كان أدريان برودي في التاسعة والعشرين عندما فاز بـ«أوسكار» أفضل مِمثّل عن دوره في «عازف البيانو» لرومان بولانسكي، فتحوّل معها إلى أصغر ممثّل يُسند إليه التمثال المهيب. كيف يمكن أن ننسى ذلك المشهد في الفيلم عندما يعزف شوبان للضابط النازي؟ ثمة تجارب فنية لممثّلين يمكن اختزالها في لقطة، ومع ذلك لبرودي البالغ اليوم 51 عاماً سجل حافل بـ«الأفلام التي تبقى» وفق تعبيره. بعضها حمل تواقيع كبار السينمائيين من مثل ستيفن سادربرغ، وودي آلن، ترنس ماليك، بيتر جاكسون، قبل أن يرتبط اسمه طوال السنوات الأخيرة بالمخرج وس أندرسون الذي مثّل تحت إدارته في خمسة أفلام كان آخرها «مدينة أستريود».
في مناسبة عرض «الوحشي» لبرادي كوربيت في مهرجان البندقية الأخير وفي ظلّ توقّعات أن يكون لبرودي شأن كبير في موسم الجوائز المقبل، إليكم هذا الدرس السينمائي الذي قدّمه الممثّل القدير في الدورة الأخيرة من مهرجان البحر الأحمر.
نشأتي
«أبي وأمّي فنّانان، فضوليان، صاحبا روح لطيفة. لا يمكن للمرء ان يحلم بأفضل منهما كوالدين. لولا تشجيعهما لي وإيمانهما بي، لما كنت هنا اليوم. في أحد الأيام، كُلِّفت أمي مهمة تصوير في الأكاديمية الأميركية للفنون المسرحية، وكان فيها برنامج مخصص للشباب. وربما لو لم تُكلَّف تلك المهمة، لما دخلتُ التمثيل، فبادرت إلى تسجيلي هناك، وأنا من جهتي أحببتُ الفكرة. وهكذا انطلق كلّ شيء.
بدأتُ التمثيل في عمر مبكر، ولم يكن في البداية مشروعاً مهنياً بأي شكل من الأشكال. ما توقّعت ان أحقق النجاحات التي جاءت لاحقاً في مسيرتي، لكنني أدركتُ في لحظة ما أنني أحبّ التمثيل، فمنحتُ مساحة للإبداع والأمل. تعرفتُ إلى عدد من الفنّانين خلال نشأتي، ولم يكن لدى الكثير منهم مستوى التشجيع نفسه الذي تلقيته، فلم يتمكنوا من تطوير أنفسهم.
كون والدتي مصوّرة فوتوغرافية شهيرة تعمل في نيويورك، نشأتُ محاطاً بالصور وتأثرتُ بمنظورها الخاص عن نيويورك والفنّ. كانت تعمل في صحيفة «فيلادج فويس» في السبعينات والثمانينات، وصوّرت شخصيات بارزة مثل جان ميشال باسكيا وغيره.
تطلّب الأمر عوامل عدة لأصبح من أنا عليه اليوم. أحدها هو حدس أمّي التي أدركت ان فضولي لا ينبع من رغبة في تقليد الآخرين، بل كان نتيجة حبّي لاستيعاب العالم الذي من حولي، خصوصاً في نيويورك المليئة بالأشخاص المختلفين. نيويورك مكانٌ على قدر كبير من التنوع، يتعايش فيها أناس من مختلف الخلفيات الثقافية والدينية والاجتماعية والطبقية.
كانت رحلتي اليومية إلى معهد الفنون، التي تتطلب تغيير أربعة قطارات، درساً يومياً لا يُقدَّر بثمن. ليس فقط على مستوى الفنّ، ولكن في فهم الشخصيات وطبيعة الإنسان وحتى تقدير فنّ الغرافيتي على جدران المدينة. هذه التجربة أثّرت عميقاً في ذوقي الفني وأسلوبي».
