لم يخل أي مقال تناول الفيلم النرويجي “أرماند” Armand من ذكر حقيقة أن مخرجه هالفدان أولمان تونديل، ينتمي إلى أشهر عائلة سينمائية في المنطقة الاسكندنافية ودولها الأربعة، فجدّه هو المخرج السويدي الأكبر إنغمار بيرغمان، وجدته هي الممثلة النرويجية ليف أولمان.
الأمر وصل في بعض المقالات لضرب المقارنات بين “أرماند” وهو الفيلم الروائي الطويل الأول لمخرجه وأفلام بيرغمان، ومحاولات البحث عن أوجه التشابه بين المخرج الشاب أولمان تونديل وأفلام جدّه، بل وافتراض كون الفيلم بداية متوسطة تشبه بدايات المخرج الكبير في خمسينيات القرن الماضي!
لست في حاجة لأن تكون خبيرًا أو حتى سينمائيًا متمرسًا لتلمس ما في الأمر من غياب للعدالة، سواء تجاه المخرجين الآخرين الذين لم ينالوا نفس القدر من الاهتمام لأنهم لا ينتمون لعائلة سينمائية عريقة، أو تجاه تونديل نفسه – وهو الأهم – بوضعه في مقارنة مع أحد أعظم المخرجين في التاريخ، فقط بسبب صدفة بيولوجية، ربما لم يكن بيرغمان نفسه ليهتم بها، وهو الذي عُرف بالتقلب العاطفي والتنقل بين الزيجات، وعدم منح أبناءه التسعة الاهتمام الكافي المطلوب من أي أب.
لكن المراجعات التي كُتب أكثرها بعد عرض الفيلم مباشرة عادت لتضع الفيلم نفسه لا صلات القرابة الخاصة بمخرجه في مركز الاهتمام، بعدما فاز الفيلم بجائزة الكاميرا الذهبية التي يمنحها المهرجان لأحسن فيلم عمل أول في كافة الأقسام، وهي الجائزة الرسمية الوحيدة التي يمنحها مهرجان كان لأفلام لم يخترها. فلجنة التحكيم تشاهد الأعمال الأولى في الاختيارات الرسمية، وفي نصف شهر المخرجين وأسبوع النقاد أيضًا، وهي أقسام مستقلة تختار أفلامها بمعزل عن إدارة كان. من هنا فهذه الجائزة تُعد مؤشرًا بالغ الأهمية على حرفية وموهبة من ينالها، لأن الفائز بها يصبح تلقائيًا صانع أفلام ينتظر الجميع بترقب فيلمه الثاني.
لجنة التحكيم قررت الانحياز للاختيارات الرسمية ومنحت الكاميرا الذهبية لـ “أرماند”، الذي عُرض في مسابقة “نظرة ما”، ثاني مسابقات البرنامج الرسمي أهمية. بينما تجاهلت لجنة تحكيم المسابقة نفسها الفيلم تمامًا، وزعت جوائزها على سبعة أفلام متنافسة ليس من بينها “أرماند”. الأمر الذي يعكس الطبيعة الخلافية للفيلم، والتي تجعل من المنطقي أن يقع البعض في حبه، بينما يراه آخرون عملًا متواضعًا، أقل من أن يوضع في هذا المكان المهم من برنامج أكبر مهرجانات العالم.
ليس مجرد خلاف بين أطفال
أحداث الفيلم بالكامل تدور داخل مدرسة للأطفال، في إطار زمني يكاد يقترب من الزمن الفعلي: منذ نهاية آخر يوم دراسي في العام وحتى بداية المساء. تتورط معلمة شابة في حل مشكلة تبدو صالحة للانفجار بين طفلين في السادسة من عمرهما، بعدما اتهم الطفل يون زميله أرماند بالاعتداء عليه جنسيًا خلال إحدى الألعاب. تستدعي المدرسة والدة أرماند لتواجه والديّ يون الذي أبلغوا بما حدث لابنهما، أو على الأقل ما قاله الطفل.
مشاهد ما قبل المواجهة والمواجهة نفسها تكشف أفضل عناصر الفيلم، وهو طاقم التمثيل الذي تتصدره النجمة ريناته رينسفه، والتي ترسخ اسمها كأحد أهم الممثلين في أوروبا. رينسفه بلغت ذروة نجاحها قبل ثلاثة أعوام عندما نالت جائزة أحسن ممثلة من كان عن فيلم المخرج خواكيم تريه “أسوأ شخص في العالم The Worst Person in the World”. من يومها ولا تكاد رينسفه تلعب دورًا إلا وتركت فيه بصمة واضحة، وإن كان الأدوار بدأت تدور في مساحة متقاربة، هي المرأة الجميلة المبهرة التي تحمل جانبًا مظلمًا قادرًا على إفساد حياتها وحياة من حولها.
