نضارة شخصياته، وعدم اهتمامه بالواقعية، وبساطة سرده، والفوضى الواضحة في إخراجه، واهتمامه بالشجاعة التي تنطوي عليها المشاعر الخام، والروح الشعرية الأكثر مباشرة وعاطفية… كلّها عناصر جعلت أفلام كلود لولوش (86 عامًا) وريثة أو تابعة للموجة الفرنسية الجديدة.
ينتمي لولوش إلى جيل من المخرجين السينمائيين اختار كثيرهم صناعة الأفلام ذات الحس الاشتراكي في منتصف الستينيات، أفلامهم موجهة للعمال الفرنسيين، لكنه كان من بين قليلين في هذا الجيل ممكن تمكنوا من وضع أنفسهم خارج نطاق تلك الموجة. من الأسهل أن نفكر فيه باعتباره منتميًا لمجموعة أخرى من المخرجين، الذين لا تجمعهم حركة أو بيانات أو ارتباطات صريحة. إنه أحد هؤلاء المراوغين، الذين يتنقلون بين المُوضات والمحظورات العصرية من دون التكيّف مع أي منها.
فاز بسعفة «كان» الذهبية وجائزتي أوسكار وجائزتي غولدن غلوب عن فيلمه «رجل وامرأة» (1966، Un homme et une femme)، وهو في العشرينات من عمره، ورفض كل وظيفة عُرضت عليه في هوليوود. جاء إلى السينما في ذروة الموجة الجديدة، لكنه لم يسمح لنفسه ابدًا بأن ينجرف في تيارها. على الرغم من أن طريقته في فهم السينما لم تكن مختلفة كثيرًا عن مواطنيه في ذلك الوقت، لكنهم أطلقوا عليه لقب «عتيق» ولما يبلغ الثلاثين بعد، و«مبتذل» عندما بدأ بالتحدث عن العلاقات الإنسانية.
إنه مخرج غير منتظم ولا يمكن لومه على أي شيء، لأنه نسج خيوط قصصه من حريره الخاص بدون الاهتمام بتصفيق الجمهور، خصوصًا النقاد في بلده، وبالتالي خلق عالمًا خاصًا جدًا ويسهل تمييزه.
لم يكن على وفاق مع الناس في مجلة «دفاتر السينما». قالها مرة ««دفاتر السينما أسوأ ما حدث للسينما». لم يكن حتى يحب الموجة الجديدة، لأنّها بالنسبة إليه هي روبرتو روسيلليني وفيتوريو دي سيكا، أي أن الواقعية الإيطالية الجديدة هي التي اخترعت الموجة الفرنسية الجديدة.
كلود لولوش ظاهرة غريبة في السينما الأوروبية، كان يُنظر إليه بازدراء، ولكن بدونه لا يمكن تخيل السينما الأوروبية الحديثة. كانت علاقته بالنقاد في وطنه متوترة دائمًا. ولا تزال إحدى أكثر العبارات العدائية التي أطلقها أحد النقاد «لقد كان عامًا طيبًا للسينما الفرنسية، لم يكن هناك فيلم للولوش» عالقة في ذهنه. عندما صعد لاستلام السعفة الذهبية، استقبله الجمهور بصيحات الاستهجان. ولكن كل ذلك لم يكن يؤثر عليه كثيرًا، فـكما قال منذ سنوات: «في النهاية، النقد الوحيد الذي يهمّ هو الزمن، والزمن كان في صفي».
رحلته إلى موسكو في عام 1957، حولته إلى مخرج سينمائي، يردد دائمًا في كل استعادة لرحلته: «عندما شاهدت أعمال المخرج ميخائيل كالاتزوف، أصبح واضحًا ما أن أريد فعله في الحياة هو صناعة الأفلام». كان ذلك اثناء رحلته الغريبة إلى موسكو.
