يقدم المخرج اليوناني يورغوس لانثيموس في فيلمه «Poor Things» المبني على رواية بنفس الاسم للكاتب أليستر غراي، قصة امرأة تدعى «بيلا باكستر»، تجسدها إيما ستون، يتم إحياؤها بعد حادث مأساوي على يد العالم ذو المظهر الغريب والمشوه الدكتور «غودوين باكستر»، وتبدأ بعدها بيلا في استكشاف العالم من جديد ولكن بعقلية طفلة، وتندفع بتعلم الحياة والحب والشهوة والحزن، في رحلة مليئة بالمغامرات والاكتشافات.
وكل ذلك يقدمه المخرج في رؤية بصرية خلابة، وأسلوب سردي جذاب تثير التفكير وتحفزه على فك الرموز والدلالات المختبئة بالفلم، فمن خلال استخدام الزوايا المغايرة وتشكيل العدسات بشكل غير تقليدي، والذي لا يهدف فقط في خلق تأثير فني، ولكن كذلك في تعزيز الرسائل البصرية والنفسية للفيلم، وإضافة عمق وأبعاد مختلفة لما يريد أن يقوله.
فهذا التنوع في طرق التصوير، ساهم في تعزيز الحالة النفسية للشخصيات، والجو العام للفيلم ككل، وبذلك أضاف طابع من الخيال والفانتازيا، إذ أن استخدام الزوايا والعدسات بطرق غير تقليدية قد عززت الشعور بالعالم غير المألوف، وهذا ما خلق جو غير واقعي يتناسب مع موضوع الفيلم.
فحتى لو لم يكن هناك ما يعزز هذه الغرائبية، لكانت طبيعة العمل وطريقة تصويره والاشتغال عليه، بما قدمه الفيلم من أسلوب لكانت كافية في إظهار عالمه المختلف والغريب، ولكن المخرج بطبيعة الحال لم يكتفِ بذلك إذ حاول أن يضفي مستوى آخر من الغرابة والخيال، وتعزيزه بأسلوب سردي وفني، تزيد من حدته، وتعيدنا لأسلوب لانثيموس المعتاد.
فمثلاً طريقة تجشأ العالم الغريب الدكتور «غودوين»، والذي قام بدوره الممثل ويليم دافو، وكذلك تواجد أجسام طائرة بالسماء مما يعكس حجم الغرابة ما بين فترته التي توحي أنها ما بين القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وبين ما يقدمه الفيلم من تفاصيل مختلفة عن تلك الفترة بأسلوب وطابع فني مختلف.
هذا من جانب، ومن جانب آخر أن ما يمثله هذا الفيلم بالنسبة لأفلام لانثيموس الأخرى ما هي إلا نغمة مرتفعة في سلم الأفكار التي أراد أن يطرحها ويقدمها بأسلوبه المختلف والغريب، إذ أن لانثيموس لا ينفك بالغوص في موضوعاته الأثيرة، مثل الهوية والحرية والسلطة وتقديم رؤية فلسفية تخص الحياة والإنسانية، واسقاطها على موضوعات تخص المرأة وما تعانيه، وفي فيلمه «Poor Things» تتضح مثل هذه الأفكار بشكل أكثر قوة ووضوح مما هي عليه في أفلامه السابقة.
فحضور المرأة داخل أفلام لانثيموس يظهر بشكل متنوع ومختلف، ويحمل دلالات متعددة وإحالات فكرية بعيدة. ويمكن لنا نستظهر هذا الدور بشكل أكثر من خلال متابعة حضورها داخل أفلامه، واستكشاف ما للنظرية الوجودية والنسوية، على وجه التحديد من تأكيد على هذا الحضور.
