فاصلة

مراجعات

«إنقاذ الجندي رايان»… أن تنقذ رجلًا وتقتل الناس جميعًا

Reading Time: 4 minutes

حصد فيلم “إنقاذ الجندي رايان” Saving Private Ryan للمخرج الأمريكي ستيفن سبيلبيرغ (1998) على  خمس جوائز أوسكار، من بينها جائزة أفضل مخرج لسبيلبيرغ نفسه، وعلى الرغم من خسارته لجائزة أوسكار أفضل فيلم في العام، إلا أن كثيرين يعتبرونه الفيلم الحربي الأفضل تاريخيًّا.

أثناء تحضيري لكتابة هذا المقال وجدت أن الفيلم لم يتلق أي مراجعة سلبية من 38 مراجعة نقدية على موقع “ميتاكريتيك – Metacritic”. وفي سياق متصل من التبجيل يقع الفيلم في المرتبة 25 ضمن أفضل 250 فيلم بتقييم الجمهور على موقع “IMDB”، كما وضعه موقع “فارياتي- Variety” في المرتبة الأولى في قائمته لأفضل الأفلام الحربية في التاريخ. 

رغم كل هذا التبجيل النقدي والجماهيري فإنني لا أحب هذا الفيلم، ووجدت في ملف فاصلة عن الافلام المبالغ في تقديرها فرصة لطرح تساؤلاتي على الملأ: كيف تغيرت قيمة “إنقاذ الجندي رايان” بعد مرور أكثر من ربع قرن على توقيت عرضه؟ ولماذا يجب أن نسائل كجماهير ونقاد السردية البطولية الأمريكية التي تبدو غير قابلة للمساءلة؟ 

25 دقيقة غيرت تاريخ أفلام الحروب 

من الدقيقة الرابعة من الفيلم يبدأ تتابع مشاهد إنزال الجنود الأمريكان على شاطئ أوماها في ساحل نورماندي الفرنسي، لخمسة وعشرين دقيقة ينقل لنا سبيلبيرغ جحيم يوم الإنزال “D-Day” ومعه عشوائية وقسوة الحرب، ترتعش أيدي “كابتن ميللر” الذي يقوم بدوره توم هانكس وهو يقترب من الشاطئ، نشاهد أمعاء أحد الجنود الأمريكيين المصابين المستلقين على رمال الشاطئ وسط أمطار من الرصاص، يصرخ الجندي “ماما”، تهتز كاميرا سبيلبيرغ، الذي يقال أنه حملها بنفسه في بعض مشاهد هذا التتابع. 

قبل ربع قرن اعتبر كثيرون أن هذا التتابع هو التمثيل الأكثر واقعية للحرب على الشاشة: عشوائية، خوف، جنود يرتعشون، صراخ، بكاء، قيء، أمعاء تتدلى من أجساد مصابة، وجندي يحمل ذراعه التي سقطت بفعل قذيفة. ألوان باهته ووجوه شاحبه وكاميرا لا تكف عن الاهتزاز. 

تستمر قيمة هذا التتابع اليوم كإنجاز سينمائي يحسب لهذا الفيلم، رؤية غير مفلترة للحرب غيرت النظرية التي اشتهرت في هوليوود قبل ذلك، وهو أن لا أحد يريد في الحقيقة أن يصنع فيلمًا عن الحرب وفقط، الجمهور يريد أن يشاهد مثلًا حكاية رومانسية والحرب في الخلفية، أو لغز وتشويق والحرب في الخلفية، لكن الحرب بدمويتها وقتامتها وقبحها لا يجب أن تظهر في المقدمة. في هذا التتابع يتخطى سبيلبيرغ هذا ويقدم المحظور. 

تخطى هذا التتابع عقب ذلك أفلام قدمت من تتر البداية حتى تتر النهاية الحرب بوجهها القبيح، بلا أبطال أو تمجيد، منها على سبيل الذكر لا الحصر فيلم “1917” للبريطاني سام مينديز من إنتاج عام 2019، و”كل شئ هادئ على الجبهة الغربية” ِAll quiet on the western front للألماني إدوارد بيرجر من إنتاج عام 2022. 

هناك اختلافات أساسيان بين فيلم سبيلبيرغ وبين الأفلام التالية عليه، أولها أنه يدور عن الحرب العالمية الثانية بينما يدور الفيلمان المشار إليهما حول الحرب العالمية الأولى، والحرب العالمية الثانية هي الحرب التي تحتكر أمريكا فيها صورة أبطال الخير حتى وإن أسقطت عقب الانتصار فيها قنبلتين نوييتين أبادتا ما يزيد على 100 ألف إنسان لمجرد التجربة والردع. أما الاختلاف الثاني فيكمن في الصورة الكبيرة بعد تتابع شاطئ أوماها، وحتى في الدقائق الأربعة التي تسبقه، إذ تتناقض نغمة الفيلم مع الصورة القاتمة التي تسيطر على أجواء الحرب في الأفلام الأخرى وتحاول أن تصنع وتمجد بشكل تلقيني للغاية أبطالًا أمريكان. 

