وصل أليخاندرو خودوروفسكي إلى مهرجان لوميير (12-20 أكتوبر) متأبطاً أفكاره الثورية عن الوجود وعلاقة الإنسان بما يعرفه وما يجهله. حضر هذا المخرج التشيلياني الولادة والفرنسي الإقامة حاملاً سنواته الخمس والتسعين الظاهرة بوضوح، والتي هي بشكل أدق ست وتسعون سنة، إذا احتسبنا الأشهر التي أمضاها في بطن أمه، وفق ما رواه لنا. وهل تجوز معارضة المعلّم الذي أعطانا الكثير في مسيرته الممتدة منذ الخمسينات، مخرجاً وممثّلاً صامتاً ورسّاماً وفنّاناً شاملاً؟
في بعض الأحيان، بدا كلامه مرتبكاً وغير متماسك، بعدما قصمت تجربة العيش والبحث عن الخلق ظهره فبطّأت خطواته وجعلته هشّاً. رأيناه يمشي تحت وابل من التصفيق، وكأنه لا يريد الوصول إلى حيث يتوجّه. تحدّث كثيراً، مازحنا وأضحكنا أحياناً، لف مرات ومرات حول الروحانيات التي تشغله، من تلك التي ينشرها على صفحته الفايسبوكية.
عبثاً حاول الناقد والصحافي في مجلة «بوزيتيف» فيليب رواييه إعادته إلى صفوف الحوار بهدف التطرق إلى محطات مضيئة من مسيرته. لكنه أصر كطفل عنيد ان يشق طريقه الخاص وسط حقل ألغام. وكيف يمكن، في أي حال، اختزال سيرة فنّان مثله صاحب تجربة حياة مديدة تقترب من المئة عام، جعلته يعبر قرناً كاملاً من الأحداث والتقلّبات والاكتشافات، فأصبح في الآخر انعكاساً له؟
تذكّر خودوروفسكي فصولاً من طفولته في تشيلي ولم يتردد في سرد حكاية عملية جراحية خضع لها بالتفاصيل المملة. تخيلوا ان هذا رجل عاصر أندره بروتون، أبا السوريالية، وتوبور وفرناندو أرابال. كما انه قدّم، متحدياً التقاليد وظروف الصناعة، ثلاثة أفلام مدهشة، «إل توبو»، «الجبل المقدّس» و«دم مقدّس»، عُرضت بنسخها المرمّمة في المهرجان عشية اللقاء المفتوح معه.
خودوروفسكي فنّان شامل قارب أكثر من فنّ واختصاص (أدب، موسيقى، مسرح، سينما)، «مهرج» تتلمذ على يد مارسيل مارسو في فنّ الإيماء، وأدار موريس شوفالييه في ميوزيك هول، وعمل مع رولان توبور (فنّان آخر يتعذّر تصنيفه)، وأثار انتباه جون لينون حدّ ان الأخير جمع له المال لينجز «الجبل المقدّس». ذات مرة، صرّح لاحدى الصحف بأن «أيّ شخص يعتقد أنه سيطعن في السنّ ويموت لديه مشكلة حقيقية»، مؤكداً انه سيعيش 120 عاماً، وان الناس يعتقدونه مجنوناً، لكن، كلّ ما يفعله، هو تطبيب روحه.
هذا الذي غاب عن الإخراج طوال 23 سنة، بين عامي 1990 و2013 يُعتبر من رموز الثقافة المضادة منذ السبعينات، وأفلامه لم تشبع من معالجته نفسياً ومصالحته مع ماضيه. وله من المشاريع السينمائية التي لم تتحقق للأسف أكثر من تلك التي تحققت.
في الآتي، أهم ما جاء من الحوار المفتوح الذي أجراه معه فيليب رواييه.
فيليب رواييه: لماذا اخترتَ السينما في بداياتك بعدما كنت قد استكشفتَ مجالات أخرى مثل المسرح، الشعر، التمثيل الصامت والرسم؟
أليخاندرو خودوروفسكي: قبل أن أجيب عن السؤال، أود أن أتطرق إلى تأمل أعمق حول الحياة. ما هي الحياة؟ انها تتكون من بُعدين: المادة والروح. على كوكبنا، يبدو أن كلّ شيء مادي. لكن الوعي هو صوت هذه المادة. ومع ذلك، غالباً ما نخلط بين المادة والوعي، تماماً كما نخلط بين الحقيقة والأكاذيب. المادة تمثّل الكذب، بينما تكمن الحقيقة في الروح. هذا الالتباس هو جوهر إدراكنا للواقع.
