يحمل الفيلم العراقي القصير “إبراهيم” الحاصل على تنويه خاص من لجنة تحكيم مسابقة أجيال بمهرجان برلين خلال الدورة ال 75- عنوان ملفت وجذاب باللغة الأنجليزية Beneath Which Rivers Flow وترجمته (تجري من تحتها الأنهار) وهي آيه قرآنية معروفة عن محاولة تقريب صورة مادية للجنة كما ترد في التصور الإسلامي.
ربما كان من الصعب في اطار الحساسية الدينية الحالية، خصوصًا عقب سنوات داعش وما شابهها أن يستعير مخرج عربي من النص القرآني عنوانًا لفيلمه. كان يمكن لهذا الاختيار أن يوضع في إطار التلقي المتوازن والواعي قبل أربعة عقود من اشتعال الشرق الأوسط بنيران “الصحوات” و”الجهاد” و”الدواعش”، على سبيل المثال فهناك أكثر من فيلم ضمن قوائم إنتاجات السينما المصرية تحمل عناوين مأخوذة من آيات قرآنية، تحولت مع الوقت إلى حكمة يومية تجري على ألسنة الناس في حديثهم اليومي، مثل: إن “كيدهن عظيم” من بطولة حسين فهمي وعفاف شعيب و”بالوالدين إحسانا” من بطولة فريد شوقي.
أما عنوان الفيلم باللغة العربية فيحمل اسم الشخصية الرئيسية؛ الشاب إبراهيم راعي الجاموس الصامت بوجهه المنحوت من طين الأهوار، وصمته المطبق على مشاعر عميقة يكنها لبيئته الغالية.
يحكي المخرج على يحيى من خلال عيني إبراهيم وشعوره الشفيف بما حوله، سرديته التي تتأرجح ما بين هواجس التغير المناخي وسؤال هوية المكان، بينما يقبع وسط حشائش الأهوار العالية، البعيدة عن المدن وحقول النفط وحروب العرق والدين.
وجه رمادي ملون
يبدأ الفيلم بوجه إبراهيم، رمادي في اطار من الأبيض والأسود. عيناه متسعتان كأنما هما لسان حاله. لا نراه يتكلم ولا نسمع صوته الطبيعي في أي مشهد، لكننا نسمع حديثًا طويلاً تطلقه عيناه اللتان أدرك صانع الفيلم أنهما اصلح من أي صوت لسماع ما يعتمل داخله.
تحمل عينا إبراهيم أكثر من مجرد تعريف به، تحملان نبوءة، نراها في هيئة هواجس او تهويمات كأنما تصحو من رأسه، فثمة أشخاص لا نتبين ملامحهم ولا نعرف من هم على وجه التحديد، يحملون قناديل مضيئة تجاهد لكسر عتمة غامضة، ويمضون كأنما في خلاء مجرد من الروح، مصحوبين بموسيقى تعكس غرابة التصورات أو خياليتها.
ثم يتلون وجه إبراهيم مع اختفاء هذه التهويمات، وعودته إلى زمنه وبيئته الطبيعية الحانية الدافئة التي يكللها الضباب كأنما هي ما بين الحلم والحلم. ورغم بساطتها الشديدة وفقرها الواضح في تفاصيل الملابس والأكل وأكواخ القش الصفراء، إلا ان احتضان إبراهيم في لقطة طيبة – هي التي نراها في بوستر الفيلم- لواحدة من الجواميس التي يرعاها، تعكس مدى شعوره بالثراء الداخلي، والمحبة والقناعة، رغم ما نراه من نظرات الخوف التي تحدقه بها أمه وهي ترنو إليه، بينما تصنع الخبز متوجسة من شروده المقيم.

لا ندرك شيئا عن ماهية النبوءة إلا عندما نرى المشهد الخيالي الذي يرى فيه إبراهيم مركبات فضائية ضخمة تبدو مثل براميل أو آلات شفط عملاقة معلقة في سماء الأهوار كأنما تسحب الماء الذي يدب على أرض الرافدين منذ آلاف السنين.
هنا يبدأ الصراع في التبلور، الصراع الدرامي غير المتكافئ بين مجموعة الفلاحين – أسرة إبراهيم- وبين هذه الشفاطات العملاقة التي تحلق بشكل فضائي فوق ما تبقى من مساحات الماء، التي سبق أن رأيناها بينما كان يشقها إبراهيم بمركبه الخشبي في رشاقة تراثية حانية.
مع ظهور مشهد المركبات أو البراميل العملاقة الطائرة، ندرك إننا أمام فيلم عابر للأنواع، فلا هو بالوثائقي الكامل ولا الروائي الفانتازي. صحيح أن إبراهيم وعائلته وجواميسه وقاربه الخشبي النحيف وسطح الأهوار المائي الذي يمرق فوقه كلها تفاصيل واقعية وحقيقية، وصحيح أننا أمام ايقاع هادئ يحاكي في بطئه بساطة البيئة ومحدوديتها المادية في مقابل ثرائها النفسي والروحي، كما يظهر من خلال تكوينات الكادارات التي يؤطر فيها المخرج إبراهيم وسط مكونات بيئته من ماء وقش وضباب رقيق مقتبس من بخار الأحلام؛ إلا أننا في الوقت نفسه أمام تطور درامي يمد خط الهواجس على استقامته، بادئًا برؤيا يراها إبراهيم في يقظته – لا ننسى ان اسم إبراهيم في الموروث الديني مرتبط بحلم الذبح والفداء- حول اشخاص يبحثون في ضوء شحيح عن شيء ما غائب وغير واضح. ثم حين نرى المركبات العملاقة كأنها مخازن تسحب ماء الأهوار، ندرك أن ثمة أمر جلل يحدث، فعندما يُشفط ماء الأهوار يغيب النهار وتنتشر ظلمة شفقية باهتة وحزينة، ثم يعود مشهد البداية للتحقق، وكأن النبوءة استقرت أخيرًا وتشكلت ملامحها، او لنقل الكابوس الذي كان يؤرق إبراهيم منذ البداية، حين كان وجهه طافحا باللون الرمادي قبل أن تلونه طقوس اليوم التقليدي في حضرة الماء والعشب والقش والجواميس.