عَلَمٌ وموسيقى وتلاعب 

يبدأ فيلم “إنقاذ الجندي رايان” بكادر قريب يرفرف فيه العلم الأمريكي وحيدًا، وينتهي الفيلم بنفس الكادر أيضًا، يغلف سبيلبيرغ حكايته الإنسانية بغلاف الفخر الوطني الأمريكي. 

تدور الحكاية الإنسانية المتخيلة عن فرقة حربية أمريكية تذهب لاستعادة الجندي “جيمس رايان” بعد مقتل إخوته الثلاثة، ثمانية رجال يكلفون بمهمة شبه انتحارية لإنقاذ رجل وحيد من منطقة هي أقرب إلى جحيم على الأرض. يسبق المهمة مشهد قصير لمجموعة من القادة العسكريين الأمريكيين الذي يناقشون الأمر سريعًا، واحد منهم فقط يبدو مدركًا لمدى غباء المهمة، حيث يضحون بموارد بشرية كبيرة من أجل رجل واحد. ينتهي النقاش بشكل غرائبي باقتباس كبير هؤلاء القادة لجزء من خطاب منسوب للرئيس الأمريكي أبراهام لينكولن لأم أحد الجنود الذين قُتلوا خلال الحرب الأهلية الأمريكية، بعد الاقتباس يصدر كبير القادة قراره بإرسال فرقة إنقاذ الجندي رايان. 

تأتي قيمة لينكولن من كونه “مُحرِّر العبيد”، لكن سبيلبيرغ يستحضره هنا لإضفاء هالة من الإنسانية المتخيلة على قادة الحرب الأمريكيين. يضاف هذا إلى مشاهد رفرفة العلم المكررة مع موسيقى تصويرية ملحمية تستمر بشكل متصل وبصوت مرتفع في خلفية كل المشاهد التي يتحدث فيها القادة الحربيين الأمريكيين في مكاتبهم. 

هل يتحدث القادة الحربيين بالفعل بهذه الإنسانية والهدوء والحكمة فيما بينهم؟ هل تستمر الموسيقى الملحمية في خلفية مكاتبهم أثناء الحروب؟ أم أن الأمر محاولة إخراجية لصنع صورة تمجد هؤلاء الرجال؟ 

يمكن رؤية الفارق ببساطة إذا ما شاهدنا مشاهد القادة الحربيين في فيلم “دانكرك” Dunkirk لـ كريستوفر نولان (2017) وهو أيضًا عن جنود محاصرين على شاطئ فرنسي خلال الحرب العالمية الثانية. هذه المرة هم جنود بريطانيون، في فيلم نولان تختفي الملحمية والبطولة حتى لو كنا في فيلم لمخرج أمريكي عن الحرب العالمية الثانية، ولكن الزمن قد لفظ هذا التكنيك الإخراجي المهين لعقلية المشاهد. 

فيلم عن الحاضر لا الماضي 

في تعليقه على فيلمه البديع “منطقة الاهتمام” The zone of interest المتوج بجائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي لعام 2023، يقول المخرج البريطاني جوناثان جليزر إنه صنع فيلمًا عن الحاضر، رغم أن موضوعه يدور في زمن الهولوكوست خلال الحرب العالمية الثانية. يؤكد جليزر أن فيلمه مصنوع كي يخبر جمهوره الأوروبي أننا الآن وفي هذه اللحظة قد نكون مهتمين بإضفاء المزيد من الرفاهية على حياتنا، في نفس توقيت حدوث مأساة إنسانية بالقرب منَّا، تمامًا كما تفعل أسرة الضابط النازي الذي يقع بيته على بعد أمتار من معسكر “أوشفيتز”. يكرر جليزر في كل لقاء له: “فيلمي عن الحاضر، وليس لنقول أنظر كم كانوا سيئين في الماضي”. 

بالمثل ففيلم سبيلبيرغ  المصنوع في عام 1998 مرتبط بحاضره أكثر من ارتباطه بزمن الحرب العالمية الثانية، فيلم سبيلبيرغ الذي صرح حينها بأنه صنعه ليفكر القادة مرتين قبل أن يبدأوا حربًا؛ نخرج منه برسالتين أساسيتين: الأولى أن القادة الأمريكان على قدر كبير من الإنسانية والحكمة، سيرسلون فرقة كاملة لإنقاذ جندي أمريكي واحد وإعادته لأمه، والرسالة الثانية أنك كجندي أمريكي لا يجب أن تكون رحيمًا إن وقع في قبضتك أسير في الحرب، فالأسير الذي لم يقتله “كابتن ميلر” بعد أن حفر قبره بيديه، قتله في النهاية. 

حاضر “إنقاذ الجندي رايان” يخبرنا أن الأمريكان انتخبوا جورج دبليو بوش بعدها بعامين ليصبح رئيسًا لأمريكا، لتشن دولتهم بعدها حربين على أفغانستان والعراق، قتل خلالهما الآلاف من “رايان” ومئات الآلاف من المدنيين. 

هل “إنقاذ الجندي رايان” فيلم سيء على المستوى السينمائي؟ بالتأكيد لا، لكنه يتلاعب بك كمشاهد ويعمل تمامًا كأي فيلم بروباجندا. 

اقرأ أيضا: «قائمة شندلر»… طقوس «الفُرجَة» على المآسي

شارك هذا المنشور