عدد محدود من المخرجين المعاصرين لا يشبهون إلا أنفسهم. من بين هؤلاء الأمريكي شون بيكر صاحب المسيرة السينمائية الخاصة جدًا.
بدأها بصنع أفلام مستقلة صغيرة، بتكاليف محدودة أوصلته لمهرجانات دولية كان أكبرها لوكارنو، حتى جاء عام 2015 ليعلن عن مولد موهبة خاصة أثبتها في فيلمه “تانجرين Tangerine” الذي لفت الأنظار في مهرجان “صندانس” لسببين؛ أولهما أنه مخرجه صوره باستخدام كاميرات هواتف آيفون S5 فقط، والثاني موضوعه الذي يتابع حياة بائعة هوى متحولة جنسيًا خلال ليلة عيد الميلاد.
الفيلم الذي نال شهرة كبيرة أثار اهتمام مهرجان “كان” ببيكر، فاختار فيلمه التالي “مشروع فلوريدا The Florida Project” لقسم نصف شهر المخرجين عام 2017. يتابع الفيلم علاقة فتاة في السادسة من عمرها بوالدتها التي تعيش معها في مشروع سكني فقير مجاور لمدينة ديزني لاند الشهيرة، حيث تعمل الأم في الدعارة وتحاول إخفاء طبيعة عملها عن الطفلة. الفيلم كان العمل الأكثر قبولًا بين النقاد في عام عرضه، وفاقت شهرته وشعبيته الأفلام التي عُرضت وقتها في المسابقة الدولية، ليتم اختيار فيلم بيكر التالي “صاروخ أحمر Red Rocket” للمسابقة عام 2021، ليتنافس لأول مرة بحكاية حول نجم أفلام إباحية معتزل يعود إلى مدينته الأصلية الصغيرة في تكساس.
يبدو القاسم المشترك واضحًا بين الأعمال الثلاثة، وهو ما يتكرر مجددًا في فيلمه الجديد “أنورا Anora” الذي عُرض في مسابقة مهرجان كان السينمائي السابعة والسبعين، ليوضع فورًا ضمن الأفلام المرشحة للفوز بإحدى جوائز المهرجان. العنصر المتكرر هو الاهتمام بالعاملين في الجنس وما يتعلق به من مهن موصومة في أغلب المجتمعات، لكن المخرج الموهوب ينظر لها من زاوية مختلفة، إنسانية، محاولًا في كل مرة أن يمنح صوتًا للشخصيات التي طالما ظهرت على الشاشة في صور نمطية محفوظة.
آني تقابل فانيا
يمنح بيكر الممثلة ميكي ماديسون (المعروفة من مسلسل “أشياء أفضل Better Things”) فرصة العمر، بتجسيد الشخصية التي يحمل الفيلم اسمها، والتي تظهر من أول لآخر دقيقة على الشاشة تقريبًا.
أنورا اسم أوزبكي حملته البطلة بسبب جذور عائلتها، لكنها تفضل عليه اسم “آني” ذا الطابع الأمريكي. آني تعمل راقصة تعري في أحد ملاهي مانهاتن الليلية، تؤدي عملها بنجاح وتجعلها خبرتها تبدو أعقل بكثير من سنواتها الثلاث وعشرين، لكن مظهرها يهدف لأن يبدو أصغر من ذلك بهدف إثارة لعاب رواد الملهى، وأغلبهم عجائز أو رجال متوسطي العمر يترددون على المكان لقضاء دقائق مثيرة بصحبة شابة تقل عن نصف عمرهم.
حياة آني تنقلب عندما تقابل عميلًا من طراز مختلف. شاب تجاوز بالكاد سنوات المراهقة، جنسيته الروسية جعلتها تتمكن من التواصل معه أسهل بسبب معرفتها المقبولة بلغته (وهو أيضًا يعرف قدرًا من الإنجليزية)، لتنتهي الرقصة الساخنة بتبادل لأرقام الهواتف، وتجد نفسها مدعوة لقضاء وقتٍ خاصٍ معه في منزله. وبمجرد وصولها إلى المنزل تكتشف آني أن فانيا ليس مجرد عميل عادي، بل هو ابن ملياردير روسي يعيش وحده في قصر منيف، ينفق المال ببذخ ملبيًا كل رغباته في السعادة. اللقاء يتكرر، ثم يتحول عرضًا بقضاء أسبوع كامل معه.
خلال الأسبوع تتوطد علاقة فريدة بين آني وفانيا، أفضل ما فيها أنها تجمع بين نقيضين، فمن جهة، للبراءة مكان في علاقتهما، نابعة أسباب متباينة؛ فالشاب محدود الخبرة في الحياة والجنس تقوده آني لاكتشاف لذّات لا يعرفها، والفتاة أكثر خبرة لكنها تدخل هذا العالم الفاره للمرة الأولى فتتسع عيناها لاكتشافه. من جهة أخرى البراءة لا تنفي وعي كل منهما بمكانه من الآخر، فكل شيء يتم بعد تفاوض تطلب فيه آني المبلغ الذي تراه ملائمًا لخدماتها، فيقدم فانيا المطلوب وأكثر سعيدًا بتمكنه من إبهار الفتاة الجذابة.
