هل سألت نفسك مرة عن سر التباين الشديد بين حضور ثقافة المثلية الجنسية بالغ الاتساع في عالم الفنون، وحضورها المحدود جدًا في عالم الرياضة؟ منطقيًا، وبغض النظر عن موقفك من الميول الجنسية المغايرة، فهناك نسبة ما منها موجودة في كل المجتمعات البشرية على اختلافها، فلماذا نشاهد عشرات الأفلام والمسلسلات ونرى ممثلين ومغنين ومخرجين يتحدثون عن ميولهم الجنسية بانفتاح، بينما لا تكاد الذاكرة تستدعي عدد أصابع اليد من رياضيين أعلنوا ميولًا مغايرة؟ حتى داخل الدوريات الأوروبية التي صارت تحتفل رسميًا بشكل سنوي بالأعياد المخصصة لتلك القضايا؟
كلمة السر وراء الاختلاف هي المجتمع المغلق، غرفة الملابس كما يُفضل الرياضيون وصفها، المساحة المشتركة الإجبارية التي تمتلك قواعدًا خاصة. قواعد لم يتناولها فيلم بذكاء خلال الأعوام الأخيرة كما فعل الفيلم القصير «أحلى من الأرض» للمخرج شريف البنداري، والذي نال مؤخرًا جائزة التانيت الفضي لأيام قرطاج السينمائية.
وهم المساحة الآمنة
غرفة الملابس مساحة مشتركة ومغلقة معًا، يتقاسمها أعضاء الفريق الواحد بشكل إلزامي، سواء كانوا يحبون بعضهم البعض أو تستشري الكراهية بينهم، سواء كان فريقهم بطلًا متوجًا بالألقاب أو فاشلًا يخسر كل المباريات، فهم في النهاية مجبرين على البقاء في غرفة واحدة يخلعون فيها الأقنعة، يتعرون فيها أمام بعضهم البعض، حرفيًا ومجازيًا، يوبخهم المدرب ويشتبكون أحيانًا، لكن تبقى القاعدة الأساسية هي سرية ما يدور داخل الغرفة، فالفريق لا يجب أن تخرج أسراره للعلن، ينبغي أن يبقى أفراده كتلة واحدة متماسكة أمام العالم، حتى لو كانت الحقيقة معاكسة كليًا لذلك.
في سياق كهذا يبدو التعبير عن الاختلاف جريمة كبرى، ليس فقط لأنه يخرج عن حدود المجتمع/ القانون/ الدين، لكن بالأساس لأنه يدق مسمارًا في نعش الأمان المزعوم لتلك المساحة المشتركة. اللاعب المثلي لن تكون مشكلته أن يخرج من الخزانة ويصارح من حوله بميوله فحسب، بل ستكون الأزمة هي ما سيفرضه داخل غرفة الملابس من ارتباك يحرم الجميع من ممارسة حريتهم في مساحة يفترضون فيها الأمان، لن يخلع اللاعبون ملابسهم ويغتسلون أمام بعضهم البعض براحة إذا ما علموا أن أحدهم قد ينظر لأجسادهم برغبة بعيدة عن الزمالة، وهو ما يخلق مفارقة مؤلمة: نفس المساحة التي توفر أمانًا للبعض تصير جحيمًا دائمًا لآخرين.
أجواء مماثلة تمامًا – بل أكثر قسوة – تدور فيها أحداث الفيلم، داخل سكن جامعي للطالبات المغتربات، بكل ما يفرضه هذا الوصف تلقائيًا من أسباب للقهر والكبت. فإذا كان الرياضي عمومًا إنسانًا متحققًا إلى درجة ما، لديه دخل ثابت وحياة خارج الفريق ناهيك عن كونه ذكرًا في المثال الذي ضربناه، فأنت هنا أمام النموذج الكامل للهشاشة: فتيات تعانين مما تعاني منه المرأة في شوارعنا، مراهقات في السن الذي يتوقع الجميع خلاله وقوع الكوارث، مغتربات في العاصمة، بما يثيره ذلك من أسباب للوحدة والعوز النفسي، وما يلتحق به من كون أغلبهن ريفيات الجذور، جئن للمدينة محملات بخلفياتهن الثقافية وبعائلات تراقب رحلة الابنة التعليمية والقلق داخلها مما قد يحدث للبنت في العاصمة.
أضف إلى ذلك طبيعة المكان نفسه، فسكن المغتربات يقترن بداهةً بحسٍ حمائيٍ يُمارس على الفتيات. الأهالي لا يوافقن على التحاق بناتهم بالسكن لأنه المكان الأقرب أو الأرخص فقط، ولكن لأنه بالأساس المكان الذي ستتواجد فيه سلطات رقابية، مديرة ومشرفات دورهن طمأنة العائلات أن كل شيء يسير على ما يرام، وأن ابنتهن تنتزع العلم من فم وحش الغواية والفساد الذي يسكن أرجاء المدينة، وأي مخالفة لتلك التوقعات تُحمّل جميع الأطراف بالذنب لأسباب مختلفة: الإدارة لأنها لم تنجح في ممارسة دورها في حماية البنات، الأهل لأنهم تركوا ابنتهم فريسة للضياع، والفتاة لأنها أحبطت أهلها وخانت ثقتهم وطعنت سمعتهم.