التسعينات
«كانت تلك فترة رائعة من حياتي. وكان زمناً مختلفاً لصناعة السينما. ففي منتصف التسعينات وأوائلها، ظهرت أفلام مستقلة تحمل روحاً جديدة. وكانت تُعرض في صالات كثيرة. اليوم، لا يوجد اهتمام كافٍ بالأفلام المستقلة. يعتبر البعض أن تكاليف تسويقها مرتفعة جداً أو أنها تتوجّه إلى جمهور معين. وبالتالي، يتردد الموزّعون في استثمار المال لجعلها متاحة للجمهور. لكن في ذلك الوقت، كان من الشائع عرض الأفلام الأوروبية، سواء من فرنسا أو إيطاليا، في دور العرض النيويوركية. وكان لدى صنّاع الأفلام الأميركيين المستقلين منبر حقيقي وجمهور وفيّ.
كنت في التاسعة عشرة عندما مثّلتُ في «ملك الهضبة» لستيفن سادربرغ، وقد شكّل فرصة كبيرة لي يومذاك. سادربرغ مخرج مذهل. استخدمتُ مرتبي بالكامل لشراء سيارة رياضية. هذه كانت أولوياتي في ذلك الوقت (ضحك). اعتقدتُ إن كلّ تجارب التمثيل ستكون مشابهة لما عشته، أي عبارة عن مخرج ذكي يعرف كيف يوجّهك، ليروي من خلالك قصّة جميلة ومعقّدة. هذه التجربة فرضت عليّ معايير عالية جداً. كنت محظوظاً.
لا بد لفيلم جيد ومخرج محترم، أن يدفعاك إلى الأمام. كانت فترة مميزة عملتُ فيها تحت إدارة باري لافينسون وسبايك لي وكن لوتش وغيرهم. تميزت هذه الفترة بالتحديات، واكتشفتُ شخصيات جديدة مختلفة عن شخصياتي السابقة».
«عازف البيانو»
«كان المساعد الأول لمخرج مثّلتُ تحت إدارته، عمل مع رومان بولانسكي فأخبره بأنه يجب أن يلتقي بي ويتعرف عليّ. كان هناك العديد من الممثّلين يتنافسون على دور سبيلمان، وتقدّم له الآلاف. بحثوا عن الممثّل المناسب لتجسيد الشخصية التي يستند الفيلم في الأساس إلى مذكراته. ثم اجتمعتُ ببولانسكي وأخبرته أنني مثّلتُ للتو في فيلم فرنسي قصته معاصرة مختلفة وقد تثير اهتمامه.
حضر هو والمنتج لمشاهدة الفيلم، وبعد ذلك تناولنا البيرة معاً، واعتبرتُ ذلك إشارة إيجابية. وجود فنّان عملتُ معه بشكل احترافي ساعدني كثيراً. لم أجر تجربة أداء، لم يُطلب إليّ ذلك. كان هذا الدور من أصعب ما جسّدته. كنت أجهل كيفية العزف على البيانو مع أني تلقيتُ بعض الدروس عندما كنت في عمر أصغر. لذلك، عدتُ إلى الدروس لمدة ساعتين كلّ يوم، وكان عليّ أن أعزف شوبان في المشهد الشهير. كنت أدرس قطعة موسيقية ثم أحفظ ذلك الجزء وأضيف ما تعلّمته في ذلك اليوم إلى ما تعلّمته في اليوم السابق، وأبني عليه. وفي النهاية، تمكنّتُ من العزف على أجزاء من تلك القطعة من دون أن أعرف بالضبط كيف.
قمتُ بهذا كله لتلبية الحاجة الفنية لعازف البيانو ولتمكينهم من تصويري وأنا أعزف. لكن ما تعلّمته عن لغة الموسيقى والمشاعر ساعدني كثيراً، خصوصاً أثناء تحضيري لشخصية تعاني من الجوع خلال الحرب. لم أستطع تمثيل ذلك ببساطة تامة. احتجتُ لفهم أو كسب هذا الفهم، لكوني لم أعش تجربة الجوع على هذا المستوى. وهذا أثّر بشكل كبير على تقمّصي تلك الشخصية. تعرفتُ الى الحقيقة المؤلمة التي يعيشها الكثيرون اليوم والتي نعتبرها نحن من المسلَّمات في حياتنا اليومية».
