فاصلة

مراجعات

«أناشيد آدم».. ليس فيلمًا بل قصيدة وسؤال

Reading Time: 7 minutes

يبدأ فيلم «غير صالح للعرض» (2005) العمل الأول للمخرج العراقي عدي رشيد بثلاث جنازات تتابعها عينا السينمائي الشاب الذي لا يعرف ماذا يفعل في بغداد 2003، وفي أحدث أفلامه «أناشيد آدم» (2024) يبدأ الفيلم أيضًا بجنازة! وكأن رشيد في أفلامه يسير عكس اتجاه الحياة، يبدأ من حيث تنتهي أو ما يبدو أنها تنتهي عليه! يبدأ رشيد بالموت كمفتتح للحكاية وليس نهاية لها، كنقطة انطلاق وليس كمستقر أو خاتمة، في «غير صالح للعرض» يحفز مشهد التوابيت الثلاثة المخرج الشاب الناجي من جحيم الاجتياح وسقوط النظام أن يسجل شهادته وشهادات من حوله، حول ما حدث ويحدث، وما يمكن أن يحدث! يحضر الزمن في لقاء الأشخاص الذين يقابلهم بطل الفيلم، المُستَجيب لتحفيز التوابيت المحمولة، والمُتخذ قراره بمقاومة الموت الساكن في حارات المدينة وشوارعها. في «أناشيد آدم» تصبح عملية غًسل الجَد وتحضيره للدفن هي المحفز الوجودي وفوق الواقعي الذي يدفع الطفل آدم لاتخاذه قرارًا؛ بأن لا يكبر، وبالتالي فإنه لن يُشيِخ ولن يموت أبدًا! 

فيلم ( أناشيد آدم - 2024)
فيلم ( أناشيد آدم – 2024)

كان ياما كان

يبدأ الفيلم الحائز على جائزة اليُسر لأفضل سيناريو في مسابقة الأفلام الطويلة للدورة الرابعة من مهرجان البحر الأحمر السينمائي (4-12 ديسمبر 2024) بجملة تؤسس لنوعه الدرامي فوق الطبيعي أو فوق الواقعي (كان ياما كان في بلاد الرافدين) من عام 1946، وتنتهي بكارثة «داعش» في العراق عام 2014، وعبر أكثر من ستين عامًا يتوقف في محطات زمنية عدة، ترتبط بشكل أساسي بتاريخ بلاد الرافدين الحديث. لا يهتم السيناريو كثيرًا بإمكانية فعل هذا، يكتفي بإعلان آدم فقط لأخيه الأصغر أن عدد نبضات قلبه قد قلت إلى 15 نبضة، في إشارة إلى أنه لم يعد ينمو أو يتسارع نحو الكبر، وبالتالي العجز فالموت. يقاوم آدم الموت برفض الفكرة، بمقاومتها كلية بيقين من إمكانية تحقيق ذلك حتى لو لم يكن يعرف كيفية حدوث ذلك! يتجاوز السيناريو السبب سريعاً إلى النتائج. النتيجة المباشرة لرفضه المثول في حضرة النمو وكبر السن، حيث يبدأ أهله في التوجس منه؛ أبوه الذي يحبسه في بيت طيني كئيب، وأخوه الصغير الذي صار أطول منه، والذي تتأجج في داخله قدر من الغيرة والحقد الدفين، لفقدانه أخيه ولأنه صار هو الأكبر سنًا وطولًا- وهي واحدة من أكثر الأزمات الوجودية رهافة في التجارب العربية فوق الواقعية، أن يحزن الأخ الأًغر حين يصير أكبر من أخيه الأكبر؛ كهف طمأنينته وقارب طَفوه فوق معضلات عالمه الصغير.

فيلم ( أناشيد آدم - 2024)
فيلم ( أناشيد آدم – 2024)

في حين يُبقي السيناريو على عنصرين نسائيين يرفضان ما يحدث لآدم من عزل وإقصاء – بحجة أنه فأل سيء على القرية، يضعف الزرع ويلوث نقاء فكرتهم عن ضرورة الموت- العنصر الأول هي أمه، التي تنهار من جراء تصرف الأب القاسي، ثم لا تلبث أن تهجر القرية، ولا نعود نراها ثانية، والثاني هو ابنة عمه التي كانت تنتظر منه أن يكبر ليتزوجها، لكنها كبرت قبله، وفار جسدها الأنثوي بالخصوبة والتوق للتزواج والاقتران به، لكنها لا تتمكن مثله من إيقاف نمو جسدها، ولا تفلح سوى في تأخير عقلها عن النمو، لتصاب بلوثة عنيفة تتفاقم مع مرور الوقت، حيث تتوقف عن تكوين ذكريات جديدة وتظل خامات أفكارها محصورة في تفاصيل علاقتها بآدم وجمعهما للحطب سوية أو حلمها بأن تتزوجه حين يَكبر، لو كَبُر!

