فاصلة

مقالات

«إلينور العظيمة»: بورتريه لسيدة عجوز في سيرتها المختلقة

Reading Time: 5 minutes

مثلهم مثل سائر البشر، لا يسلم النجوم من التمييز، وإن جاء هذا التمييز بأسلوب يخصّهم وحدهم. فصحيح أن شهرتهم تفتح أمامهم أبواباً موصدة في وجوه غيرهم، إلا أن هذه الهالة نفسها قد تتحوّل إلى عبء حين يُنظر إليهم كدخلاء، أو كمَن حاز مكانته لا بالجدارة إنما بالشهرة. بهذا المنطق، تفاعل بعض النقّاد والمراقبين مع إدراج ثلاثة أفلام في قسم «نظرة ما» ضمن الدورة الأخيرة من مهرجان كانّ السينمائي: «إلينور العظيمة» للأميركية الدانماركية سكارليت جوهانسون، «كرونولوجيا الماء» للأميركية كريستن ستيورات، و«أورشون» للبريطاني هاريس ديكنسون. ثلاثة أعمال أولى لأسماء شهيرة في عالم التمثيل، ممّا دفع البعض إلى اتهام المهرجان بمحاباة النجوم حتى في الأقسام التي يُفترض بها أن تكون منبراً للأصوات المستقلّة التي لا تحظى بما يكفي من الاهتمام الإعلامي. 

لكن، مَن قال إن طالباً تخرج من معهد السينما، أقدر على صناعة فيلم من فنّان أمضى سنوات في العمل السينمائي، واكتسب دربة الكاميرا من أقرب نقطة؟ ثم، لماذا هذا التحامل على الممثّلين حين ينتقلون من أمام الكاميرا إلى خلفها؟ وكأن هناك حظراً ضمنياً يُفرض عليهم، رغم كثرة التجارب الناجحة التي تثبت العكس، كحال كلينت إيستوود الذي تحوّل إلى واحد من أعمدة السينما الأميركية. أليس من العبث أن يُطلب من الفنّان أن يكافح ليبلغ الشهرة، ثم يُفرض عليه أن يبرهن من جديد، بعد أن بلغ مرتبة معينة، ليثبت نفسه؟

«إلينور العظيمة»: بورتريه لسيدة عجوز في سيرتها المختلقة
Eleanor the Great (2025)

في كانّ، أسرعتُ إلى مشاهدة «إلينور العظيمة»، مبتعداً عن هذه الاعتبارات، ومدفوعاً بفضولي السينمائي وتوقي لاكتشاف مفاجأة. أثار هذا الفضول، حضور الممثّلة المخضرمة جون سكويب، ذات الخامسة والتسعين عاماً، وهي تتصدّر ملصق الفيلم بكاريزما صارخة.

دعونا نضع الأمور في نصابها: الفيلم يتنفّس من رئة السينما الأميركية المستقلّة، مستحضراً بأسلوبه كلّ ما منح هذه السينما مكانتها على مرّ الزمن: حميمية في تناول الحكاية، حرية سردية لا تُكبّلها قواعد، شخصيات مهمَّشة لا نجدها في أفلام «الماينستريم»، إضافةً إلى طاقم تمثيلي من الصفّ الثاني تتصدّر الواجهة. كلّ ذلك في خدمة قصّة مبتكرة، تنسج خيوطها ما بين الطرافة والأسئلة القديمة الجديدة، بين ابتسامة صادقة ولحظة تمسّ القلب. فيلم يُضحكنا بقدر ما يُحرّك مشاعرنا.

«إلينور العظيمة»: بورتريه لسيدة عجوز في سيرتها المختلقة
Eleanor the Great (2025)

إنها حكاية بسيطة تدور على إلينور التسعينية التي تعيش منذ سنوات طويلة برفقة صديقتها المقرّبة بيسي. علاقتهما التي تعود إلى سبعين عاماً خلت، صمدت لنزوات الزمن، فأصبحت كلّ واحدة منهما امتداداً للأخرى. نتابعهما في تفاصيلهما اليومية: المشي، التسوّق، الطقوس الصغيرة التي تمنح الأيام نكهتها. إيلينور، بخفّة دمّها وجرأتها وإصرارها على الاستمرار، تقتحم القلب من دون استئذان. إنها من تلك الشخصيات التي تعلق في الذاكرة منذ المشهد الأول، وتزرع في المتفرّج دفئاً يصعب مقاومته. شخصية المرأة المسنّة التي تتجاوز شرط عمرها، ليست بجديدة على السينما الغربية، وإيلينور تشكّل امتداداً لهذه التقاليد، إلا أن مسار الحكاية سرعان ما يأخذ منعطفاً حاداً.