«الأوسكار»
«فوزي بـ«الأوسكار» كان تجربة استثنائية لي. كنت بدأتُ في التمثيل قبل ذلك بـ17 عاماً. والدي لطالما قال لي ان النجاح يتطلّب نحو 15 عاماً، فشعرتُ أنني أخيراً وصلتُ إلى لحظة الحصاد تلك. بالنسبة الى كثر من الناس، كانت الـ«أوسكار» أول مقدّمة حقيقية لي، رغم ان لديّ أعمالاً سابقة أدّت إلى اعتراف بموهبتي. فجأةً، ولد حيالي اهتمام هائل وفُرضت عليّ مسؤولية.
بعد الفوز، انطلقتُ في جولة صحافية استمرت ستة أشهر. عندما مثّلتُ في «عازف البيانو»، كنت في السابعة والعشرين، وعند عرضه كنت بلغتُ التاسعة والعشرين. كانت هذه النقلة تمثّل تحولاً كبيراً في مسيرتي ونظرة الناس إليّ. بعد فوزي، عشتُ فترة من التغييرات السريعة. نشأتُ في الكوينز، وكان الجميع يقول لي: «لا تتغيّر، إبقَ حقيقياً». كفنّان، كان من المهم بالنسبة إليَّ أن أتابع الرحلة التي بدأتها، وأن أبحث عن شخصيات تخاطبني وأعمل مع مخرجين لي حيالهم إعجاب».
«كينغ كونغ»
«رغم أن «كينغ كونغ» كان أحد أضخم إنتاجات «يونيفرسال»، كان لدى مخرجه بيتر جاكسون أسلوبه الفريد في صناعة الأفلام. اخرج أعمالاً مميزة، قبل أن ينتقل إلى «سيد الخواتم». تصوير «كينغ كونغ» كان تجربة رائعة. اختبرتُ فيه ما لم أختبره من قبل. أتذكّر أنه كان عليّ التصوير تحت الماء. اعتقدتُ أنه سيتم التقاط المشهد في حوض مائي كبير مع خلفية خضراء، لكن لا. وهذا رغم خوفي من أسماك القرش، مذ أخذني والدي لمشاهدة فيلم «الفك المفترس» عندما كنت في السادسة. استحضرتُ طفولتي من أجل هذا المشهد.
هذه إحدى جماليات التمثيل. يمكنك الاستعانة بالصدمات الماضية. والمرعب أنه كان عليّ التمثيل أمام طاقم كبير جداً. يمكن القول ان عدد المشاهدين في أي صالة كان يقارب عدد التقنيين خلال تصوير المشهد. لكن جميعهم كانوا داخل غرفة جافة مع مروحة تهب عليّ».
وس أندرسون
«العمل مع وس أندرسون تجربة فريدة. إنه عبقري لديه خصوصية عالية. إذا نظرتَ إلى فيلم من أفلامه، يمكنك على الفور التعرف اليه من خلال إطار أو إطارين، وتقول: «أعتقد أن هذا فيلم لوس أندرسون». وهذا أمر بديهي في الفنّ.
يعمل الفنّان طوال حياته ليصل إلى مرحلة حيث يمكنك القول عند النظر إلى عمله: «هذه لوحة لفلان». هناك أيضاً مراحل التطور التي كنت شاهداً عليها عند أندرسون، وأمسيتُ جزءاً من هذا التطور عندما صوّرتُ معه في «ذي دارجلينغ ليميتد». تكمن روعة التمثيل في انه يخلّد فترة من حياتك، وهذا في ذاته شيء عظيم. وهذا يجبرني على العمل بجدية، لأنني أعلم أن العمل سيبقى، لذا يجب أن أكون جيداً فيه.
ولكلّ دور تحديات، وعليك تجاوز كلّ تلك التحديات للحفاظ على مستوى ثابت في الأداء. حتى لو كان يوماً مليئاً بالعقبات، يجب ان تكون مستعداً. من الجميل أن تنظر إلى شيء من فترة أخرى من حياتك، فيعيد إليك موجة من الذكريات. أتذكّر مثلاً خلال تصوير «دارجلينغ» انني غضبتُ لأن رجلاً كان يضرب فيلاً على رأسه، وقلتُ: «لماذا يضرب هذا الرجل الفيل؟». ثم قال لي الناس من حولي: «اهدأ، لا يحق لك أن تقول هذا الكلام للرجل».
