فاصلة

مقالات

أندريه تاركوفسكي… جامع الأحلام

Reading Time: 6 minutes

يحمل عنوان كتاب المخرج أندريه تاركوفسكي «النحت في الزمن»، مفارقة، بوصفه للسبيل إلى أن يصبح الزمن ملموسًا؛ فإن على المادة أن تتوارى عبر عملية النحت. والمادة تشمل المكان بكل محتوياته، النحّات والإزميل، المصور والكاميرا، المخرج والممثلين.

إجراء تنحية المادة قليلًا، يحدث بحركة الكاميرا البطيئة، اللقطة الطويلة، فتبدو محتويات الصورة، بالنسبة لإطار الكادر الرباعي الثابت، وهي تتحرك للأعلى أو للأسفل، للأمام أو للخلف، غريبة، وأشبه بحلم.

المونتاج عدو تاركوفسكي. قطع المونتاج يهدم نحت الزمن الخطي. في سينما تاركوفسكي الأزمنة المنتقاة تحتشد في زمن خطي واحد، وهو زمن الفيلم، ولهذا يبدو المونتاج، أو القطع، تدميرًا للزمن.

في بداية فيلم تاركوفسكي «المتسلل» Stalker 1979، حركة الكاميرا البطيئة على باب غرفة نوم المتسلل، نصف المفتوح، وهناك منضدة عليها حقنة، وقطعة قطن، وكوب ماء يتحرك باهتزاز إلى منتصف المنضدة، استجابة لمرور قطار قريب من البيت. 

ما هي المنطقة «The Zone» في فيلم «ستاكر»؟ إنها منطقة غامضة، والوجود فيها لا يمكن تفسيره إلا عبر قوة خارقة للطبيعة، ربما قوة من خارج كوكب الأرض، وما هو داخل المنطقة يشكل التصور الأساسي لرحلة الشخصيات الثلاث إليها: المتسلل، والكاتب، والعالِم. الكاتب الذي فقد إلهامه ويبحث عن طاقة تجدد قدرته على الكتابة، والعالِم الباحث عن قوانين الطبيعة. أمّا المتسلل أو المرشد الروحي، فهو الأكثر غموضًا، يقود الكاتب والعالِم للمنطقة دون معرفة مصلحته الروحية من تولي مسؤولية القيادة. المنطقة تشبه عمود المعدن المصقول الطالع من الأرض في فيلم ستانلي كوبريك «أوديسا الفضاء»، «Space Odyssey A 2001»1968، للقرود، ولرواد الفضاء. هل المنطقة عدوانية مثل عمود كوبريك المصقول؟         

أندريه تاركوفسكي

المتسلل يؤكد للكاتب والعالِم على ضرورة احترام المنطقة، وكأنه يقول لهما، إن الوصول إلى «غرفة الأمنيات» داخل المنطقة، ليست الغاية النهائية، مع أن «غرفة الأمنيات» هي أصعب نقطة يمكن الوصول إليها في المنطقة، وهي التي ستجدد إلهام الكاتب، وتعيد للعالِم مكانته بما سيكتشفه فيها. هل المتسلل يريد من الكاتب والعالِم أن يكونا أبعد من الأمنيات حتى يتحقق للمنطقة التقديس اللائق؟ وكأنّ المنطقة غاية في ذاتها بصرف النظر عن «غرفة الأمنيات»؟

أندريه تاركوفسكي

وفي فيلم «نوستالجيا» Nostalghia» 1983»، يقف أندريه بطل الفيلم في بِرْكة ماء راكدة تحدها جدارن معبد متهدم، والماء كعادة تاركوفسكي في أفلامه، راكد ثقيل يغذِّيه شريان غامض من ماء جار ضعيف، نسمع خريره، وقطرات مطر ثقيلة. يصل الماء إلى ركبتي أندريه، يظهر أمامه فجأة على حافة البِرْكة الراكدة طفل، يقول أندريه للطفل: ماذا تفعل هنا؟ لا تخف، الحقيقة أنا مَنْ يتوَّجب عليه الخوف، إنكم تطلقون النار في إيطاليا، أيضًا هناك الكثير من الأحذية في إيطاليا. يرفع أندريه قدمه من الماء الثقيل، ويشير بيده إلى الحذاء، ويقول للطفل: هذه منذ عشر سنوات، الحب العظيم، لا قبلات، نقاء كامل، ولهذا لا يُنسى، الإيطالية، أنا لا أجيد الإيطالية، إليكَ الحكاية. 

