منذ فيلمه الروائي القصير «ممر»، يتّخذ المخرج الجزائري أنيس جعاد طريقًا متفردًا بين أقرانه في السينما الجزائرية، ويصنع سينماه الخاصة التي تحمل بصمة مختلفة عما هو سائد في الأفلام الجزائرية وحتى نظيرتها العربية، بأسلوبه الذي يميل للتبسيط السردي والبصري والتشخيصي في آن واحد، ما يعكس فلسفة مخرج وفيّ لرؤيته الفيلمية المبنية على أبسط العناصر المشهدية.
«ذاكرة الأخطاء» هو كتاب للصحافي العربي محمودي، والذي يصلح كذلك ليكون عنوانًا لفيلم «أرض الانتقام» للمخرج أنيس جعاد الفائز بجائزة النقاد في الدورة 12 من مهرجان وهران الدولي للفيلم العربي وجائزة أحسن تمثيل في المهرجان ذاته للممثل سمير الحكيم، والذي قدّم عرضه الدولي الأول في مسابقة آفاق السينما العربية في الدورة 46 من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، أقول بأنه يمكن أن يكون عنوانا لهذا الفيلم لكون هذا الشريط ينطلق من ذاكرة الأخطاء لشخوص الفيلم، والذين يحبسهم أنيس جعاد بذكاء داخل فضائه السينمائي.
بطل الفيلم جمال (سمير الحكيم) تلاحقه الخيبات، فبعد أن قضى خمس سنوات خلف القضبان بسبب قضية فساد، يُطلق سراحه، ويصبح ضائعًا بعد أن باعت زوجته شقتهما وأفرغت الحسابات البنكية، واختفت مع ابنه الوحيد، ووسط هذا يعود جمال إلى القرية التي وُلد فيها، حيث تنتظره اكتشافات غير متوقعة عن ماضيه وسط رغبته الجامحة في الانتقام فيمن كان السبب في كل ما عايشه سابقا.
ينطلق أنيس جعاد من فكرة الانتقام ولكن بطرح مختلف، رغم أنها فكرة عالجها العديد من كبار مخرجي السينما من خلال عالم الانتقام في صورة مارتن سكورسيزي صاحب عصابات نيويورك وكوينتن تارانتينو مخرج «جانغو الحر» و«اقتل بيل» وغيرهم، والنتيجة الأكثر وضوحا هي كلاسيكية في أغلب هذه الشرائط وهي انتقام البطل الذي ينتهي به الأمر منتصرًا، ولكن في شريط «أرض الانتقام» الأمر مختلف، فلا هو الأسلوب ذاته ولا المعالجة كذلك ولا سير الأحداث.
اللقطات الأولى من الفيلم، تحيلنا إلى أننا أمام فيلم لسينما المؤلف، مبني على لقطات طويلة وثابتة فالكاميرا عند جعاد لا تتحرك كثيرا كخيار وأسلوب إخراجي يخدم القصة، فجمالية الصورة هنا اتكأ عليها المخرج مع موسيقى حزينة تشي بوضع عام تدور في فلكه الحكاية، حكاية جمال الذي تطارده الخيبات منذ خروجه من السجن، ليصطدم أمام واقع مأساوي آخر مع دوافع كبيرة للانتقام تضيء له شعلة في سرداب ما بعد الخطأ.
صورة الفيلم (حمودي العقون) والموسيقى المرافقة تشعرك بالقلق وتغرق المشاهد في تفاصيل الفيلم، ولكنها بالغة التأثير وتعطي الشريط السينمائي كثافة وجمالية، وتعكس حالة التوتر والصراع النفسي الذي يعيشه البطل في دواخله وفي مواجهة عالمه الخارجي المليء بالصراعات انطلاقا من عائلته الصغيرة والكبيرة، ومن هنا تحرق فكرة الانتقام صاحبها ويلاحقه الحظ السيء والفشل في كل خطواته الحياتية.
تعيش شخوص الفيلم كلها تقريبا داخل غرفة مظلمة، يحبسها المخرج في داخل إطاره السينمائي، فالزوجة السابقة تسعى للهروب من جمال خيفة أن يجدها، وابن عمه يعيش صراعًا مع زوجته بسبب غرقه في مشروع مع جمال بالإضافة إلى الموظف المرتشي الذي ينكشف أمره، فكل شخصية على حدى تعيش حالة من الارتباك ويجمعها قاسم مشترك في شهوة الدنيا وبيئة باردة وعوالم مضطربة، ومحاصرة في زاوية الأخطاء الضيقة.
مخرج الفيلم تبنى أسلوبًا متقشفًا في الحوار، واتكأ على فضاء شبه فارغ كخيار لسرد الأحداث يحتوي على أبسط العناصر المشهدية التي تستعمل في تركيب المشاهد، وحتى تكتمل اللوحة ابتكر البدائل الأخرى كالصورة التي تستكشف الغضب وترصده وتهتم بتفاصيل الشخصية وتعابيرها، وتترك المجال للمتلقي ليتلقف ويفتش في التلميحات ويؤولها وفق سياقها في الفيلم، وبين الحين والآخر يدرج المخرج وكاتب النص جملا حوارية تخلق الربط بين الأحداث حتى لا تضيع تفاصيل القصة.
الملفت في فيلم جعاد، هو اتكائه على أداء قوي للمثلين، خاصة أبطال الفيلم سمير الحكيم ومحمد موفق ومريم مجقان ومحمد تكيرات وشوقي عماري، حيث خدموا القصة وساهموا بشكل مرموق في صناعة الفيلم وخدمة أفكار المخرج، بالخصوص سمير الحكيم الذي وُفِق إلى أبعد الحدود في حمل الفيلم على كتفيه، وحتى في حواره الصامت ولغة جسده وتعابير وجه كان انعكاسًا لحالة اجتماعية فلسفية استدعتها اللحظة.
يضع أنيس جعاد أمامنا، فيلمًا مُثقلا بالعناصر الفنية، ومجموعة من القصص الواقعية بلغة سهلة وبسيطة وتكثيف سردي بديع، كما يتمرد بهذا الفيلم على الأنماط التقليدية في السينما الجزائرية ويتحدّى ما هو سائد، عبر أسلوبه المتفرد في الطرح والمعالجة ونظرته للأشياء سينمائيا، ويبرز في الآن ذاته عمق المعالجة السينمائية لفيلم يغوص في أغوار الواقعية، والذهاب إلى نقد صريح والتقاط حساس وضمني لواقع اجتماعي جزائري ملتبس ومضطرب، ويعكس حالة من الانفلات المجتمعي عند الإنسان الجزائري بكل أطيافه وخصائصه وتناقضاته.
اقرأ أيضا: «أبو زعبل 89»… التداوي بحكاية مفعمة بالقسوة