ففي فيلم «Dogtooth» مثلاً يعكس المخرج هنا موضوعات تتعلق بالسلطة من خلال القمع والسيطرة، والتلاعب الفكري والنفسي، فمن خلال عائلة مكونة من أب و بنتان يعيشون جميعًا تحت سيطرة الوالدين. فتحاول الأبنة الكبرى تحديداً، وفي مشهد أيقوني كسر قالب السلطة والخروج من عباءتها. ولعل هذا ما يجسد مقولة سيمون دي بوفوار عن الآخر، وكيف أن النساء كائنات تحت السيطرة الكاملة للأب، مما يعكس فكرة القمع الأبوي والتهميش الواقع على المرأة.
كذلك في فيلم «Alps» نجد أن مفهوم الهوية والحب وتأثير الأدوار المجتمعية المفروضة على النساء وعلى حياتهن الشخصية والمهنية له دور واضح حول كيف أن المرأة ومن خلال عملها كممرضة ومساعدة للآخرين على التعامل مع الفقد، يوقعها في صراعات في الهوية ما بين دورها المهني واحتياجاتها الشخصية، والتي تعكس حدة التوتر بين الأدوار المفروضة والتحقيق الذاتي.
أما في فيلم «The Lobster» والذي يدور حول كيف أن الأفراد وخلال تواجدهم في فندق، هو أشبه بالسجن، وعليهم خلال خمسة وأربعين يوماً أن يختاروا أنثى متطابقة معهم ليتزوجوا منها، ويعودوا للمدينة وإلا سوف يتحولوا إلى حيوان من اختيارهم.
إذ يمكن أن نلمس من ضمن الموضوعات المطروحة داخل الفيلم موضوع الأداء الجنسي، الذي تطرحه المنظرة النسوية جوديث بتلر وكيف أن الأدوار الجندرية والعلاقات تُفرض اجتماعياً. وكيف أن محددات الهوية الاجتماعية تضع الفرد في نظر الآخرين على كونه، إما فرداً شرعي في المجتمع الذي ينتمي إليه، أو أنه ولد عاق، يستحق حينها أن يرمى خارج الحدود المجتمعية التي تم تحديدها سابقاً.
وفي فيلم «The Favourite» يتضح بشكل جلي موضوعات السلطة والسيطرة من خلال مفهوم القوة والدهاء بين النساء في البلاط الملكي، حيث تتنافس النساء على النفوذ والحظوة والسيطرة، وما يمكن للنساء أن يفعلنه كلاعبات رئيسيات في مساحات السلطة، مما يعكس مفهوم ميشيل فوكو حول السلطة والسيطرة، وبأن السلطة نتاج شبكة معقدة من العلاقات والمعرفة والخطاب، وكيف أن الأجساد الهامشية التي تعتبر مجرد ظواهر هامشية، يمكن لها الصعود والبروز في أعلى سلم السلطة.
أما في فيلم «Poor Things» فيحمل كل تلك المفاهيم ويذهب بها بشكل أبعد، فهو أشبه برحلة فعليه لكفاح المرأة ونضالها، فكأن ما قدمه من أفكار في أفلامه السابقة هي محاولة لتقديم المزيد من تلك الأفكار، وزرعها بشكل أكبر داخل هذا الفيلم.
فحضور الهوية، والسلطة، والتحرر، والأداء الجنسي داخل الفيلم يعطي بُعداً أكثر تعقيداً، فمن خلال شخصية بيلا التي تسعى لاكتشاف حياتها وهويتها بعيداً عن التوقعات المجتمعية، تُبين بوضوح فكرة سيمون دي بوفوار، عن أهمية تحرر النساء من الأدوار التقليدية واستقلالهن بتجاوز القيود المفروضة عليهن. إذ أنها تدعو النساء بالاعتراف بذاتها والسعي من أجل التعريف بأنفسهم خارج الأدوار الموكلة إليهن من قبل المجتمع. وكأنما الفيلم هو صدى لهذا الخطاب ونظرة دي بوفوار، وخاصة مع ما تؤكده الوجودية على حق الحرية للفرد وخلق معنى في حياته.
