فاصلة

مراجعات

«أوه كندا»… كيف يتحول تيار الحكاية من البطولة إلى الموت

Reading Time: 3 minutes

حينما تتصفح برنامج المسابقة الرسمية لمهرجان كان في دورته 77، لا بد أن يستحوذ على اهتمامك الفيلم الأحدث للمخرج الأمريكي “بول شرايدر” والذي يحمل اسم “أوه كندا” Oh Canada.

اسم شرايدر يرتبط لدى محبي السينما بعدد من أجمل وأهم أفلام الموجة الهوليودية الجديدة التي شارك منذ بدايتها في السبعينيات في صناعة أيقونات سينمائية منها فيلمي سكورسيزي  “سائق التاكسي” Taxi driver و”الثور الهائج” Raging bull، وهذا وحده كاف لتتبع أحدث أعماله، لكن الفيلم “أوه كندا» كفيل في ذاته بإثارة الاهتمام بسبب من موضوعه، إذ يعدنا الفيلم بحكاية عن رجل أمريكي هرب من التجنيد في الولايات المتحدة أثناء حرب ڤيتنام وهاجر إلى كندا. 

قد تتوقع أن يركز الفيلم على البطولة في رفض الحرب، لكن الأمر مختلف تمامًا، فالفيلم يصحبنا في رحلة عن الموت، خلالها يعيد شرايدر اكتشاف “ريتشارد غير” كممثل.

أوه كندا

الفيلم مأخوذ عن رواية للأديب الأمريكي الراحل راسل بانكس، وتدور أحداثها عن كاتب وصانع أفلام أمريكي يحمل اسم “ليونارد فايف”، يهرب من الولايات المتحدة ويعيش في كندا، الرواية كما الفيلم تدور عن مقابلة أخيرة يجريها “فايف” ضمن محاولة لصنع وثائقي يخلد حياته، هذا لا يحدث وتتحول المقابلة لاعتراف طويل يتعرى فيه “فايف” كاشفاً عن كل خطاياه. 

هكذا يصبح الفيلم اولاً هو محاولة لتحويل عمل أدبي إلى الفيلم، وهو في نفس اللحظة فيلم يدور عن محاولة صنع فيلم، يمتزج هنا الطابع الأدبي للنص بما يتطلبه من حضور صوت الراوي في مونولوجات يخبرنا خلالها “فايف” بما يفكر فيه، مع طابع “الميتا فيلم” حيث نصبح أمام كاميرا تنقل لنا كادر داخل كادر الفيلم. 

كل هذا يمكن أن يؤدي لفوضى، لكن شرايدر ينجح في معالجته بنجاح، فنستمتع بما تحمله الخلفية الأدبية من الحكاية بتعليقات كوميدية داكنة من “فايف” نسمعها كجمهور ولا يدري صناع الفيلم الوثائقي عنها شيئاً، كما نستمتع بمحاولات صنع الفيلم داخل الفيلم بجماليات بصرية كتغيُّر حجم الكادر وتوزيع الأضواء والظلال كلما أصبحنا داخل الصورة الوثائقية التي يعترف عبرها “فايف”. 

يستخدم شرايدر – الكاتب والسيناريست المخضرم قبل أن يكون مخرجًا- تقنيات سرد عادة ما يرتبك معها الحكي في كثير من الأحيان داخل الزمن الفيلمي، وهي تقنيتي تداعي الذكريات وتداخل الأزمنة. 

استخدام هذه “التكنيكات” مثير للاهتمام في “أوه كندا”، لكنه استخدام لا يأتي لغرض التجريب فقط، وإنما يستخدمه شرايدر في سرد حكايته، تتداخل الذكريات التي يحكي عنها “فايف” وهكذا نراه كهلاً في فلاش باك داخل زمن كان فيه شاباً والعكس. يعبر شرايدر عن اللحظات المشوشة التي يمر بها العجوز “فايف”، فالرجل الذي يعاني من السرطان المنتشر في جسده، يعيد تركيب ذكرياته ويحكيها بشكل لا ندرك من خلاله ما هو حقيقي وما هو خيالي، أو ربما جزء من حلم. 

بل إننا نراه أحيانا كعجوز ونرى انعكاس صورته في المرآه كشاب، هكذا ينقل لنا شرايدر ما يعانيه بطله من تشوش، فقط من خلال الصورة. 

أكثر ما يبقى من “أوه كندا” هو إيقاعه المتمهل وتجسيده للحظات وأيام ما قبل الموت على الشاشة، والأهم التشخيص المميز من “ريتشارد غير”، النجم الهوليوودي الذي بنى مجده عبر الظهور في أفلام الثمانينيات والتسعينيات ببشرة ناعمة وقصة شعر أيقونية كنجم رومانسي، لكنه يظهر هنا بدون أي رتوش، ويملك من الشجاعة أن يذهب لأقصى مدى في التجسيد فيظهر بجسد عجوز مترهل ضعيف، يرتدي الحفاضات ويحتاج لمن يساعده حتى لقضاء حاجته. يتحرك بشكل بطيء، لكنه يملك في عينيه غضب هائل على كل الخطايا التي اقترفها أثناء حياته، يدعمها بسخرية لاذعة من نفسه ومن ادعاء من حوله، سخرية يشاركها معنا من خلال شريط صوت هادئ ومتأمل. 

يقدم كل من في الفيلم من ممثلين حضورًا هادئًا: أوما ثورمان في دور الزوجة، تحاول تجاهل حتمية الموت والتظاهر بالصلابة قبل أن تنفجر في البكاء بعد تصاعد تدريجي، “جاكوب إلوردي” الذي يؤدي دور “فايف” شاباً، ينقل لنا التحايل والاحتيال الذي صبغ حياته حتى أقنع من حوله بأنه هارب من الحرب وليس هاربًا من أجل المال والعلاقات النسائية التي تصبح في النهاية شبيهة بمتاهة من النساء.

يعيب البعض على “أوه كندا” إيقاعه البطيء، لكنه إيقاع يناسب تمامًا موضوعه الذي يتعامل برقه وصدق مع لحظات المصارحة مع النفس حينما يتوقف الجسد عن العمل ويصبح الموت ضيفًا مؤكد الحضور. 

يقدم “بول شرايدر” وهو في السابعة والسبعين من عمره فيلمًا مثيرًا للاهتمام والمناقشة في المسابقة الرسمية لمهرجان كان، فيلمًا متماسكًا يحمل تجريبًا في التكنيك وطريقة السرد، كما يسائل أحداث الماضي ويرفع هالة البطولة عنها. “أوه كندا” يقترب من الموت وينظر في عينيه من دون خوف، ودون رتوش وتجميل أيضًا. 

اقرأ أيضا: «المادة».. جراحات التجميل والإدمان وسينما العصر الحالي

شارك هذا المنشور