تعدّ الأفلام التي تتناول السينما كموضوع رئيسي بمثابة مرآة تعكس الشغف والعشق اللذين يعيشهما صُنّاع الأفلام والمشاهدون على حد سواء تجاه هذا الفن العظيم. تصبح هذه الأفلام تجربة استثنائية، خاصة لعشاق السينما الذين يكرّسون حياتهم لمتابعتها، أو لأولئك العاملين في المجال، الذين تتشابه تحدياتهم في إنتاج أفلامهم الأولى بغض النظر عن اختلاف الزمان والمكان، وكأن السينما كما هي توحد الناس في قاعات العرض، توحد صُنّاعها في مصير مشترك مليء بالصعوبات والتحديات.
لا يمكن الحديث عن الأفلام التي تحتفي بالسينما دون الإشارة إلى الفيلم الإيطالي الشهير «سينما باراديسو» للمخرج جوزيبي تورناتوري، الذي يروي علاقة مؤثرة بين طفل ومُشغل أفلام، ويستعرض الأثر العميق للسينما على حياتهما. إلى جانب هذا الفيلم، هناك أعمال أخرى تتناول الأثر العاطفي والوجودي للسينما وتحتفي برموزها، مثل فيلم «هوجو» للمخرج مارتين سكورسيزي، و«الفنان» لميشيل هازنافيسيوس، الحاصل على أوسكار أفضل فيلم. كما لا يمكن إغفال الفيلم السعودي «شمس المعارف» للمخرج فارس قدس.
تتميز هذه الأعمال غالبًا بأنها وسيلة للتأمل الذاتي لدى صُنّاعها، حيث يعبرون من خلالها عن نظرتهم الخاصة إلى فن السرد البصري والدرامي، وعن حبهم وشغفهم الذي لا ينتهي لهذا الفن الساحر.
فيلم «أولاد ماليجون الخارقون» (2024) للمخرجة الهندية ريما كاغتي، الذي يعرض ضمن المسابقة الرسمية للدورة الرابعة لمهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي، يمثل إحدى رسائل العشق التي تقدمها الأفلام للسينما نفسها. يعيد الفيلم تقديم قصص الكفاح، والتحديات، والنجاحات التي يواجهها صناع الأفلام، متشابكًا مع حكايات إنسانية تربطنا جميعًا، تمامًا كما تهدف السينما إلى فعل ذلك. يروي الفيلم القصة الحقيقية لناصر الشيخ، الرجل العاشق للأفلام الكلاسيكية، الذي يدشن مع شقيقه صالة سينما صغيرة في بلدة ماليجون، يعرضان فيها أفلامًا مشوقة ومتنوعة مثل أفلام تشارلي شابلن، وباستر كيتون، وبروس لي، لكن سرعان ما تواجه الصالة صعوبة في البقاء بسبب المنافسة مع الصالات الأخرى التي تعرض أحدث الأفلام الهندية.
أثناء محاولاته لإيجاد حل للمشكلة، يكتشف ناصر قوة المونتاج وإمكاناته الهائلة. هذا الاكتشاف يلهمه فكرة تجميع مقاطع من أفلام مختلفة في فيلم واحد وعرضها في صالته. تحقق محاولته نجاحًا كبيرًا بين سكان القرية، إلا أن الحلم يتبدد عندما تداهم الشرطة الصالة وتغلقها بذريعة؛ عرضها أفلامًا مقرصنة.
رغم هذه الانتكاسة، يقرر ناصر بمساعدة أصدقائه إعادة تقديم الكلاسيكيات البوليودية عن طريق إعادة تصويرها. هذه الخطوة لا تحقق نجاحًا محليًا فقط، بل تفتح الباب أمام توزيع واسع لفيلمه. نجاح الفكرة يجلب له شهرة والمكانة الكبيرة، ولكن النجاح يغيره أيضًا، حينما يبدأ بالتنكر لجهود أصدقائه الذين ساعدوه في البداية، فيبتعدون لذلك عنه لموقفه منهم. ابتعاد الأصدقاء ومرض أحدهم يدفعه لتغيير سلوكه ويدفع الآخرين أيضاً للاتحاد مجددًا لصنع فيلم جديد يوحدهم ثانية.