فيلم ( أناشيد آدم - 2024)
فيلم ( أناشيد آدم – 2024)

يمكن اعتبار آدم عين السارد، أي أن الفيلم محكي من عينيه، وبالتالي فمصدر معلوماتنا كلها هي فقط من ما يراه ويعرفه، وكل ما يشعر به هو وما ينتقل إلينا سواء فيما يخصه أو فيما يخص الشخصيات التي تكبر من حوله أو البلد الذي يتقلب على مدار السنوات.

وبينما يعيش في عزلته الإجبارية، التي تتحول إلى شبه عزلة اختيارية فيما بعد، يكثف لنا السيناريو مراحل انتقال العراق من حالٍ إلى حال عبر كتابة السنوات على الشاشة، بداية من عام 46 عقب الحرب العالمية الثانية مباشرة وعودة العراق تحت الاحتلال الإنجليزي. ثم عام 52 حين اشتعلت الإنتفاضة العراقية متأثرة بالحراك السياسي للجيش المصري في شهر يوليو من نفس العام، ثم عام 64 أبان توقيع اتفاقية السلام بين الحكومة العراقية والحركة الكردية وإقرار الحكومة العراقية بالحقوق القومية للشعب الكردي، ثم عام 81 عقب بداية الحرب العراقية الإيرانية – حرب الخليج الأولى كما يطلقون عليها- ثم أحداث الحادي عشر من سبتمبر التي كانت التمهيد الظاهري لاحتلال العراق في 2003 ونهاية حكم صدام، ثم أخيرًا 2014 وقت هبوب رياح السموم الداعشية على أرض الرافدين.

فيلم ( أناشيد آدم - 2024)
فيلم ( أناشيد آدم – 2024)

هكذا تتقاطع نظرة آدم للعالم مع ما يحدث لبلده، والذي يبدو منعزلًا عنه نسبيًا في طفولته الأبدية، خاصة مع عزلة قريته البعيدة التي تبدو على الهامش من كل ما يحدث، ولكنها هي مثل كل العراق في قلب الأحداث. يتحول السيناريو إلى مقاطع طويلة من حياته، أو كما أسماها المخرج «أناشيد» -ربما في تعبير مستوحى من العهد القديم وحكاياته الغيبية- كل مقطع أو محطة أو مرحلة تحمل عنواناً زمنياً واضحاً كما سبق وأشرنا، لكن التفاعل الأساسي بين آدم والعالم لا يأتي عبر ما يحدث للعراق مباشرة، بل بما يحدث في عالمه الضيق؛ الأخ الأصغر الذي صار شيخًا مع مرور السنوات، وابنة عمه التي تأخر عقلها عن جسدها وانجبت في النهاية ابنًا لا يشبهها ولا يشبه حبيبها آدم في رقته وحنوه – نرى الابن وقد صار رجلًا كبيراً يزيح يد آدم الصغيرة بينما تربت على وجه ابنة عمه العجوز المحتضرة لأنه محرم عليها-.

تنحصر علاقة آدم بثلاثة شخصيات في الفيلم عقب موت أبيه وهجران أمه؛ صديقه راعي الغنم المكلف بحراسته ثم خدمته ثم رعايته فيما بعد، وأخيه الأصغر الذي يتحول من ضابط في الجيش إلى رجل يبحث عن هدف لوجوده في خيمة غجرية سحرية الصوت، ثم لشيخ خشن صلب المعشر، يصر على تعليم آدم الصغير كيفية سلخ السمك «المسكوف» وشيه كأنه أخيراً استسلم لفكرة أنه صار أكبر من أخيه الأًكبر وصار لزامًا عليه أن يتعامل معه كابن أو حفيد يورثه بعده تقاليد المجتمع العريقة، وبالطبع ابنة عمه كما أشرنا، والتي تحضر في كل مرحلة على اعتبار أنها آخر ما تبقى لآدم من حياته السابقة قبل خلود الطفولة الطويل.

فيلم ( أناشيد آدم - 2024)
فيلم ( أناشيد آدم – 2024)

تقشف صوتي

يفسح عدي رشيد شريط الصوت الخاص بفيلمه للحوار القليل والأصوات الطبيعية من البيئة المنعزلة التي يعيش فيها آدم. يتجنب الموسيقى التصويرية الملحة والوصفية، ربما لأنه لا يريد أن يُغرق الصورة بهوامش ميلودرامية غير فاتنة، يتحرك سريعًا نحو تَقبُل الجميع لوجود آدم الطفل كجزء من الواقع المضطرب الذي عليهم القبول به، ثم تدريجيًا ينتقل إلى معاناة الشخصيات التي تحيط به أكثر من معاناته هو نفسه مع طفولته الأبدية، خصوصاً بعد موت الأب واطلاق سراحه من السجن الطيني – يتردد آدم في الخروج ثم يعود مرة أخرى إلى سجنه كأنه يفتقد فقاعته الوجودية خاصة مع تَغيّر العالم في الخارج بصورة أكبر من قدرته على استيعابه. يبدو آدم مثل علامة استفهام شابة لا تخمد طاقة استجوابها لما يحدث حوله، عيونه المحتفظة ببراءة الأطفال الحقيقية تنظر إلى التحولات المحيطة بها بقدر كبير من التعجب؛ لماذا حين يكبر الأطفال يصبحون على هذا القدر من الخَبل أو التخبط أو العنف أو الاستحقاق!. لماذا الحرب ولماذا داعش!

