخبره بأنها تفضل شقيقته عليه، رغم عدم وجود كود أخلاقي ما يمنع مناقشة هذه الفكرة، ولكن الأرجح هو استعراض هنات الآباء والأمهات بشكل أقل حدة. يستمر الفيلم خلال فصوله في عرض الكثير من الأفكار الحساسة الأخرى بما فيها العنصرية والانتحار، ولكن ما يجعل هذا العرض السينمائي مميزًا ليس فقط جرأة الطرح ولكن إنسانية الشخصيات.

جميع شخصيات الفيلم على اختلافها تتلاقى في وجود هشاشة ما داخل كل منها، تجعل من تصديقها بل والشعور بأنها تشبهنا أمرًا حتميًا. الشخصية الأبرز في هذه النقطة هو الموسيقار برنارد (روبارت غفيسديك)، الذي يبدو وقحًا وفظًّا من أول مشاهده، بل ربما يمنحنا شعورًا بأنه يمثل المُبدع التقليدي الذي لايرضى عن أحد أو شيء. لكن بمرور الأحداث نكتشف مدى هشاشة برنارد وخوفه من الوحدة، وعدم الشعور بالتقدير، وأنه يخفي خلف القسوة الظاهرة ضعفًا يتحكم فيه. وهكذا -ومثلما هو الوضع مع بقية الشخصيات- نجد أنفسنا نتساءل هل يجب أن نتعاطف معه أم نكرهه لتجاوزاته؟ في الحقيقة لا هذا ولا ذاك، فأفضل ما يفعله هذا الفيلم، الفائز بجائزة أفضل سيناريو في مهرجان برلين، هو أنه يجعلنا نعيد التفكير في أنفسنا ومن حولنا بنظرة مختلفة.

أفضل أفلام 2024
Anora (2024)

أحمد العياد – أنورا

فيلم «أنورا Anora»، للمخرج شون بيكر، الفائز بالسعفة الذهبية لمهرجان كان 2024، يحكي قصة فتاة تدعى «أنورا» وتعمل راقصة تعرٍّ في بروكلين، تتغير حياتها حينما تقابل شابًا ثريًا فتنشأ بينهما قصة حب يتفقان على الزواج بعدها ، لكن الأمور سرعان ما تتأزم بين الحبيبين عندما تعرف عائلة الشاب بالعلاقة الغرامية، وتأتي إلى المدينة رغبة في وضع حدّ لهذه المسألة ومنع عقد الزواج. 

البطلة تعيش حياة كئيبة في نيويورك، حيث تتعامل يوميًا مع زبائن يعتبرونها سلعة ولحمًا رخيصًا للذة، وهي منغمسية  في هذا النمط من الحياة لتأمين قوت يومها، وحياتها  تتأرجح مابين الزيف الليلي والكآبة النهارية، تتغير فجأة عندما تلتقي بفانيا، الشاب الروسي الثري الذي يصغرها سنًا. فتبدأ وتبدو العلاقة كحلم رومانسي، يدعوها فانيا إلى السفر معه بطائرته الخاصة ويعرض عليها الزواج، لكن خلف هذه الواجهة الحالمة، تتسلل شياطين الفوضى والتناقضات والمفاجآت التي لا تتوقف عند حد، فتجرف القصة إلى مصير محتوم في رحلة مليئة بالمفاجآت والعقد.

تقوم حبكة الفيلم على التباين الكبير  الذي يحيط  بالشخصيتين الرئيسيتين، وعلاقة الحب المستحيل بينهما، حيث ينكشف الغطاء عن الصراع الخفي ليس بين نموذجين حياتين واجتماعيين متنافرين فحسب، بل داخل كلٍّ من الشخصيتين، فيذهب الفيلم ليغوص إلى دواخل النفس البشرية  مُزيحًا الغطاء عن هشاشة العلاقات الانسانية، مع لمسة معاصرة حداثية. هنا عالمٌ من اليأس والانغماس والحياة المحملة  بالمرارة، وهناك عالمٌ عالم رومانسية أقرب منه للوهم من أن يكون حلمًا. 

تؤدي ميكي ماديسون شخصية أنورا البطلة، ضمن خيار سينمائي مميز، يُعتبر من أنجح وأهم الخيارات السينمائية المميزة هذا العام ـ مرشحة بقوة لجائزة أحسن ممثلة في حفل الأوسكار. حضور هذه المرأة لا يقوم على الجمال شكلًا، بل على الشخصية المركّبة والمعقّدة التي تحتضن في الآن نفسه، البراءة والطفولة والتيه والهرب والوجع والانكسار والخيبة والفرح والسعادة والكبرياء، حيث يتمكن المخرج من استخلاص إبداعات وموهبة  ميكي ماديسون، في قدرتها على تقمص الشخصية في أبعادها المتناقضة كافة. ولعل أبرز ما فيها في عز انكساراتها وخيباتها وهي تحاول إقناع فانيا بمعرفتها والعودة لها نجدها أيضاً  في ذات اللحظة مواجهة والدة حبيبها فانيا، المتسلطة والمغرورة، رافضة الخضوع لإملاءاتها، ومستعدة للتخلي عن حبيبها من دون أيّ إحساسٍ بالذنب والألم .

على الضفة الأخرى، يحضر فانيا، فيبدو في أول الأمر بمثابة منقذ لأنورا من الحياة الموحلة التي تعيشها. لكن شخصيته المستهترة والفوضوية ومظاهر الثراء التي تحفّ بها، سرعان ما تجعل قارب  النجاة هذا مبعثا للقلق والخوف والانكسار، بما يفضي إلى الوقوع من برج الحلم الرومانسيّ .

يقدم لنا شون بيكر الفيلم بواقعية شديدة وصادمة. فالقصة واقعية، والأبطال واقعيون، معجونين بتجارب الحياة، أنورا وفانيا والقسيس والخادم الوفي للملياردير الروسي  وأفراد العصابة. فيلم يحتضن أقصى درجات الحنان والحرارة والدفء والحلم، كما أقصى درجات الانكسار، وأشدها إيلامًا.

«أنورا» هو عمل سينمائي شجاع وفوضوي كأبطاله، ويثير العديد من التساؤلات ويقترب من القصص الكلاسيكية لكنه يقدمها بأسلوب غير تقليدي يعكس روح العصر. فيلم يستحق التقدير لجرأته وصدقه وبساطته. وهذا أجمل ما فيه.

اقرأ أيضا: أحسن 20 فيلمًا عربيًا في 2024 (قائمة شخصية)

شارك هذا المنشور

أضف تعليق