الانغماس في الدور
«أعتقد أن أكبر عدو للممثّل هو الوعي الذاتي. يكمن السر في العمل على الانفصال عن هذا الوعي. هذا أمر غريب، لأن الشهرة تتعارض تماماً مع رحلة التمثيل وتطوير الشخصية. لذلك، أرى ان أهمية البدء في سن مبكرة والمرور بمسار طويل قبل الوصول إلى الاعتراف الحقيقي كان شيئاً لا يُقدَّر بثمن.
التمثيل عملية اكتشاف متواصل لا تزال تضيف الكثير إلى حياتي. إني شخص فضولي بطبيعتي. لم أحب الذهاب إلى المدرسة، لكن لم يكن لديّ مشكلة في ان أدرس حين يتعلّق الأمر بالانغماس الكامل في مبادرة تجعلني أفهم الناس. إني شخص متعاطف بطبعي. لكن السعي لتجسيد شخصيات عاشت صراعات أكبر وأعمق من صراعاتي زاد فهمي للآخرين ومنحني شعوراً عميقاً بالتواصل مع الآخر. أخذني التمثيل إلى حياة جديدة.
رغم أن نيويورك بقعة جميلة، فمن خلال التمثيل تمكنتُ من اكتشاف العالم وثقافات جديدة. تعرفتُ الى أشخاص يسعون إلى تحقيق أحلام مشابهة لأحلامي. لكن التمثيل ليس مهنة مستقرة، بل تنافسية للغاية. أحياناً، تمر بفترات جفاف مهني، خصوصاً إذا كنت تنتقي الدور بعناية. ولا يمكنك قبول الدور لمجرد توفّره، ممّا يجعل فترات الفراغ بين الأعمال منفصلة تماماً عن فترات الانغماس الشديد في العمل خلال التصوير.
لا أعتبر نفسي مازوخياً، ولكنني أجد متعة كبيرة في العمل والانغماس في العمل، وهذا أمر ملحّ عندي. عملتُ في السابق مع ممثّلين يمكنهم التمثيل بشكل جيد من دون الحاجة إلى الجهد الذي أبذله. في مقدروهم أن يحبوني أثناء تصوير المشهد، أما أنا فلا أستطيع القيام بذلك بهذه السهولة. لذلك، أبذل جهداً كبيراً لأجد الحبّ أو لإزالة العقبات التي تمنعني من العثور على تلك المشاعر.
في ظلّ الانغماس هذا للعثور على الحبّ أو الألم أو الفقد، عليك ان تعكس فقدانك الخاص فتفكّر في فقدان الآخرين. حتى إذا كنت تجسّد شخصية حقيقية، فهي مزيج من الأشخاص والمشاعر والتأثيرات. ثم عليك أن تترك ذلك الشخص، لأنه ليس أنت. عليك تركه عندما تعود إلى عائلتك في تلك الليلة. وإذا كنت تجسّد شيئاً مروعاً مثل الحرب والفظائع، فلا يمكنك إلا أن تعترف بها».
السينما VS الرسم
«دعونا لا نخدع أنفسنا. السينما عمل تجاري. هناك أطراف تستثمر المال فيها، ويجب استرداد هذا المال والا تكبّدت خسارة. وإذا لم تثمر أعمالك كمخرج أو ممثّل عن أرباح، فلن يُستعن بك مجدداً. أما الرسم فشأنه مختلف.
يمكنك أن ترسم لوحة من دون أن تتوقّع بيعها. لكن، إذا أردتَ بيعها، فعليك ان تجعل الناس ينجذبون إلى هذا العمل لكي يرغبوا في شرائها، وتحتاج أيضاً إلى وكيل فنّي ذكي جداً. أما في ما يتعلّق بمهنتي كممثّل، فهناك دائماً مسؤولية لفعل ما في وسعي لرفع مستوى العمل، وأطمح على الدوام أن أعمل مع أشخاص يرفعون مستوى أدائي. أفضّل الأفلام المستقلّة، لأن هاجس استرداد تلك الأفلام لموازنتها يكون أقل بكثير من الأفلام الضخمة. الأمر الذي ينتج منه مجال إبداعي أكبر. ومع ذلك، الطريق محفوف بالأخطار، خاصةً مع التغيّر الكبير الحاصل في الصناعة طوال السنوات الأخيرة، في ظلّ ما يُعرف بالعرض التدفقي».