وقتها نظم التلفزيون الكندي مسابقة بجائزة قدرها عشرة آلاف دولار لأول شخص يحصل على صور لضريح لينين وستالين. عاد إلى باريس وانضمّ إلى الحزب الشيوعي، ودرّب نفسه على التصوير سرًا بكاميرا خبأها تحت المعطف، وذهب مع 30 شيوعيًا فرنسيًا تلقوا دعوات لزيارة موسكو. قام بتفكيك الكاميرا وحملها في قطع منفصلة وأعاد تجميعها هناك. كانت الكاميرا تصدر ضجيجًا، فقال لزميله: «عندما أحكّ رأسي، أحتاج منك أن تبدأ بالسعال لتغطيني». التقط تلك الصور، ولكن الأهم هو عندما ذهب إلى موقع تصوير فيلم «الطيور الكُركيّة تحلق» (1957، The Cranes are Flying) لكالاتزوف. يومها قال: «في ذلك اليوم سألت نفسي: من هو الممثل الرئيسي، الكاميرا أو البطل؟ وقررت أن الكاميرا هي التي يجب أن تكون».
دمر لولوش أول فيلم صنعه. قالها ذات مرة بأن فيلمه الأول «شخصية الرجل» (1960)، تعرّض لصيحات استهجان لمدة 90 دقيقة في يوم عرضه الأول. هو الفيلم نفسه الذي استنكره أحد نقاد «دفاتر السينما»، وكتب وقتها «كلود لولوش، تذكر هذا الاسم جيدًا، لأنك لن تسمعه مرة أخرى». كانت والدته ووالده في صالة العرض وسط صيحات الاستهجان، وقال له والده لاحقًا: «إذا استهجنوك لمدة 90 دقيقة، فأنت موهوب للغاية». بعد أيام، توفي والده بنوبة قلبية، وكان لولوش يبلغ 23 عامًا، فدمّر جميع النسخ إذ اعتقد أن الفيلم هو ما قتل أباه.
في عام 1965، أعطاه مهرجان مار ديل بلاتا «Mar Del Plata International film festival»، جائزة أفضل مخرج عن فيلمه «فتاة وبنادق» (Une Fille et des fusils). يقول لولوش: «بالنسبة لي كان الأمر بمثابة البداية، كانت أول جائزة أتلقاها، لقد أرضى ذلك غروري جدًا». ولكن إلى اليوم، لا يزال لديه رؤيته الخاصة عن الجوائز، برأيه «الجوائز مهمة جدًا لأنها تهدئ البلهاء، وفي عالم السينما يوجد الكثير من البلهاء».
لولوش مهووس بالتكنولوجيا، يتابعها بشغف ويطبق ابتكاراتها للأفلام. يحب اللعب بالألوان، والأبيض والأسود. مهووس بالألوان المتفائلة، والتصوير الخشن الواسع النطاق للروح، والنصوص الزيتية، والتصوير المبتذل للمجتمع، والروايات ذات الرائحة الذكية، والمناظر الطبيعية المذهلة، والموسيقى التصويرية، والكاميرا المتحركة باستمرار، والنهاية السعيدة.
تتميز أفلامه الميلودرامية بروح الدعابة، أبطاله يلعبون دومًا، يجعلونك تصدق أي شيء، ومن خلالهم يمكن أن يحدث أي شيء. إن آني جيراردو، وأنوك إيميه، وجان لوي ترينتينيان، وإيف مونتان، وغيرهم ليسوا حاضرين في أفلامه فحسب، بل إنّهم يحيون الدور بتجربة مثيرة لغاية، كأنّهم يقدمون لنا مصيرهم الشخصي وحياتهم المعاشة. يغازل نجومه بينما هم يغازلون بعضهم البعض، والكاميرا تدور حولهم، وغالبًا ما كان يديرها بنفسه.
