العلاقة بين النص الأدبي الجيد وصانع الأفلام الموهوب علاقة مثيرة للانتباه، عصيّة على الافتراضات المسبقة، كل شيء فيها مسموح، من التمسك بالأصل حد التقديس، إلى التحرر الكامل من قيوده. وفي مقال للناقد اللبناني هوفيك حبشيان ذكّرنا بما فعله ستانلي كيوبرِك برواية ستيفن كينغ الأشهر «البريق The Shining» عندما حولها إلى فيلمه الشهير، فلم يكتف بخيانة النص، بل نكّل به عمدًا حسبما يروي حبشيان: «في الفيلم سيارة العائلة فولكسفاجن صفراء. في الرواية كان لونها أحمر. عندما يتوجه الرجل الأسود إلى الفندق لإنقاذ العائلة، نرى على الطريق سيارة فولكسفاجن حمراء محطمة. في كتاب ستيفن كينغ لا توجد سيارة محطمة. كلّ ما فعله كوبريك هو تحطيم السيارة الحمراء ورميها على قارعة الطريق (هامش الفيلم)، واستبدالها بواحدة صفراء!».
حسنًا، هذه حالة متطرفة لا يمكن القياس عليها، لكن ما نقوله أن اختلاف الوسيطين يخلق تلقائيًا هذا التوتر، الذي يسفر في حالاته الإيجابية عن نتائج إبداعية مدهشة، مثلما فعل داود عبد السيد – مثلًا – في فيلمين متتاليين، الأول هو «الكيت كات» الذي فكك فيه رواية إبراهيم أصلان «مالك الحزين» وأعاد ترتيب ثقل شخصياتها وعلاقاتها بما يكفل صناعة فيلمه الأيقوني، يليه «سارق الفرح» عن قصة قصيرة بنفس العنوان لخيري شلبي، كان حجمها دافعًا لاعتبارها مجرد نقطة انطلاق، إلا أن عبد السيد بنى عليها عالمًا كاملًا فوق هضبة المقطم.
يبدو المثال الأخير الأقرب لحالة الفيلم موضوع المقال، «إحتراق Burning» للكوري الجنوبي لي تشانج دونج، والمأخوذ عن قصة قصيرة بعنوان «إحتراق حظائر Barn Burning» للأديب الياباني هاروكي موراكامي، نشرها لأول مرة في صحيفة «نيويوركر» عام 1983، ثُم نُشرت عام 1993 مع قصص أخرى في مجموعة بعنوان «الفيل يختفي The Elephant Vanishes». الفيلم الذي استضاف مهرجان كان السينمائي الدولي عرضه العالمي الأول عام 2018، ونال في نهايته جائزة الاتحاد الدولي للنقاد (فيبريسى).
أصل مقتضب وأفق واسع
قصة موراكامي واقعية، تسبق مرحلة استغراقه في الأعمال ذات الصبغة الماورائية، 13 صفحة تروي قصة كاتب متحقق، يدخل علاقة مع امرأة شابة، تتركة لتسافر إلى أفريقيا فتعود بصحبة ثري شاب تميل إليه فيغدو البطل – على تقديرها له – مجرد صديق وإن حمل داخله انجذابًا إليها. حتى ليلة يصارح فيها الشاب البطل بعد تدخين المخدرات بأن لديه هواية غريبة هي حرق الحظائر المهجورة، واحدة كل عدة أشهر. هواية لا ينتبه لها أحد لمحدودية الضرر، تصير هوسًا يسيطر على البطل الذي يحاول توقع الحظيرة التالية التي سيحرقها الشاب فيفشل، في الوقت الذي تختفي فيه الفتاة من حياة كليهما.
لي تشانج دونج يستخدم القصة (متوسطة المستوى على أفضل تقدير)، مادة خام لحكايته؛ فيحتفظ في السيناريو (الذي كتبه بمشاركة أو جونج مي) ببعض المعالم الرئيسية: ممارسة البطل للكتابة والبطلة للبانتومايم (التمثيل الصامت)، رحلة أفريقيا وعودتها مع الشاب الثري، الزيارة التي تنتهي بالمصارحة مع تعديل ما يحرقه الشاب من الحظائر إلى الصوب الزجاجية تماشيًا مع طبيعة الحياة في كوريا الجنوبية، وصولًا لاختفاء الفتاة الذي يتأكد منه البطل بعد مقابلة الشاب بالصدفة.
لكن صانع الأفلام الموهوب يتعامل بحرية مع هذه المعالم المأخوذة من القصة القصيرة، فيعيد مزجها على طريقته، بأفق درامي وفكري أوسع، مع إجراء تعديلات جذرية منحت الفيلم تأويلات مختلفة تمامًا عن الأصل الأدبي. تأويلات أكثر كثافة تطرح أفكارًا مثل عدم التحقق والتوتر الطبقي والإحباط في الحب الذي قد يصل حد الهوس.
