شهد مهرجان البحر الأحمر السينمائي في دورته الرابعة منافسة قوية بين مجموعة أفلام عربية، طافت بالمهرجانات الدولية وحجزت مكانًا لعرضها العربي الأول عبر شاشة مسابقة الأفلام الطويلة، التي تنافست على جوائز اليسر المقدمة في المهرجان.
تقدم المنافسة بصورة قوية كل من المصري «البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو» للمخرج خالد منصور في تجربته الروائية الأولى، والتونسي «الذراري الحُمر» للمخضرم لطفي عاشور، والفلسطيني «إلى عالم مجهول» أول تجربة طويلة للمخرج الفلسطيني الدنماركي مهدي فليفل، والذي عرض ضمن مجموعة أفلام برنامج نصف شهر المخرجين بالدورة الماضية لمهرجان كان السينمائي في مايو الفائت.
«الذراري الحُمر»، اقتنص جائزة اليسر الذهبية لأفضل فيلم، فيما حصد «البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو» جائزة لجنة التحكيم الخاصة، لتكن جائزة اليسر الفضية لأفضل فيلم من نصيب فيلم مهدي فليفل «إلى عالم مجهول».
قبل أكثر من عشر سنوات، قدم فليفل تجربته التسجيلية الطويلة الأولى «عالم ليس لنا»، الذي دشن حضوره واسلوبه القائم على الخشونة الحزينة، التي تصدم وتحاصر شعور المتلقي وأفكاره في آن. أسلوب فليفل جرئ، يعتمد على حركة كاميرا حرة تعنيها التكوينات، لكنها غير تأملية، وتشغلها الشخصيات أكثر من الأشياء، إذ لا يكاد يخلو كادر في أفلام فليفل من شخصية، لا حكايات بدون شخصيات، ولا أفلام بدون ضجيج نفسي وصراخ داخلي موجع بلا صوت.
منذ فيلمه الأول، وكصانع أفلام ولد في المنفى، يشغله الشتات الفلسطيني الراسخ أكثر من أي قضية أخرى، يراه في الداخل قبل الخارج، يخلص عبر تجاربه إلى أن الأزمة ليست في أي شيء أخر سوى الاحتلال، والاحتلال فقط. لا صراع سياسي ولا تناحر فصائل ولا معاهدات أو توقيعات. ثمة شعب مطرود لأن أرضه محتلة، دائرة جهنمية تخلصها جملة إدوارد سعيد التي يفتتح بها مهدي فيلمه الأحدث.
من بين آلاف من قصص اللاجئين خلال العقد الأخير مع انفجار الوضع في الشرق الأوسط، يحافظ مهدي على سرديته الخاصة، يفتتح فيلمه بجملة سعيد عن الشتات اللا منتهي، وتحدد تلك الافتتاحية توجهه.
الفيلم لا يتناول قضية لاجئين على اختلاف جنسياتهم، بل هو فيلم عن التشظي الفلسطيني، عن الأجيال الشابة – الأبطال في مرحلة العشرينيات- الذين كانوا لاجئين قبل اللاجئين، وظلوا لاجئين سط اللاجئين، ولا أحد يدري متى سوف يعودون إلى أرضهم المحتلة!
سؤال المجهول هو ما يشغل مهدي. لا من باب العدمية وفقدان الأمل في الوصول إلى نهاية ما، عادلة أو غير، لكنه سؤال غير متفائل وبلا إجابة قاطعة، وهي معضلة وجودية وفلسفية شاقة ومخزية، بل هي مكررة ونمطية من كثرة ما طرحت على الشاشة أو فوق صفحات التاريخ خلال أكثر من خمسة وسبعين سنة من النفي والإبادة.
في فيلمه الروائي الطويل الأول يحاول فليفل طرح هذا السؤال الوجودي الشاق دون خطابية أو طنطنة، وبمكر درامي يستحق التقدير، وعبر رحلة مفعمة بالارتجال والعشوائية والتخبط وفقدان البوصلة يخوضها الأبطال نحو الهدف. لا شيء متوقع في رحلة الثنائي الفلسطيني شاتيلا وابن خالته رضا المقيمان في أثينا -العاصمة اليونانية- كمحطة انتقالية في انتظار العبور إلى ألمانيا، حيث يحلمان بافتتاح مقهى عربي في واحد من أحياء الوافدين العرب، حتى يمكن لشاتيلا أن يستدعي زوجته الشابة وابنه الرضيع ويمكن لرضا أن يأتي بأمه التي عذبها كثيرا بسبب إدمانه للمخدرات.
حلم بسيط جدًا، لكنه معقد جدًا في نفس الوقت، مشروع وممنوع، بل يكاد يكون مستحيلًا بالنسبة لاثنين من الفلسطينين، وسط طوفان من حركة اللاجئين العرب نحو أوروبا.