يتميز فيلم «أولاد ماليجون الخارقين» بتعدد شخصياته وتشعب مساراتها، وربما لهذا يبدو في بدايته مشتتًا. فالبطل «ناصر»، الذي يسعى لتحقيق حلمه من خلال صناعة الأفلام، نجده يمر بمراحل من الصعود أولًا ثم التعالي بعدها على من كانوا معه، وصولًا إلى فهمه لنفسه ومصالحة أصدقائه، تتداخل مع هذا، قصة حبه ورغبته بالزواج من حبيبته، والذي لم يتم بسبب رفض عائلته له، ما يدفعه للارتباط والزواج من امرأة أخرى.
ثم تتوالى القصص الجانبية لأصدقائه، وبالتحديد صديقه الكاتب، وأيضًا علاقته الخاصة بصديقه المصاب بالسرطان، والتي تعتبر من أجمل خطوط الفيلم وأكثرها إنسانية وتحفيزًا لتعاطف المشاهد معها. وبعيدًا عن حرق نهاية الفيلم التي تجتمع فيها كل القصص الجانبية، والتي أضمن أن في ختامها سيخرج المُشاهد بحالة من المشاعر المختلطة بين الحزن والسعادة «الطائرة». أقول الطائرة هنا، لما تعنيه هذه الكلمة من معنى رمزي للطائرة داخل النص السينمائي، والمتأتي من ظهور وعبور الطائرات في السماء في أكثر من مشهد ما يثير رغبة لدى الصديق المصاب بالسرطان بركوبها والطيران على متنها. يجسد النص السينمائي رغبته، في مشهد مؤثر تناغمت فيه الموسيقى والتصوير البطيء لتسجيل تلك اللحظة المؤثرة وتوصلها للمُشاهدين ليتحقق مسعى الفيلم في أن يجعلنا جميعًا جزءًا من الحالة الشعورية التي تعيشها الشخصيات وتمر بها.
ربما في أفلام أخرى يدفع كل هذا السرد المليء بالأحداث والشخوص والأفكار نحو الضياع والتشتت، وتصبح عندها متابعته أشبه برحلة طويلة من التيه والملل، لكن رغم هذه البوادر من التشتت في بدايته، يأخذ الفيلم في النضوج والتماسك وتتضح لدينا أسباب تركيزه على بعض الشخصيات ودوافعها، كما لو أننا نمضي أول المشوار في شارع متسع ومليء بالسيارات إلى أن تضيق هذه المساحة تدريجيًا ويصبح مساره أكثر تنظيمًا وانسيابية، إضافة إلى أن السرد جاء مليئًا بالحيوية والفكاهة في العديد من مشاهده، من خلال استخدام المونتاج السريع والموسيقى التي كانت جزءًا مهمًا منه وليست عنصرًا خارجيًا كما هي العادة في الأفلام البوليوودية.
السينما بطبيعتها تأخذك في رحلة لا تنتهي، تعيد تشكيل مشاعرك وأفكارك. فمرة تجد نفسك في رحلة تشاف مع صديق، وأخرى تطير كبطل خارق، لتنقذ حبيبتك من قبضة وحش، ومرة تحارب الأشرار. السينما هي من يدفعك للانغماس والتوحد مع الشخصيات، تلاحقهم في لحظات الخطر، تشعر بدمعة تسيل من عينيك متعاطفًا معهم. السينما هي التي تحول أبسط الرغبات، مثل ركوب الطائرة، إلى تجربة حية تلامس مشاعرك وتجعلك تسافر بها إلى عوالم لا يمكن للخيال أن يحدها.
اقرأ أيضا: ثلاثون عاماً على «حرارة» مايكل مان