رومانسي وحالم هو كلود لولوش، الذي سيستلم «جائزة كارتيه للمخرجين» في الدورة الحادية والثمانين لـ «مهرجان البندقية»، مع عرض فيلمه الجديد «أخيرًا» (2024، Finalement). وصل إلى ذروة فنه من خلال قصص نموذجية حُكيت بطريقة مختلفة وغريبة وطليعية للغاية. أخرج أكثر من 40 فيلمًا سينمائيًا، وأظهر في أعماله هوسًا معينًا بتحريف الخطوط الكلاسيكية للسرد السينمائي نحو مسارات أكثر حدة وانكسارًا، وخصوصًا من الناحية البصرية.
تميزت سينما لولوش دائمًا بحركاتها الفكرية، التي كانت تتسم من وقت إلى آخر بقدر معين من النزعة العدائية، وإشاراتها إلى الأعمال العظيمة في الأدب والموسيقى العالمية، وطموحه لأن يصبح مؤرخًا للتاريخ الأوروبي طوال القرن العشرين. فيلماه «حياة» (1974، Toute une Vie) و«الكلّ والآخرون» (1981، Les Uns et les autres) هما مثالين واضحين على ذلك.
يخلط لولوش الواقع مع الخيال الرومانسي الذي ينبثق من معظم نصوصه وحيله البصرية والسردية. ذكريات الماضي لديه مورد جمالي وشعري يزيّن أعماله. كما يحتلّ العنصر الوثائقي مكانه في أعمال لولوش، كما هي الحال في مشاهد السباق بالأبيض والأسود في «رجل وامرأة»، أو بيئة عمال الموانئ في «Smic Smac Smoc» (1971). لكن فيلم لولوش الأكثر إثارة للجدل، وأكثر الأفلام الذي يفتخر فيها هو «كان لقاء» (1976)، وهو فيلم قصير لا تزيد مدته عن ثمان دقائق بقليل (متوافر على يوتيوب). صُوِّر في الساعات الأولى من أحد أيام أغسطس عام 1976. على غرار ألعاب فيديو سباق السيارات، ما تراه في الفيلم هو وجهة نظر سائق سيارة مسرعة جدًا في شوارع باريس. لقطة واحدة للسيارة من دون مؤثرات بصرية، وفي النهاية يحتضن السائق – لولوش نفسه- امرأة جميلة (عارضة الأزياء والممثلة السويدية جونيلا فريدن، والدة أكبر أطفال المخرج السبعة). لتصويره، تجاوز لولوش 18 إشارة حمراء، وبعد نهاية التصوير، تم إيقافه لبضع ساعات.
في أفلام لولوش، هناك السيارات، والسرعة، والمونتاج غير الخطي، وقيمة الصداقة والولاء، والفكاهة غير المتوقعة، والارتباط بلا صراع مع المأساة، والنقد الساخر، والحب المستحيل، واللصوص وقطاع الطرق، ورجال الشرطة الروتينيون والمرهقون، والرجولة السخيفة، والكوميديا الجسدية، وأولئك الذين ليس لديهم وقت سيء في الحياة ليس لأنهم غير مبالين، ولكن لأنهم أغبياء. إن توليف أفلامه يأخذ معنى يتجاوز اللغة إلى الكيمياء. يصل لولوش إلى العمق من مواد بسيطة، وبلقطة واحدة، يأخذنا إلى عالم من الذكريات والتناقضات.
يلتفت لولوش إلى سينماه، ويجد الجلالة في بساطة العاطفة التي تتجاوز الكلمات، واللاعقلانية، والأشكال واللانهائية لمأساة الحب. إنه يدفعنا نحو الماضي، بينما يصوّر، على نحو متناقض، نحو المستقبل. مع سينما لولوش، كل شيء يتغير، الأوقات تتغير والناس تتغير، والكاميرا، والتقنية، والأسلوب، وبناء الجملة تتغير، والعالم يتغير. ولكن الشيء الوحيد الذي لا يتغير ويمكننا الاعتماد عليه كعلامة للأمل هي همسة لولوش لنا: «الحبّ والسينما».
اقرأ أيضا: «غرفة الموسيقى»… سيمفونية سقوط