فجأةً، ينفتح الفيلم على فيلم آخر، مغيراً نبرته ومساره، وذلك بعد أن تفارق بيسي الحياة. هنا، تجد إيلينور نفسها وحيدة، ربما لأول مرة في حياتها، أمام واقع لم تكن مهيّأة له، كأنها لم تفكّر يوماً في إمكان الفقد. لا يبقى أمامها سوى خيار واحد: الانتقال إلى مانهاتن للعيش مع ابنتها (جيسيكا هشت)، علّها تجد في هذه المدينة الصاخبة مخرجاً من وحدتها المفاجئة. لكن الابنة، المنهمكة في دوامة الحياة، لا تجد وقتاً لأمها. في نيويورك حيث «ما حدا لحدا»، تصبح إيلينور ضيفة على عالم تجاوزها منذ زمن بعيد، وعليها أن تبدأ حياة جديدة وهي… في الرابعة والتسعين!

وبما أن الفيلم يهودي الانشغال إلى حدّ معين — خصوصاً أن سكارليت جوهانسون يهودية من جهة والدتها — فليس من المستغرب أن يتسلّل موضوع المحرقة إلى السيناريو. لكن، وعلى عكس ما قد يتبادر إلى الذهن، يتم ذلك من دون إعادة نكئ جرح قديم.

ما يلي، قد يكشف بعض تفاصيل الحبكة، إلا أنه لا مفرّ من التطرق إليه لفهم سياق الأحداث: إذاً، بناءً على نصيحة من ابنتها، تقرر إيلينور زيارة المركز الثقافي اليهودي في المدينة، محاولةً الانخراط في محيط جديد والتعرف إلى وجوه جديدة. خلال هذه الزيارة، تدخل غرفة من طريق الخطأ، لتجد نفسها في اجتماع لدعم ضحايا المحرقة، هي التي لم تختبر تلك المأساة كونها وُلدت ونشأت في أميركا. لكن، في تلك اللحظة، تلمع في ذهنها فكرة جريئة: لماذا لا تنسج من خيوط ما سمعته، قصّة شبيهة بقصص الناجين؟ من هنا، تبدأ اللعبة. حكايتها المختلَقة تلفت انتباه نينا (إرين كيليمان)، صحافية شابة ترى فيها مادة إعلامية، فتدفعها لتوسيع روايتها والخوض في التفاصيل.

«إلينور العظيمة»: بورتريه لسيدة عجوز في سيرتها المختلقة
Eleanor the Great (2025)

لن أفصح عن المزيد، فجزءٍ كبير من متعة المشاهدة كامن في المفارقات التي ستتوالى، وسيتعامل معها الفيلم بحسّ عالٍ من الطرافة والدفء والذكاء. لا وعظ ولا محاضرة أخلاقية، بل لمسة إنسانية رقيقة، تليق بنفسية إيلينور، التي تخرج من هذه التجربة وقد تغيّرت من الداخل، كما لو أنها أعادت اكتشاف ذاتها في خضم الحيلة.

«إلينور العظيمة» هو في جوهره فيلم عن الفقد وما قد يفعله هذا الإحساس بالإنسان عندما يتغلل إلى داخله. فقدان إيلينور لصديقتها بيسي، الذي يزلزل عالمها الهادئ، وفقدان نينا، الصحافية الشابة، لوالدتها — غيابان يلتقيان في مساحة شعورية مشتركة، فتتجاوز العلاقة بين المرأتين ما هو ظرفي، لتتشكّل بينهما علاقة أشبه برابطة بين أم وابنتها. سكارليت جوهانسون تصوغ هذا الخيط الدرامي برقّة، من دون افتعال أو عاطفة زائدة. الانفعال لا يُفرَض على المُشاهد، بل يتسلّل إليه تدريجياً، كتلك المشاعر التي تصعد من الأعماق إلى السطح على دفعات. وهذه خاصية محبّذة في هذا النوع من السينما، حيث يعمل العقل والإحساس بتناغم، لا على حساب أحدهما الآخر.