لا يهتم مهدي كثيرًا بسرد كيفية وصول بطليه إلى أثينا، يفتتح فيلمه على ميدان صغير في المدينة ليعرفنا سريعا إلى ما يحاول الشابان ممارسته من أجل الحصول على تكاليف جوازت السفر المزيفة التي سوف تمكنهما من الطيران إلى ألمانيا، يخطفان حقيبة سيدة عجوز لا تملك سوى 5 يوروهات في كيسها الصغير، لكن لمحات عابرة تضرب بفرشات سريعة ابعاد الاثنين: شتيلا غاضب، حاقد على كل شيء، لعّان، فاحش، بذئ، بينما رضا مغلوب على أمر مزاجه الإدماني الهش، يتعاطف مع السيدة التي وجد أدويتها في الحقيبة، ربما تذكه بأمه التي لا تنفك تتصل به لتطمئن على تعافيه من دهس المخدر لشرايينه المحترقة.
يسلم مهدي صوت السرد الرئيسي في الفيلم لشاتيلا، ربما لمزاجه العصبي الذي يناسب التوتر المستمر في حركتهما باتجاه جمع المال بكل الطرق –غير المشروعة بالطبع- لنتصور أن شابًا فلسطينيًا، هاجر بشكل غير قانوني، مولود في مخيم ويحمل اسم واحدة من أشهر المذابح الدموية في التاريخ الإنساني الحديث(شاتيلا) على اسم المخيم الشهير، كيف سيكون مزاجه؟ وما هو الشرعي وغير الشرعي من وجهة نظره؟
هكذا يمكن نفهم نسبيًا أسباب اختيار عيني شاتيلا لسرد الرحلة المترعة بالخشونة والغموض، هو أيضا بطل درامي كلاسيكي في أوديسة حداثية؛ يرغب في العودة إلى المنزل. ولكن أي منزل؟ هل المنفى هو المنزل؟ أم الزوجة أم توقف الشتات عن اللهاث في صدره ودمه؟ ماذا تعني الرغبة في العودة إذا لم يكن هناك بيت؟ ماذا يعني أن يحمل شخص اسم مخيم لاجئين؟ هذا ليس اسما لمدينة أو صفة لواحدة من قوى الطبيعة؛ بل عنوان لمذبحة! يختصر اسم شاتيلا تاريخ شتاته الدموي الطويل، من قبل أن يولد وإلى ما شاء التاريخ.
قام فليفل بمغامرة صياغة رحلة بطل درامية منقوصة العناصر؛ فثمة هدف وهو الوصول إلى ألمانيا واستقدام الابن والزوجة، وثمة طريق غامض مهلك بلا أسلحة أو خوذات او دروع، وثمة وحش رابض دوما في صورة سمسار التهريب الذي يطالب بأموال كثيرة من أجل توفير الجوازات المزورة، وهناك درب مجهول صامت، غير معلوم كلية، عشوائي الظهور – تارة محاولة تهريب الطفل الغزاوي لعمته في ايطاليا وتارة النصب على مجموعة لاجئين سوريين- كل هذا متوفر. ولكن ثمة غياب تام لعنصر مهم جدًا في رحلة أي بطل وهو المِنتُور/ المعلم/ أو دليل الرحلة.
رحلة رضا وشاتيلا بلا دليل، حُذف الدليل الكلاسيكي التقليدي ليبني مجهولية وغموض مصير أصحاب الرحلة، فلا أحد يقود شاتيلا ورضا سوى غريزة اللاجئين المرتبكة وشعورهم بالاستحقاق – ولو جزئيا- بما يمنحهم تصريح ارتكاب الأخطاء والخروج على القوانين، ليس لأنهم مجرمين؛ بل لأنهم لاجئيين فلسطينيين مُحتَلين ومطرودين وهائمين على وجوههم في عتمة الرفض والشتات.
وفي محاولته المستمرة تحقيق أي مكسب مادي بأية وسيلة، يتذكر شاتيلا دوما افتقداه الرهيب لأسرته (الأوديسة) خاصة حين يلتقي بالطفل الغزاوي الذي يمكن أن نعتبره الجيل الأحدث والأكثر قتامة في الشتات، فيوعز شاتيلا إلى رضا بخطة تهريبه والحصول على سمسرة من ورائه، ولكن حتى هذا يفشلون فيه، ويعبر الطفل بالفعل إلى ايطاليا بصحبة صديقة شاتيلا اليونانية تاتيانا على اعتبار أنها أمه. تبدو تاتيانا امرأة مهشمة نفسيًا وروحيًا بشكل مثير للرثاء، ولكن حتى هذه العملية تفشل، وتزيد من إحباط رضا وغضب شاتيلا، وبالتالي يبدأ في البحث عن عملية أخرى.