تبرز هنا قيمة اختيار ميكي ماديسون للدور، والذي يمكن اعتباره الاختيار الأهم في الفيلم الذي جعلنا قادرين للتواصل مع آني بهذه الدرجة. ماديسون ليست الفتاة التي تقفز للذهن عند التفكير في فتاة تحترف الجنس، بل هي أقرب في الشكل والجسد لشابة تتجاوز بالكاد المراهقة. هذا الاختيار يتسم بكثير من الواقعية المتخلصة من تراث التصورات المعتادة عن الأدوار المماثلة، مع قدرة على إبقاء آني دومًا في مساحات وسطى تفصل بين الطفولة والانوثة، والإغواء والبراءة، ثم في مرحلة لاحقة بين القرارات الجنونية والتعامل العقلاني مع الأحداث.
آني ليست سندريلا
يبدأ الجنون عندما يقرر فانيا اصطحاب آني ومجموعة من الأصدقاء في رحلة مفاجئة إلى لاس فيغاس، وهناك يعرض عليها الزواج، لتتشكك ثم توافق وهي تمني نفسها بقصة رومانسية حالمة تغير حياتها. غير أن الجميع يدرك أن سندريلا مجرد أسطورة، وأن الواقع لا يمكن فيه لعائلة ملياردير روسي أن تسمح لابنها بالزواج من عاهرة (حتى لو صممت في كل مرة أن تنفي الوصف وتؤكد كونها راقصة إيروتيكية!). تعرف عائلة فانيا فترسل رجالها المخلصين لحل الأزمة، لتنتهي 40 دقيقة من الصخب وتبدأ ساعة ونصف من المواجهة.
حسنًا، الوصف السابق غير دقيق، لأن الجو العام للفيلم لا يتحول أبدًا إلى الميلودراما أو حتى للتعاسة، بل يتمكن المخرج المؤلف الموهوب ببراعة مدهشة من الحفاظ على مستوى مرتفع من خفة الظل، ومن القدرة على تطوير المواقف التي سبق مشاهدتها في الأفلام، والتي يتوقع الجمهور تلقائيًا مسارها، ليقودها في مسار مختلف كليًا. مسار انفجاري، صاخب، مليء بالصراخ والسباب وتصادمات القوى بين آني، وبين الرجال الثلاثة الذي يأخذونها في رحلة ليلية هدفها إلغاء الزيجة قبل وصول العائلة الروسية إلى الأراضي الأمريكية.
إذا كنت تتوقع هنا مشاهدة عصابة عنيفة تهدد فتاة ضعيفة وجدت نفسها في موقف لم تكن تتوقعه، فتوقعك صحيح فقط في التوجه العام للأحداث، أما التفاصيل الدقيقة للشخصيات والتفاعل بينها، فهو ملعب شون بيكر الذي طالما أتقنه.
بعيدًا عن التوقعات
مبدئيًا، يُفرغ بيكر فيلمه من الأشرار. ثمّة شخصيات خصوم antagonists تضعهم الضرورات ضد البطلة، لكنهم مجرد رجال راغبون في حل المشكلات للحفاظ على مصدر رزقهم، لا يريد أي منهم إيقاع أذى بدون سبب أو يمارس الشر من أجل الشر. بل إنهم يعيشون في المجتمع الأمريكي محمّلين بوصم جذورهم الروسية والأرمينية ويحاولون التعامل مع ما تخلقه من حساسيات. حتى من يبدو منهم عنيفًا أكثر من غيره، لا ينتهي الفيلم إلا وقد اكتشفنا وجهًا آخر له.
أما آني فهي ليست الفتاة الضعيفة التي تواجه مجرمين عتاة، وليست أيضًا الفتاة الباحثة عن الثروة التي نالت فرصة العمر بالزواج من المراهق الأحمق فتقرر التمسك بها. آني مجرد فتاة عادية، دفعتها ظروفها لمهنتها فلم تكرهها، ووضعتها نفس الظروف في حكاية خيالية أرادت أن تصدق امتلاكها نهاية سعيدة. آني التي ترقص عارية للرجال كل ليلة لا تزال – للعجب – تؤمن بالحب، لكنها أيضًا تؤمن بكبريائها، وترفض أن يُمس، حتى لو كان الثمن أن تعود للملهى الليلي مرة أخرى.
ينجح شون بيكر في أن يصنع فيلمًا يحقق أكثر من درجة للإمتاع، فحكايته الشيقة المكتوبة بعناية تأخذك داخلها فتستمتع بتراتب الأحداث وتفاعل الشخصيات في تلك الليلة الجنونية. يمكنك كذلك أن تفكر خلال المتابعة في بناء الشخصيات ودوافعها، وما تمثله كل منها في إطار علاقات السلطة وأقطابها: الجنس في مواجهة المال / القوة في مواجهة القانون / الجنسية الأمريكية في مواجهة المهاجرين. يشق “أنورا” طريقه بعناية فائقة بين الثنائيات، بل أن عنوانه نفسه يمثل واحدة من تلك المقارنات، فأنورا تختلف عن آني، حتى لو كانا اسمين لنفس الشخصية. أنورا ابنة مهاجرين فقيرة تحمل اسمًا رسميًا في مواجهة القانون، وآني فتاة ليل ذكية تجيد توظيف سلاحها الوحيد (جسدها) لتشق طريقها داخل عالم عنيف بطبيعته.
احتاج شون بيكر عدة أفلام صغيرة كي يعرفه العالم، ثم عملين كي يصل إلى مسابقة كان، وها هي مشاركته الثانية في المسابقة تُبشر بأنها اللحظة الملائمة لينال تقديرًا يتمثل في جائزة، سواء للفيلم نفسه أو أحد عناصره، وعلى رأسها أداء بطلته التي سيغير هذا الفيلم الكثير في مسيرتها.
اقرأ أيضا: «أوه كندا»… كيف يتحول تيار الحكاية من البطولة إلى الموت