أندريه تاركوفسكي

يبدأ أندريه في سرد الحكاية بالروسية. بِرْكة ماء موحلة فيها رجل، يُشاهِده آخر من على حافة البِرْكة، فينزل إليه، وينقذه من شبه غرق، وهما الآن منهكان على حافة البِرْكة. يقول الرجل للآخر: لماذا فعلت هذا؟ أنا أعيش هنا. يضحك أندريه وهو يُعلِّق على حكايته، لقد شعر الرجل بالإهانة والإحراج. يعود أندريه إلى الإيطالية، ويسأل الطفل عن اسمه، فتقول البنت: أنجيلا. كتب السيناريو بالتعاون مع تاركوفسكي، الشاعر والسيناريست الكبير تونينو غويرا. الغريب أننا لا نشعر بعبث الحوار والحكاية، فأنجيلا لا تعرف أفضل من أندريه، السياق الجامع بين الأحذية وضرب النار والحب العظيم التطهري (البيوريتاني)، ولا تفهم أيضًا الروسية، لكنها مُرشَّحة بلمسة إيمان يائسة، لإنقاذ أندريه من بِرْكة الماء، ومن الممكن أن تنال من أندريه بعد عملية الإنقاذ كلمات عتاب، كما نالها المنقذ من الرجل في حكاية أندريه.   

أندريه تاركوفسكي

في بداية فيلم «القربان Sacrifice» 1986، يطلب ألكسندر، بطل الفيلم، من ابنه المساعدة في زرع شجرة ميتة على ضفاف بحيرة، ومساعدة الابن لا تتعدى إحاطة الشجرة بأحجار صغيرة، وإلى أن تثبت الشجرة، يحكي ألكسندر لابنه، وهو يسند جذع الشجرة الجاف، حكاية قديمة عن راهب زرع شجرةً أخرى، وطلب من تلميذه أن يُباشرها بالماء كل يوم، وبعد ثلاث سنوات، وفي موعد سقي الشجرة المعتاد، ودون انتظار لمعجزة، يجد التلميذ الشجرة مزهرةً بورود. في أفلام تاركوفسكي يتعلق الأمر دائمًا بحكايات تُروى من طرف واحد. الحوار الثنائي (ديالوج) مناسب أكثر للسينما، وأكثر ديموقراطية، لكنَّ حقيقة الأمر تتعلق بحديث من طرف واحد (مونولوج). 

تاركوفسكي مثل بيرغمان في مراعاة السبب الدرامي البسيط والساحر الذي يجعل من المونولوج حوارًا بين اثنين في النهاية. كصمت ليف أولمان في فيلم «بيرسونا» Persona» 1966» أمام فيض الكلمات من فم بيبي أندرسون، نعرف أن ليف ممثلة تعرضت لاحتباس صوتي، وهي تؤدي دورًا على خشبة المسرح، كذلك صمت الابن في فيلم «القربان» بسبب احتقان في حلقه، ومع المخرجين الكبار لا يأخذ المرض جانبه الميلودرامي الواقعي، حتى عندما يكون المرض خطيرًا كما في فيلم «الأبدية ويوم Eternity and a Day 1998» لثيو أنغيلوبولوس، فرغم اقتراب بطل الأبدية من الموت إلا أن أقصى ما يمكن أن نراه في الفيلم، هو دخوله للصيدلية، لأخذ حبتي دواء وكوبًا من الماء. 

نحن نعرف أن تاركوفسكي كان مريضًا بالسرطان أثناء العمل على فيلم «القربان». يعلق ألكسندر على حكاية الراهب والشجرة التي عادت إليها الحياة، نفرض أن إنسانًا فعل كل يوم في موعد محدد دقيق، فعلًا بسيطًا وداوم عليه فيما يُشبه الطقس. على سبيل المثال؛ لو اعتاد إنسان كل يوم في السابعة صباحًا على دخول الحمام وأخذَ كوبًا من الماء ورماه في قاعدة التواليت، فله أن يُغيِّر العَالَم. ومن عمق المشهد يأتي ساعي البريد صديق ألكسندر حاملًا له رسالة تصف ألكسندر بسمات الأمير مشكين بطل دوستويفسكي الشهير، ويظهر تشابه ألكسندر ومشكين عندما يقوم ألكسندر بحرق بيته كتضحية في سبيل البشرية. 

أندريه تاركوفسكي

في صالة البيت تتلقى العائلة خبر حرب مُدمِّرة لا نجاة لأحد منها، ورغم دردشة ألكسندر مع أوتو ساعي البريد عن عدم إيمانه، إلا أن خبر الحرب يُقرِّب ألكسندر من فكرة التضحية. حرق تاركوفسكي بيتًا آخر في فيلم «المرآة Mirror 1975»، والنار عنصر مهم عند تاركوفسكي. كان على ألكسندر أن يضحي بشيء كبير، حتى لو لم تكن كارثة الحرب التي لم يسمح لها تاركوفسكي، رغم خرابها وهولها المُتوَّقَع، بوجود حقيقي في فيلمه، فقط انعكاس ضوء التليفزيون على وجوه فيكتور وأوتو وزوجته والخادمة وألكسندر. 