هنا يمكن أن نتوقف أمام تكوين شايتلا بحكم كونه عين السارد الأساسية، فهو أيضا نموذج للبطل الدرامي، صحيح أنه مهزوم وجوديًا ونفسيًا وإنسانيًا، لكنه على مستوى الدراما يعتبر شخصية فعالة إلى حد كبير، فهو الذي يخطط ويقدم على ارتكاب «العمليات»، بل هو الذي يقود رضا بحكم كون الأخير هو الأكثر هشاشة على المستوى الجسدي والنفسي. وهي لعبة درامية ذكية من السيناريو، بتحويل بطل الرحلة نفسه إلى شبه منتور لتابعه، او صفيه أو زميل رحلته، كأن أعور يقود أعمى نحو الهلاك، وهو الهلاك الذي يصبح من نصيب رضا في النهاية، فرضا هو الحلقة الأَضعف في كل خطط شاتيلا، نظرا لتحكم عنصرين شديدي الخطورة – بالنسبة لأهل الشتات- في نفسيته: إدمان المخدرات، وإدمان الإنسانية.
تنبع قوة شريط مهدي فليفل في كونه غير متوقع على الدوام، لا الشخصيات ولا نحن يمكن أن نرى ما سيأتي، حتى لما تخطط له الشخصيات بما يتصورون أنه دقة وعناية. على سبيل المثال لا يمكن توقع أن تنكر المرأة اليونانية بيتها وتختفي عقب رحلتها إلى إيطاليا مع الطفل الغزاوي، دون أن يحدد الفيلم مصيرها في النهاية ولا أسباب الأختفاء، ولا يمكن توقع أن تغلق عمة الولد الغزاوي تليفونها وتصل رسالة بالإيطالية إلى شاتيلا كلما اتصل بها من أجل اموال سمسرة التهريب، مما يستدعى إلى رأسه نصب فخ جديد من أجل استغلال مسألة تحويل المكالمات وبالتالي محاولة استدراج ضحايا –مثلهم- لينفذوا خططهم.
نتوقف هنا أمام تفصيلة نهش الضحايا لبعضهم، صحيح أن لدينا درجة عالية من حضور الشتات بالنسبة للشابين الفلسطينين، لكن ثمة تجليات أخرى للشتات تظهر من خلال نماذج مثل السوريين الثلاثة اللذين يستدرجهم شاتيلا ورضا من أجل خطة سمسرة تهريب مزيفة، وهناك حتى المرأة اليونانية التي تعيش شتات نفسي وروحي ليس بسبب إدمانها للكحول؛ ولكن لكونها وحيدة بلا رجل ولا ونيس، تعيش في شقة متواضعة تطلق عليها قصرا، وتقضي وقتها في اصطياد الشباب مدعية أنها ليست رخيصة، بينما هي مكسورة الإدرادة مهزومة الجسد والروح.
هذه الهزيمة سواء التي يرى فيها شاتيلا حقيقة المرأة أو حتى تعاطف رضا مع الرجل السوريين الثلاثة الذين احتجزهم مع شاتيلا من أجل خطة التهريب المزيف؛ تزيد من الحمل النفسي والعاطفي والإنساني، ليس فقط على ضمير شاتيلا ولكن على ضمير المتلقي نفسه، فالصراع هنا ليس بين خير وشر ولا بين قوي وضعيف، ولكن بين ضعيف وأكثر ضعفًا، والأكثر ضعفًا هنا ليس المرأة والرجال الثلاثة، بل شاتيلا ورضا نفسيهما، لأن الأكثر ضعفًا هو الأكثر شراسة عادة.
على مستوى اللغة السينمائية لا يمكن إغفال عنصر التمثيل الذي يعتبر الحامل الرئيسي لكل عناصر التجربة دراميًا وبصريًا، فكما سبق وأشرنا أن كادر مهدي لا يكاد يخلو من شخصية، لا يوجد اعتناء بتكوينات جمالية في ذاتها ولا شمس تشرق أو مدينة سابحة في ذهب الغروب. بل على العكس، ثمة ما يمكن اعتباره تعمد لأن تبدو المدينة بجدران قبيحة مشوهة، مرسوم عليها بالجرافيتي الساذج أو طلاء الجدران الباهت والمتأكل أو المموه، كأننا في سراديب وحارت مُنهكة أو عالم سفلي – وهو التصور الإغريقي الأقرب لرحلة أبطال مهدي.
وكما حكى مهدي في لقائه مع جمهور مهرجان البحر الأحمر، فقد استغرق عامين ونصف من أجل الاستقرار على كل من محمود بكري، ربيب آل بكرى العائلة السينمائية الفلسطينية الأشهر، لأداء شخصية شاتيلا، بينما جاء لاعب الاسكيت والمونتير آر. إم في صدفة قدرية ليستقر في دور رضا، ويصبح كلا الشابين – في العشرينات من عمريهما- هما الثنائي الرائع الذي وصل بالشخصيتين الرئيستين إلى تخوم التسجيلية، فدرجة التقمص روحيا وجسديا لحالة الشتات والتخبط والحركة العشوائية دون بوصلة أو دليل بدت وكأنها بالفعل رصد لحياة الشخصيات وليست تمثيلا أو تشخيصا يعاد بنائه دراميا وأدائيا بهذا الشكل الصادق والحقيقي جدا.
اقرأ أيضا: قائمة جوائز مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي بدورته الرابعة