يمكن أن نورد افتراضين لأسباب اختيار عدي رشيد لهذه الحبكة فوق الواقعية، أولها كما أشرنا هو الحفاظ على سؤال الحيرة الوجودي أو الشعري نابضًا بالحياة ليس ضد الموت كنهاية طبيعية أو لازمة ولكن ضد الطرق العديدة التي تؤدي بالبشر إلى الموت بإرادتهم أو رغمًا عنهم.

 لماذا نريد التخلص من طفولتنا؟ لماذا نتعجل أن يكبر الطفل بداخلنا دون أن نتوقف للحظة ونتساءل هل نحن فعلًا في حاجة للتخلص منها كلية؟ بلا شك أن العالم يمكن له أن يصبح مكانًا أفضل لو أيقنا أن وجود الطفولة هو شرط لنقاء وجودنا ونضجنا فيما بعد! يطرح والده هذا السؤال عليه عندما يبلغه ابنه الأصغر أن آدم لا يريد أن يكبر وأنه يبطئ من نبضات قلبه: لماذا لا تريد أن تكبر وتصير رجلاً قوياً صاحب بنيان متين- وربما عنيف- قادر على مواجهة الحياة؟ آدم لا يجيب، لأن السؤال في الأساس ليس موجهاً إليه، بل إلينا نحن!

فيلم ( أناشيد آدم - 2024)
فيلم ( أناشيد آدم – 2024)

الفرضية الثانية هو أن المخرج أراد أن يشهدنا على رمزية أن عراق الرافدين سوف يظل يافعاً، طفلاً أبدياً لا يشيخ أو يموت- ربما لهذا اختار افتتاحية (كان ياما كان في بلاد الرافدين) ـ  صحيح أن الافتتاحية منوطة بالخلفية الجغرافية والتاريخية على حد سوء – حيث استخدام المصطلح التاريخي الأصيل بلاد الرافدين وليس مصطلح العراق- لكن هذا لا يمنع من أن بقاء طفل يعيش في قريته الهادئة معزولاً عن كل الدم والموت و«العراك» الطويل، ينير بصيرته الغضة الشعور بأن الحياة تستحق أن تعاش دون استحضار الموت في كل لحظة، خاصة بشكل قسري متعمد – نراه يتعجب من ترك جثث «الدواعش» مكشوفة للتحلل أو لنهش الحيوانات البرية، متسائلاً وهو يهرب عام 2014 مع راعيه العجوز بعد موت الجميع: مَن الذي سيدفن هؤلاء؟ 

لقد رفض آدم الموت في اللحظة التي مر فيها بطقوس الغسل والتكفين والدفن، شعر أن البقاء فوق التراب هي مهمة إنسانية عظيمة، فلماذا يقرر أي شخص أن يضع شخصاً آخر تحته، أو يُعرَض نفسه للنزول إلى ما تحت الشمس والهواء والقمح الجميل.

ينتهي الفيلم بتقبل آدم للموت أخيراً، لا كمحصلة نهائية أو حضور قسري ولكن كاختيار طبيعي، كمحطة تالية أو رحلة جديدة منتظرة وفاتنة. يقوم بسحب جثة راعيه الطيب، الذي لازمه طوال طفولته المديدة، ويضعه في قارب عند الشاطئ تاركاً النهر يأخذه إلى شط العرب وما ورائه–وكأنه شارون ناقل الموتى في المثيولوجيا اليونانية، لكنه هنا؛ طفل جميل مفعم بالخلود النقي والاغتسال المستمر من أدران الزمن والحرب والسياسة.

فيلم «أناشيد آدم» لعدي رشيد هو محصلة تجربة شعرية وسياسية ووجودية، تأثيرها ممتد ورموزها باقية، لا فيما يخص حكاية بلاد الرافدين لأكثر من نصف قرن فقط، بل لأنه قصيدة وسؤال، كلاهما مشغول بالتأثير والبحث، ومحاولات الإجابة المراوغة على علامات استفهام لا تمنح طمأنة اليقين. 

اقرأ أيضا: «الذراري الحُمر».. عن المراهقين الذين لم يعودوا كذلك

شارك هذا المنشور