إلى جانب ذلك، يُغني الفيلم قصّته الأساسية بتفرعات دقيقة: فالصداقة التي تنشأ بين امرأة تسعينية وفتاة عشرينية ليست مجرد تفاعل ظرفي، بل مدخل للتأمّل في العلاقة بين الأجيال، في كيفية تداول الذاكرة، وسبل حفظها من النسيان. أما الحياة بالاستعانة، أي من خلال التماهي مع تجربة شخص آخر، فهذا من صميم الفيلم. 

«إلينور العظيمة»: بورتريه لسيدة عجوز في سيرتها المختلقة
Eleanor the Great (2025)

جوهانسون، في الأربعين من عمرها، تقف في منتصف المسافة بين هاتين السيدتين، وتدير هذا التوازن ببراعة، مدعومة بتاريخها الشخصي وتجربتها المهنية التي تنعكس على طريقة اشتغالها خلف الكاميرا. ولا يمكن الحديث عن هذا الفيلم من دون التوقّف عند تيمة الزمن، ذلك الذي يمرّ على الشخصيات ويطبع كلّ تفصيل في حكايتها، بل ويمنح الفيلم كله نبرة تأملية.

الفيلم غني بالمواضيع الجانبية التي تنمو بهدوء على أطراف الحكاية، وتضفي نكهة إنسانية شديدة التفرد. ولعلّ أكثرنا لؤماً، سيجد متعة في كون الفيلم خارج هذا الزمن، بطلته ترى الحياة من منظورها الضيق، حيث لا شيء يستحق الهلع. الفيلم يهبّ علينا كنسمة صيفية منعشة، لا تفرض حضورها، بل تتسلّل إلينا خلسةً.

Eleanor the Great (2025)
Eleanor the Great (2025)

مع ذلك، نخرج من «إلينور العظيمة» بإحساس خفيف من عدم الاكتفاء. هناك شيء ناقص. السؤال الأخلاقي الجوهري، حول شرعية بناء كذبة شخصية على مأساة جماعية مثل الهولوكوست، يُطرَح عَرَضًا ولا يُعالَج بعمق كافٍ. صحيح أن جوهانسون تُشكَر لأنها لا تستثمر الموضوع بشكل فجّ، لكنها، في الوقت نفسه، تمرّ فوقه مروراً سريعاً.

سؤال «ماذا لو؟» يُلاحقنا إلى خارج القاعة: ماذا لو تولّى مخرج متمرس هذه الفكرة؟ إلى أي مدى كان يمكن أن تتحوّل إلى عمل أكثر تركيزاً أو تمساكاً درامياً؟ في بعض اللحظات، يُخيَّل إلينا أننا كمتفرجين، موجودون فقط كي نستجيب لحيل السيناريو، ولشخصية إيلينور التي تقود الفيلم أكثر ممّا ينبغي. وهناك بعض الابتزاز العاطفي، وبعض الرعونة في مفاصل معينة، خاصةً في خيارات بعض الممثّلين الثانويين الذين جاؤوا باهتين. ومع ذلك، لا يسعنا إلا أن نلاحظ الموهبة التي تكشف عنها جوهانسون كمخرجة. ورغم ميلها أحياناً لانتزاع دموع المُشاهد عنوةً، فإننا نغفر لها هناتها، لأننا نؤمن بأنها لا تقول كلمتها الأخيرة هنا، بل تبدأ مساراً واعداً. أما إيلينور، فيحرص الفيلم على أن يكون، بكلّ حنانه ورقّته، وثيقة عن روحها، وبورتريهاً عن الكِبَر والعزلة والصداقة والفرص الأخيرة.

اقرأ أيضا: «شبح مفيد»… من إنسان إلى مكنسة كهربائية!

شارك هذا المنشور

أضف تعليق