ولعل ارتباط الفيلم في فترته التاريخية مع بدايات الحركة النسوية في القرن التاسع عشر كحركة اجتماعية وبالتحديد في عام 1895م، ثم تطورت حتى نشأت عنها في سبعينيات القرن العشرين فلسفة نسوية، هو دليل على كون الفيلم ما هو إلا محاولة لتقديم تاريخ الحراك النسوي ولكن بمنظور أدبي، وفني. فمن هنا دراسة التشابهات ما بين ما تعنيه النسوية والوجودية من أهداف وغايات، مع نظرة ملية على ما يقدمه الفيلم، سوف يعطي رؤية واضحة حول هذه التأثيرات بشكل أكبر.
فالنظرة العامة على النظام البطريركي (الأبوي) Patriarchal، والذي كان سائداً طوال تاريخ الحضارة الغربية، وكان يُعد مثل بنية الحضارة الإنسانية القائمة على مؤسسات وعلاقات اجتماعية تكون المرأة فيها ذات وضعية أدنى وخاضعة لصالح الرجل، إذ يتبوأ الرجل فيها السيادة والمنزلة الأعلى، فيمتلكون حينها السلطة والقدرة على تشكيل حيوات النساء، ويخضعهن للقهر والكبت، ويرسمون حدودهن وطريقهن بالقيود. فتصبح عندها المرأة في إطارها الأنثوي المحدد، ووفقاً لشروط الرجل ومتطلباته.
وبالربط مع ما يذهب إليه الفيلم، في شخصية الدكتور غودوين، فكما يظهر بالفلم، على اعتبار كونه الخالق على غرار شخصية فرانكشتاين في الرواية المعروفة لماري شيلي (والتي تعد بالمناسبة، هي نفسها نسوية كأمها ماري ولستونكرفت والتي كتبت كتابها «دفاع عن حقوق المرأة» في القرن الثامن عشر). إذ أن «بيلا»، الشخصية التي تم إحياؤها من جديد بعقل طفل، دائماً ما تطلق على الدكتور اسم (الرب) وهذا يعطي دلالة كبيرة على علاقة الشخصيتان فيما بين بعضهم البعض.
فمن ناحية، يمكن أن تكون شخصية «بيلا» هي حواء، مما يعطي تصور أسطوري وديني لمثل هذه الحالة، فحالة الخلق والاكتشاف والمعرفة ثم التحرر والاستقلال يمكن رؤيتها كرمز لرحلة المرأة منذ البدايات حتى وصولهن للسيطرة كما حصل بنهاية الفيلم. ولكن حتى بعيداً عن ذلك، اعتبار الدكتور مع ما يمثله من سيطرة وقوة في التحكم في شخصية بيلا هو تأكيد على القوة المرتبطة بالذكورية على حساب الأنثوية وتسيدها عليه.
ولعل مقولة سيمون دي بوفوار في كتابها المشهور (الجنس الثاني) هو تأكيد صريح على ما ذهب إليه الفيلم، إذ تقول سيمون: «العالم أساسًا ذكوري، وأنَّها أدنى «أي المرأة» من الرَّجل وأقل منه، يبدو الرجال كأنصاف آلهة، وتبدو المرأة أمامهم كطفلة أبدية، شأنها في هذا شأن طبقة العمال والعبيد وسكان المستعمرات».
من هنا تأتي مقولة فيلسوف الوجودية جان بول سارتر حول كيف أن «الوجود يسبق العدم» وما تمثله هذه العبارة من معنى حول أصالة الأنسان ووجوده، ولكن بقدرته أن يمنح نفسه الجوهر من خلال أفعاله وتصرفاته واختياراته، فالإنسان مسؤول عن نفسه لتمتعه بالحرية الكبيرة في تشكيل حياته، إذ لا توجد محددات خارجية مسبقة تحدد ماهيته، فالإنسان «يوجد أولاً، ثم يلقي بنفسه، ويندفع في العالم، ومن ثم يعرّف نفسه».