أندريه تاركوفسكي

في فيلم «بيرسونا»، وفي غرفة ليف أولمان، ترى الممثلة التي فقدت صوتها برغبتها. كان على بيرغمان أن يؤكد بعده عن المرض النفسي، ليف لا ترغب في الحديث، تفقد صوتها بكامل إرادتها، كي تستعيده مرةً ثانية في صوت بيبي أندرسون، عبر شاشة التليفزيون ترى ليف راهبًا بوذيًا يحرق نفسه في مُظاهَرات سياسية، وحوله رجال بوليس ومريدون يسجدون أمام الراهب المُحافظ على وضع جلسته، والنيران تلتف عليه، ونظرة الرعب الخالدة على وجه ليف أولمان. 

يكشف بيرغمان في كتابه «صور»، أن الكوارث الكبيرة التي تصيب البشرية لا تهزه عاطفيًا، ولا سبيل إلى دخولها في أفلامه إلا عبر مرشحات وفلاتر تحد من ميلودراميتها وهولها، أو على الأقل نرى انعكاسها على وجوه شخصياته. إن نظرة الرعب في عين ليف لها حضور أقوى من لقطة حريق الراهب التسجيلية. يحرق ألكسندر بيته أثناء تمشية العائلة الصباحية، وتقترب حركة ألكسندر أثناء حرق البيت، وبعده، كثيرًا من حركة إحدى شخصيات دوستويفسكي، وهي تقدم على جريمة غير مبررة عقليًا، يندفع ألكسندر إلى حضن زوجته ثم يجري إلى ماريا، ويسجد أمامها، ويبدي مُقاوَمةً وهم يسحبونه إلى سيارة الإسعاف، ويفلت منهم، ويقوم بمناورة بائسة، ثم يندفع إلى عربة الإسعاف، ويدخل من بابها، ثم يخرج من الباب الآخر، ثم يُعاود الدخول مرةً ثانية. 

تستدعي المشاهد إلى ذاكرتنا تورٌّط راسكولينيكوف في رواية «الجريمة والعقاب»، بعد كل الترتيبات لقتل المُرابية ينسى في النهاية إغلاق باب الشقة الخارجي، فتدخل أخت المُرابية أثناء الجريمة، فيقتلها هي الأخرى. وما جرى لمشكين وراغاوين في نهاية رواية «الأبله»، وسيرهما الشهير على رصيفين متوازيين، وجلوسهما بجوار جثة أنستازيا. يبدأ فيلم «القربان»، وينتهي بموسيقى يوهان سبيستيان باخ «عاطفة متى»، وابن ألكسندر يسقي الشجرة الميتة؛ ليس رجاءً في حدوث مٌعجزة، بل لمجرد طاعة والده.  

في فيلم القربان يذكر أوتو ساعي البريد، وصديق البطل، حكاية عن أرملة في زمن الحرب العالمية الثانية، ذهبتْ مع ابنها سنة 1940 لمصور فوتوغرافي، لأخذ صورة تذكارية معه، قبل ذهابه لجبهة القتال، وحدث أن الابن مات في الحرب سريعًا قبل موعد استلام الصورة الفوتوغرافية، وعرفتْ الأم خبر الوفاة، ولم تذهب لاستلام الصورة الفوتوغرافية، وكأنها شعرتْ باللاجدوى، أو كأن الحزن جعلها غير مبالية. تركت الأم المدينة، وذهبت إلى مدينة أخرى. وفي سنة 1960 ذهبت إلى مصور فوتوغرافي ثان، لأخذ صورة لها، ستبعثها إلى صديقها، وعند موعد استلام الصورة، ذهبت الأم، لكنها وجدت في الصورة الفوتوغرافية، ابنها في عمر 18 عامًا، أي في عمر لحظة التقاط الصورة الفوتوغرافية الأولى 1940، وهي بنفس عمرها في لحظة التقاط الصورة الفوتوغرافية لها في عام 1960.

 في عيد ميلاد ألكسندر بطل فيلم «القربان»، يُحضر له صديقه ساعي البريد أوتو، هدية ثمينة، وهي خريطة أصلية لأوروبا سنة 1600. يشكره ألكسندر، ويلومه على ارتفاع ثمن الهدية، ويصفها بأنها تضحية من أوتو، وضد اللياقات المعروفة، يعترف أوتو أنها بالفعل تضحية منه، وبأكثر من كل اللياقات دماثة، يُكمل أوتو كلماته، بأن على الهدايا جميعًا أن تكون تضحيةً، وهنا يكمن معنى فيلم القربان. يضحي ألكسندر ببيته الجميل في نهاية الفيلم. يحرق بيته تضحيةً وقربانًا. إنه يفدي عموم البشرية مثل دوستويفسكي. 

اقرأ أيضا: «المخدوعون»… تداخل مُركب بين النصين الروائي والسينمائي

شارك هذا المنشور