رواييه: السينما إذاً دخلت حياتك كامتداد لهذه التأملات حول المادة والروح. منذ فيلمك الأول «فاندو وليس»، تناولتَ هذه المادة للبحث عن رحلة روحية، وهي رحلة نجدها في شخصياتك وأيضاً في داخلك.
خودوروفسكي: السينما كما مورست لسنوات، تهدف إلى تقليد الواقع. لكن ما يظهر على الشاشة ليس سوى وهم، تقليد، وليس الواقع في عينه. الحقيقة روحية، غير مرئية. في أفلامي، لا أحاول إعادة إنتاج العالم المادي، بل أسعى لالتقاط الروح، لجعل غير المرئي مرئياً. إنه تحدٍ لأن الروح لا يمكن تمثيلها جسدياً. هذه خارج متناولنا، لكن في هذا تكمن الحقيقة.
رواييه: أفلامك مثل «إل توبو»، «الجبل المقدّس» أو «دم مقدّس»، تشهد لهذه الرحلة الروحية. أما في الجزء الأخير من مسيرتك، فبدأتَ ما تسميه «الرحلة الجوهرية» التي تقتصر على ثلاثية سيرة ذاتية تشمل «رقصة الواقع» و«شعر بلا نهاية»، وقريباً «رحلة أساسية». لماذا اخترتَ السينما لتروي سيرتك الشخصية؟
خودوروفسكي: السينما هي فن متحرك حيث كلّ شيء حي. إنها وسيلة تسمح بتمثيل الوعي، حتى لو كان هذا الوعي غالباً ما يُخلط مع المعتقدات. في هذه الثلاثية، وددتُ أن أروي حياتي من خلال رحلة البحث عن الحقيقة، ولكن حقيقة تتجاوز مجرد تمثيل المادة. أنا مقتنع بأن الحقيقة المطلقة غير موجودة على هذا الكوكب، بل تتجاوز واقعنا الملموس.
رواييه: هل يمكن للسينما، بطرحها للأسئلة بدلاً من تقديم الإجابات، أن تساعد في الاقتراب من هذه الحقيقة؟
خودوروفسكي: السينما يمكنها طرح الأسئلة، لكنها لا تستطيع تقديم إجابات نهائية. إنها أداة لاستكشاف المجهول. من خلال أفلامي، أحاول حض المُشاهد على التفكير، لإعادة النظر في معتقداته، لأن ما نسميه الواقع غالباً ما يكون كذبة جماعية. الفنّ لديه القدرة على كسر هذه الأوهام.
السينما بالنسبة لي شكل من أشكال الثورة، ليس فقط على مستوى السرد، ولكن أيضاً في طريقة تصوّر الفنّ نفسه. لقد سعيتُ دائماً إلى ان أتجاوز الأشكال التقليدية للكشف عن واقع أعمق، واقع روحي. السينما التجارية تهتم فقط بالمادي، بالسطحي، لكن سينماي تسعى للوصول إلى شيء أعظم بكثير.
رواييه: لطالما وقفتَ في وجه السينما التجارية لتفرض رؤية أكثر أصالةً، أقرب إلى الواقع الروحاني.
خودوروفسكي: السينما التجارية ليست سوى انعكاس للمعتقدات الجماعية. ولكن المعتقدات ليست الواقع. إنها مجرد تصوّرات تبعدنا عن الحقيقة. الحقيقة الحقيقية التي أسعى إلى الوصول إليها من خلال أفلامي، روحية، غير مادية. حتى الممثّلون أنفسهم، عندما يؤدّون أدوارهم، يكونون أدوات داخل هذه الرحلة. إنهم يقدّمون أجسادهم للشخصيات، لكن هذه الشخصيات ليست سوى تجليات مؤقتة لشيء أكبر، لشيء يتجاوز المادة.
كل ما يُخلق في السينما هو ابتكار. الحركة، الإيقاع، كلّ ما نعتقد أنه واقع هو مجرد بناء. إنها مجرد معتقدات، وليست حقائق مطلقة. عندما أشارك في فيلم كممثّل، لا أكون نفسي البتة. في الواقع، لا يوجد ممثّل يكون نفسه. لهذا السبب لم أتعلّم أبداً مهنة التمثيل، لأنه حينها كان يجب عليّ أن أتعلّم كيف أكذب. كلّ دور يحمل قدراً من الكذبة. وانطلاقاً من هنا، كيف نغير هذا الواقع؟ كيف نهرب منه؟ هذا سؤال طرحته على نفسي كثيراً، وهو ما قادني إلى رحلتي الفنية والروحية.