لن تجري من تحتها الأنهار
يتأرجح الفيلم بين هاجس التغيرات المناخية التي تودي بحياة البيئات الطبيعية الحية منذ آلاف السنين، وبين شعور بأن هوية المكان نفسه في خطر. في الفيلم لا نرى أي مظهر من مظاهر الحداثة أو التكنولوجيا أو المعاصرة الزائفة، حتى أن المشاهد يشعر أن ما يمارس من أفعال رعي الحيوانات وحصد القش والسباحة بالقوارب الرفيعة فوق ماء الأهوار أو عجن الخبز وتسويته، بل وحتى هيئة إبراهيم وعائلته، كل هذا يبدو وكأننا في زمن أخر، قديم، لكنه لا يزال حيا نابضا بالحركة، وقادر على البقاء بعيدًا عن كل مظاهر التقنية التي تلوث في جانب منها طبيعة حياتنا في شبه الحضارة التي نعيشها حاليًا.
هناك يقبع تماس شفاف بين الطبيعة وسكانها، يقدمه المخرج في الانتقال من مشاهد حظيرة الجواميس إلى سطح الأهوار بمائه الثقيل، بينما يقف إبراهيم محاط بضبابية رائقة، كأنه يقف داخل لوحة منقمة من صنع فنان حساس، رغم عيناه التي تنظران إلى مجهول على وشك أن يفكك جمالية الصورة التي يعيش بداخلها.

ينتقل المخرج في فيلمه ما بين افتتاحية وثلاثة فصول قصيرة: النبوءة الغامضة، ثم الواقع كما يعيشه إبراهيم وعائلته، ثم ظهور البراميل الطائرة لتسحب الماء الوفير من الأهوار العتيقة، ثم تحقق النبوء وجفاف الزرع والضرع، حين نرى جثة الجاموسة التي احتضنها إبراهيم في مشهد سابق وهي مسجاة بلا روح، بعد أن جفت البيئة من حولها، وتغيرت هوية المكان التي لم تتغير منذ قرون، بسبب غزو التقنيات العمياء التي سحبت ليس فقط الماء حد التجفيف الكامل ولكنها شوهت أيضا شخصية المكان وتفاصيله الثابتة داخل إطار جغرافيا الروح الأصلية.
هكذا يغيب النهار، ويشح الضوء، حتى يضطر إبراهيم وعائلته إلى أن يتحركوا بالقناديل في غبشة يوم معتم – ثمة اشتغال ملفت على درجات الأعتام والنور يستحق معه الإشادة بحساسية كل من المخرج ومدير التصوير- فيتحقق الكابوس الذي راود إبراهيم في البداية، ويصبح عليهم في نهاية الأمر أن يشعلوا النار في القش الذهبي الذي كان يشكل جدران الكوخ الذي يسكنونه، ليصبح تأويل إشعال النار إما احتجاج او محاولة لجلب ضوء أخير بعد ان سيطرت العتمة التي تسبب فيها غياب الماء القسري. فجنة إبراهيم الدنيوية تمزقت إثر غزو غرائبي يصعب على وجدانه الصغير إدراكه، وجاموسته الحبيبة قد نفقت، ونهاره الشفاف قد أعتم، وحتى كوب اللبن الرائق الكثيف الذي نراه يشربه بتلذذ مع أخاه لن يعود في إمكانه الحصول عليه – اللبن أيضا من الإشارات المادية في وصف الجنة ضمن المنظور الإسلامي.

إبراهيم فيلم شاعري تحذيري، يتجاوز المباشرة التلقينية لأفلام البيئة والمناخ، وباشتغاله الدقيق على الصمت كأداة جذب لصالح الصورة والإيقاع والتأمل الهادئ في مكونات البيئة التي يصورها، تمكن من إنجاز حالة بصرية عابرة للأنواع، لكن دون غموض أو تقشّف شعوري، وبلا مبالغات تجريبية أو قشرة سوريالية مدعية، بل عبر فهم واع لطبيعة التجربة وأدواتها، والتي يمكن الجزم بأنها نابعة من دراسة البيئة ومعايشتها جماليًا قبل أي توجه فكري سواء كان يخص الأزمات المناخية أو تكسر الهوية لصالح حداثة تقنية عمياء لا ترى في الطبيعة سوى مصادر للطاقة وتوريد المواد الخام؛ وليست جزءًا من جسد خفي حساس ينبض بروح حية.
لكن ليست كل العيون كعيني إبراهيم، مؤهلة لسماع هذا النبض أو التقاط لونه الدافئ.
اقرأ أيضا: صناعة «الهَبّة».. الطريق إلى النجاح في شباك التذاكر السعودي