ما يبدأ كمواجهة بين أولياء أمور يناقشون مشكلة حدثت بين الأولاد يكشف عن علاقات معقدة يقرر المخرج أن يؤجل كشفها لقرابة منتصف زمن الفيلم، بل وألا يكشف بعضها فيترك الاحتمالات مفتوحة لتأويل الجمهور. لكن المظلة العامة هي أن إليزابيث (ريناته رينسفه) كانت متزوجة من خال يون، شقيق والدته سارة التي تحمل كراهية مكبوتة تجاه إليزابيث، منبعها قناعتها من أن انتحار شقيقها كان سببه إليزابيث.
على المستوى الفردي، تخلق هذه الخلفيات (التي تتضمن وجود علاقة سرية ما بين إليزابيث ووالد يون، زوج عمّة أرماند) مساحة من التعقيد الروائي المفيد في مواقف الشخصيات، بما في ذلك شعورنا بأن سارة كانت تكره إليزابيث حتى قبل موت شقيقها، بسبب جاذبيتها وقدرتها على التلاعب بالآخرين واستمالتهم لصفها. لكن على المستوى السردي والفكري لا يحقق الأمر درجة النجاح نفسها.
سرديًا، يعاني الفيلم من تخبط واضح في إيقاعه، الذي يبدأ بهدوء وتشويق في مرحلة تقديم المشكلة وأبطالها، ثم يبدأ مساحة من الغموض عندما نبدأ في الشعور بأن هناك ما هو أكثر مما نسمعه عن الأزمة بين الأولاد، ثم يدخل المخرج مرحلة يحاول فيها أن يقدم المعلومات التي يختار كشفها بمزيج من الأحاديث المبتورة وتفاصيل الديكور (الصور المعلقة على حائط المدرسة التي كانت ساره وشقيقها من طلابها القدامى)، بالإضافة لتوظيف فنون أدائية أخرى في مشهدين راقصين تقوم ريناته رينسفه بأحدهما وحدها (بمشاركة طفيفة من حارس المدرسة)، بينما تشارك أولياء الأمور الثاني. ليكون الناتج النهائي مزيج من كل شيء، من عناصر جيدة وأخرى خارج السياق، ومن لحظات مشوقة وأخرى بلا قيمة، كان من الأجدى الاستغناء عنها لحساب الحكاية الرئيسية.
أما على المستوى الفكري، فيُجهد كثيرًا من يحاول إيجاد الفكرة الحاكمة لهذا النص الذي كتبه المخرج بنفسه. ففي بدايته يبدو الأمر واعدًا بطرح أفكار حول الفوبيا التي صارت تسيطر على المجتمعات كلها (والغربية خصوصًا) فيما يتعلق بتفسير كل التصرفات وكأنها ستؤدي لمصائب كبرى، وحول طريقة تعامل السلطات مع المشكلات التي تبدأ بمحاولة تجاهل أهميتها حتى تفشل المحاولة فيتم تضخيم الأمر. ثم يترك الفيلم هذه الأفكار ليتجه لأزمة إليزابيث وكيف يضعها كل من حولها داخل إطار من التصورات النمطية التي تزيد غضبها فتُقدم على أفعال تزيد من ترسيخ تلك التصورات في دائرة جهنمية، قبل أن يترك المخرج هالفدان أولمان تونديل كل هذا، ويأخذنا لمتاهة غامضة من مشكلات الطفولة والمراهقة غير المعلنة، والتي تؤثر في اختيارات الكبار وبالتالي يورثونها لأبنائهم، لينتهي الفيلم على كل شيء ولا شيء. مجرد جهود مشتتة كان بإمكان أحدها أن يكون موضوعًا لفيلم قيّم، غير أن ازدحامها حرمها جميعًا من التأثير.
يمتلك المخرج صنعة إخراجية واضحة، لا سيما في استخدام موقع التصوير وخلق جو عام يُحرك المشاعر داخل مكان محايد بطبيعته مثل المدرسة، كذلك في قراره بألا يظهر الأطفال على الشاشة تقريبًا في فيلم تنطلق الدراما فيه من شجار بين طفلين وتدور أحداثه داخل مدرسة، وبالطبع في توجيهه لبطلته القادرة دومًا على الإدهاش. لكن قراره بأن يطرح كل الأفكار ويستخدم كل الأساليب جعل الفيلم لا يبلغ ما كان يملكه بالفعل من تأثير.
لذلك نقول إن الفيلم قد ظُلم مرتين عبر التمييز الإيجابي: مرة عندما نال اهتمامًا أكبر من منافسيه بسبب جذور مخرجه، ومرة بحصوله على جائزة كبيرة لم يكن – على الأقل في اعتقاد كاتب السطور – الأجدر بها. مما يجعلنا نأمل أن يكون فيلم تونديل المقبل (والذي لن يتأخر بطبيعة الحال) قادرًا على الاستفادة من تجربة “أرماند”، فيخرج منها أكثر خبرة وقدرة على سرد حكاية مكتملة برغم تشويش الإعلام والجوائز.
اقرأ أيضا: «فيريوسا: ملحمة ماد ماكس»… جورج ميلر يعود لصحراء الانتقام والأمل