فالبطل جونجسو لم يعد كاتبًا متحققًا في منتصف العمر، بل يصير مجرد شاب فقير ريفي الأصول، يحلم بأن يصير كاتبًا. والفتاة هايمي تصبح جارة قديمة وفتاة إعلان جذابة، فقيرة أيضًا تحلم بالثراء، تظهر فجأة وتقدّم نفسها وتروي له أنه كان السبب في إجرائها جراحة تجميل بسبب تعليقه السيئ على شكلها، وإنها أيضًا تحمل له ذكرى طيبة عندما أنقذها قديمًا عندما سقطت في بئر. تأخذه بيتها الفقير وتمارس معه الجنس، لتكون هي المرة الوحيدة التي يفعلانها (على العكس من القصة التي تجمعهما فيها علاقة طويلة وإن كانت متقطعة). ولا يقابلها بعدها إلا ثلاث مرات، تُشكل كل منها معطفًا في دراما روائية من طراز فريد.
أربع مقابلات وبطل روائي
نقول أنها دراما من طراز فريد لأن لي تشانج دونج يرسم شخصيات شديدة الثراء والتعقيد، بإمكانك أن تدرك دوافعها وأزماتها النفسية دون أن يحدث الكثير على الشاشة، فقط إشارات خافتة، كأشعار الهايكو اليابانية، سطور مقتضبة تفتح بابًا على مشاعر متداخلة لم تعبر عنها قصة موراكامي بهذه البلاغة التي يملكها الفيلم.
المقابلة الأولى لم تكن متوقعة، يوم بدأ كغيره وتقاطعت فيه الطرق ليجد جونجسو نفسه في نهايته يمارس جنسًا لم يحلم بحدوثه بهذه السرعة، جنس قد يحمل دافعًا انتقاميًا من قبل هايمي التي جرحتها كلماته لحد تغيير شكلها، لكننا (وباستخدام بصري مدهش لإضاءة الشقة الضيقة) نعلم أن هذه العلاقة أوقعت جونجسو في حب هذه الفتاة البسيطة والجميلة والحالمة.
اللقاء الثاني مأخوذ من الأصل القصصي، هو ذهابه لمقابلتها في المطار عند وصولها ومفاجأة ظهور الثري بين معها. لكن تشانج دونج يضيف تفصيلة هي حضور جونجسو بسيارته البسيطة التي يستخدمها في نقل البضائع، وحضور أحد أصدقاء الشاب الثري «بين» في نهاية الليلة بسيارة بورش ليُقل بين وهايمي لمنزلهما؛ أي أن الفتاة لم تكن في حاجة لأن يوصلها البطل من الأساس، لكنها أصرت أن ينتظرها في المطار، ربما لأنها تكن له مشاعر طيبة كما يُقال له لاحقًا، أو إمعانًا في الانتقام وتأكيدًا على أنها أصبحت رفيقة رجل آخر تصعب منافسته.
ثالث اللقاءات خلقه السيناريو، وفيه يزور جونجسو منزل بين الفاره، ليسأل هايمي مندهشًا «كيف يمكنه أن يعيش حياة كهذه في سِنِّه؟» سؤال مغلف ببراءة الفتى الطفولية، لكنه يرسخ هذا الشعور الضاغط بغياب العدالة. كيف يمكن لفتى بسيط طيب القلب أن يقف في وجه ما يمثله بين؟ انسحاق كامل لأي أمل امتلكه في استعادة هايمي، حتى لو كانت مجرد تسلية عابرة في حياة الشاب الثري، يسخر أصدقائه منها ضمنيًا دون أن تدرك الفتاة المستمتعة بالتجربة.
دون ذلك التصاعد في المقابلات الثلاث، لم يكن من الممكن أن يكون للقاء الرابع والأخير- في ليلة كشف بين عن هواية إحتراق الصوب الزجاجية – ذلك الأثر الفارق في حياة جونجسو، الذي يغدو هوّسه بتحديد هدف الإحراق التالي أكبر من مجرد فضول، بل هو نتيجة طبيعية لإحباطات الحب والحياة والعدالة، إحباطات عليه – وعلى كل من يعيش ظروفًا مماثلة- أن يتعايش معها دون حتى أن تحق له الشكوى.
«إحتراق» لي تشانج دونج عمل سينمائي بديع بشكل مجرد، بسرده المقتصد وتمكنه من التعبير عن أعمق الأفكار وأعقد المشاعر بالحد الأدنى من الأحداث والحوارات. لكن وضعه في مقارنة مع قصة هاروكي موراكامي القصيرة يزيده ألقًا، ويجعله نموذجًا قياسيًا يمكن تدريسه لنجاح تعامل صانع الأفلام مع النص الأدبي، وكيف يمكن أن يأخذ منه نقاط ارتكاز يصيغ منها حكايته وأفكاره، فتكون النتيجة أقوى أثرًا من أصلها القصصي.
اقرأ أيضا: «عصابة الماكس»… للاقتباس أصول!