قارن بين تلك الحالة المعقدة وبين الصورة الذهنية المعاكسة تمامًا للسكن الجامعي في الأفلام الأمريكية والأوروبية، كمساحة شابة ترتبط بالحرية واختبار الاستقلال وخوض التجارب الأولى، النفسية والعاطفية والجسدية، لتدرك مأساة أن تجد فتاة وسط كل هذه الظروف نفسه منجذبة رغمًا عنها لزميلتها بدلًا من زميلها، كحالة ساره، الشخصية المحورية في «أحلى من الأرض».
القتل بحسن نيّة
يقرر المخرج شريف البنداري ألا يجعلنا نرى ساره أبدًا، فقط نسمع عنها من كل من حولها، وعلى رأسهم رضوى، زميلتها في غرفة السكن (حجرة الملابس)، والتي كانت حياتها الجماعية تسير بشكل عادي حتى اكتشف أن رفيقة سكنها تنظر لها بطريقة مختلفة عن الطبيعي. اختيار تغييب الفتاة موضوع الدراما يخلق ترقبًا مستمرًا انتظارًا لما ستسفر عنه جهود البحث عنها، لكن الأهم إنه يجعلنا نشاهد بأعيننا العالم الذي تعيش فيه، وندرك مأساة أن تكون مثلها، عليك أن تتعامل مع كل هذا بينما تكتم ميولك داخلك خوفًا من كل شيء وكل شخص.
غير أن أفضل ما في الفيلم هو أنه يعرض البيئة الضاغطة والمعادية التي عاشت ساره داخلها، لكنه لا يلوم أبدًا أي من المحيطين بها. صحيح أن ردود أفعالهم هي ما دفعتها لما وصلت إليه، لكنهم ليسوا وحوشًا ترغب في تدمير حياة الفتاة الهشّة، بل في المقابل هن مجموعة من المساكين، فتيات ضعيفات مقهورات ومشرفة تحاول السيطرة عليهن بينما يحكم حياتها الذعر من أن يحدث أي شيء لأي فتاة فتصير هي المُدانة. جميع من نراهم على الشاشة ضحايا لهيكل اجتماعي وثقافي هائل يضغط على الجميع فيشوههم، وتزداد آثاره كلما كانت الشخصيات أكثر عرضة للضغط أو السياق مناسب أكثر له، ولا هدف مُعرّض لمضاعفة كل شيء من فتيات سكن المغتربات.
حتى رضوى التي تسببت بشكل مباشر في الواقعة التي جرت في الليلة السابقة لأحداث الفيلم وتسببت في اختفاء ساره الغامض من السكن، يقدمها الفيلم كفتاة مصرية عادية، تحمل كل ما تحمله أقرانها من تناقضات، فهي محجبة لكنها ترتدي ملابس لا تتفق نظريًا مع الاحتشام، لديها حبيب تُقبّله في سيارته لكنها تتعامل مع أي سيناريو مختلف للعلاقات بمحافظة وتوتر واضحين، وهي تحب ساره فعلًا وتعتبرها صديقتها، لكنها قادرة على إلحاق الأذى بها بدلًا من أن تسمع منها وتحاول أن تفهم لماذا تختلف صديقتها عن باقي البنات.
يأخذ الفيلم شخصياته بجدية شديدة مخلوطة بالتفهم، فلا يشيطنهم بأن يحولهم نماذجًا درامية هدفها تحريك الحبكة، لكنه يرفض أيضًا أن يرفع عنهم المسائلة أو يعاملهم كضحايا يحق لهم الإساءة للآخرين. «أحلى من الأرض» يتفهم أن فتيات السكن ومشرفاته وأهل سارة ضحايا ومذنبين معًا، يتصرفون على طبيعتهم ووفقًا لما شبّوا عليه من قواعد ونُظم دون رغبة في الإساءة لأحد، لكن نواياهم الحسنة لا تنفي كونهم تروسًا في الآلة الضخمة التي تدهس تحتها كل مخالف، مهما بدى ضعفه وألمه وانعدام خطره.
وفي الختام
أجلت حتى النهاية الإشارة لأن الفيلم مستوحى من المأساة الحقيقية لانتحار ساره حجازي، الفتاة الرقيقة التي كان كل ذنبها أن وُلدت مختلفة عمّن حولها، والتي كان شريف البنداري من الحصافة ألا يعتبر حكايتها مصدرًا يمكن استغلاله لصناعة فيلم ناجح، بل تعامل مع الحكاية المؤلمة بقدر كبير من الاحترام، آخذًا منها فقط الجوهر: ما يُمكن لفتاة مثلها أن تعانيه في تفاصيل حياتها اليومية، لينسج بصحبة مراد مصطفى الذي شاركه كتابة النص حكاية مستقلة ومؤثرة، ويقدمها على الشاشة بنضج وإحكام يليق بخبرته الطويلة، تاركًا مصدر الإلهام في الخلفية لمن يمكنه التعرف عليه. وسواء عرفت حكاية سارة حجازي أو لم تعرفها، فإن هناك الآلاف مثلها يعانون نفس ما عانته وأكثر، بسبب اختلاف اللون، أو العرق، أو الدين، أو الميول، في عالم لا تزال مساحات شاسعة منه تُدار بنفس عقلية غُرف الملابس الرياضية.
اقرأ أيضا: أفضل 20 فيلمًا عربيًا في 2024