مشروعي الأخير، وهو نوع من «الثيولوجيا»، نتيجة تأمل طويل. إنه ليس مجرد فيلم، بل شيء يتجاوزه. عندما كان عمري 24 عاماً، غادرتُ تشيلي وانتقلتُ إلى فرنسا. لماذا فرنسا؟ لأنني منذ صغري، منذ سن الرابعة، كنت قد تعلّمتُ القراءة، وهذا فتح لي آفاقاً جديدة. القراءة سمحت لي برؤية العالم بطريقة جديدة، باتت لي القدرة على الدمج بين السياسة والفن والروحانيات.
رواييه: في أعمالك، تروي هذه الرحلة الحميمة: الرحلة الداخلية. نرى هذا في «رقصة الواقع» و«شعر بلا نهاية» والآن في «رحلة أساسية»، الجزء الثالث من ثلاثيتك. هل يمكنك شرح كيف تتجلى هذه الرحلة في ثلاثيتك؟
خودوروفسكي: بالطبع. «رحلة أساسية» هو الجزء الثالث الذي أرى فيه وصولي إلى فرنسا في العام 1953، ثم عودتي إلى المكسيك. هذا الفيلم سلسلة من اللقاءات المتعاقبة. كلّ لقاء يشبه حبّة في عقد، ومع مرور الوقت، يصبح المعنى العميق لهذه اللقاءات أكثر وضوحاً. إنه ليس رواية أو سيناريو تقليدي، بل عمل يمكن قراءته ومشاهدته، ذو شكل فني هجين. يتكون من صور للأشخاص الحقيقيين الذين التقيتهم في حياتي. هؤلاء ليسوا ممثّلين يؤدون أدواراً. لا توجد إعادة بناء للأماكن، بل هي صور حقيقية للأماكن ذاتها.
خضت معه شكلاً فنياً جديداً، حيث يمكن للمرء اكتشاف الحقيقة من خلال الصورة وليس الأداء. أكرر: إنه شكل جديد من السينما. عمل يتيح لكلّ شخص أن يعرض فيلمه الخاص في رأسه. الفكرة هي السفر إلى الجوهر، العودة إلى الجذور. عند قراءة هذا العمل، ومشاهدة الصور، يشرع الشخص في رحلة شخصية، ويعيد اكتشاف جوانب خفية من نفسه. إنه فيلم يُعاش من خلال الذات
رواييه: هل الهدف النهائي من هذه الثلاثية هو اللقاء مع الذات؟ مع والدتك؟ أم مع حقيقة أخرى أكثر عمومية؟
خودوروفسكي: إنها قبل كلّ شيء رحلة إلى الذات. لكن، في حالتي، تمر هذه الرحلة عبر لقاءات ضرورية. لقد التقيتُ بشخصيات استثنائية أثّرت في حياتي، مثل باشيتا، معالِجة مكسيكية عملت معها لمدة ثلاث سنوات. كانت تجري عمليات جراحية باستخدام سكين بسيط، بلا تخدير. كان المرضى يأتون من كلّ مكان للعلاج. لقد رأيتُ المعجزات بأم عيني. علمتني أن أرى ما وراء الواقع المادي، أن أفهم أن الفنّ والشفاء مرتبطان جوهرياً.
رواييه: فيلمك الوثائقي «السيكوماغيا، فنّ العلاج» يستكشف بالضبط هذه الفكرة بأن الفنّ يمكن أن يشفي. هل كان خلق هذا الجزء الثالث، «رحلة أساسية»، بمثابة فعل سيكوماغيا بالنسبة لك؟ هل كان فعل شفاء شخصي؟
خودوروفسكي: بالطبع. كلّ ما أفعله هو فعل سيكوماغيا، يهدف إلى العلاج الشخصي، وربما معالجة أولئك الذين يعيشون هذا العمل معي. هذه الثلاثية تنطوي على رحلة روحية، تحل صراعاتي مع والدي، مع والدتي، وأيضاً مع نفسي. يمثّل «رحلة أساسية» نهاية هذه الرحلة، طارحاً نوعاً من التصالح مع جذوري. إنه عمل يدعو إلى الشفاء والتحرر.
رواييه: غالباً ما تتحدّث عن السحر واللقاءات الروحية. هل يمكنك أن تخبرنا أكثر عن تلك التجارب التي أثّرت في عملك وحياتك؟
خودوروفسكي: السحر بالنسبة لي هو اللقاء مع المجهول. لديّ أيضاً ذكريات دقيقة جداً عن ولادتي. أذكر لحظات داخل رحم أمي. هذه التجارب الروحية، هذه الرؤى، هي التي تغذّي مخيلتي.
اقرأ أيضا: كزافييه دولان: العاطفة هي جوهر كلّ ما أفعله