وهذا ما يمكن أن نلمسه من رحلة البطلة بالفيلم ورغبتها الكبيرة في استكشاف العالم ومن ثم معرفة نفسها ومشاعرها واختبار كل ذلك حتى تصل للنضج الكامل، بأن تكون قادرة أن تأخذ موقع الرجل/الرب. وتعيد تشكيل الحياة كما تشتهيها. فـ«بيلا باكستر»، تعرضت لمحاولة تدجينها ووضعها في إطار معين من خلال السيطرة عليها والتحكم بها، ولكي تخرج من هذا الإطار، كان عليها أن تخرج في رحلة لتزويد نفسها بالأدوات، والإمكانيات حتى تصل لمرحلة التمكين والتحرر، والخروج من السطوة الذكورية بإعادة تعريف هويتها واستقلالها، ووصولها لموقع القوة والسيطرة وتعيد عندها دورها تشكيل وتدجين الرجال.
في الختام، بالرغم مما يميز الفيلم من أسلوب فني وبصري، وطريقة سردية مختلفة في الاقتراب من موضوعاته، إلا أن الفيلم لا يبتعد عن كونه اجترار لأفكار كثيرة ومحاولة صياغتها بأسلوب فني، مما أوقع الفلم بثقل الأفكار التي أراد أن يقدمها طوال مدة الفيلم، فمعالجة العديد من الأفكار الثقيلة داخل السرد البصري به، وضعنا في تكرارات ومقولات كان بالإمكان اختصارها وتقديم ما يوحي بها، أو على الأقل الاشتغال على الفكرة العامة الموجودة بالرواية، ومن ثم تقديمها بأسلوب أقل ثرثرة في مقولاتها، وأكثر نضجاً في أحكام مفاصل سرد القصة.
فمحاولة خلق فلم بأسلوب فني مبتكر من خلال استخدام وتكرار زوايا معينة أو عدسات مختلفة، وبعدها خلق مفارقة سردية من خلال استخدام الأبيض والأسود في جزء من الفيلم، واستخدام الألوان في بعض أجزاءه، وأن تضيف له فوق كل هذه الاستعراضات البصرية والأسلوبية، ثقل الأفكار الكثيرة التي قد لا تكون كافية لاستيعابها وملاحقتها.
فالمسألة أشبه بشاحنة كبيرة ومليئة بكل ما لذ وطاب مما تشتهيه النفس، ولكن لكي استمتع بما فيها، يجب عليّ إدخالها بالكامل داخل منزل صغير، فالنتيجة المتوقعة من هذا هو أن المنزل سيُهدم ويتبعثر ما في الشاحنة من مشهيات، وعندها سوف أخرج بالقليل مما في الشاحنة، وهذا ما يحصل مع هذا الفيلم، في كونه يحشد كل ما يريد أن يقدمه بالعديد من التقنيات والأساليب الكثيرة، وبأن على المتلقي في الأخير أن يستقبل كل ذلك ويستوعبه.
وكذلك أن المفارقة في كون الفيلم بقدر ما يحاول أن يقدم فكرة الرجل المتحكم/المتوحش، والإله، ومحاولته لتدجين المرأة ووضعها في إطارها كما يظن، إلا أنه بالمقابل يجعل من الضحية بالنهاية أن تكون كذلك وحش جديد، وكأنما هي استبدال للدور الذكوري بالدور الأنثوي لا أكثر، مما يعيدنا للوراء من جديد وأن كان بشكل مختلف، حيث تسود فيه المرأة ويصبح الرجل عندها في المراتب الدنيا، ولا نخرج من هذا الصراع عندها إلا بالاحتدام ومحاولة كل طرف في تدجين الآخر أو جعله كدمية.
اقرأ أيضا: Poor Things… لانثيموس يعيد اكتشاف الحياة في «كائنات مسكينة»