فاصلة

مراجعات

«أحلام (جنس حب)».. لماذا صار فيلم مغمور الرابح الأكبر في برليناله 75؟

Reading Time: 5 minutes

تتغير مسيرة بعض صناع الأفلام المهنية بمجرد حصولهم على جائزة مهمة، فما بالك إذا حصد الفنان جائزتي الدب الذهبي والإتحاد الدولي للنقاد (فيبريسي) خلال يوم واحد؟ في الأغلب سيظل المخرج النرويجي داج يوهان هاوجيرود يتذكر طويلًا يوم السبت 22 فبراير 2025، الذي نال في بدايته بجائزة النقاد قبل يتوّج في المساء بأرفع جوائز برليناله 75.

وفقًا للتوقعات قبل انطلاق المهرجان، لم يكن فيلم «أحلام (جنس حب) Dreams (Sex Love)» بين الأعمال التي تحظى بترقب كبير، فلا يضم الفيلم نجومًا معروفة، ولا يناقش قضية سياسية راهنة، ولا يمتلك مخرجه الذي تجاوز الستين نجاحات دولية كبرى، فهو رجل مكتبات وروائي، صنع ثلاثة أفلام طويلة طوال مسيرته، قبل أن يُدشن في العام الماضي ثلاثية فيلمية أنجزها سريعًا، ليُعرض جزءها الأول «جنس Sex» في قسم البانوراما بمهرجان برلين 2024، ثم يشارك الجزء الثاني «حب Love» في مسابقة مهرجان فينيسيا، قبل أن يصل الجزء الثالث إلى مسابقة برلين.

كيف لفيلم لا يحمل أي من الأسباب المعتادة للجاذبية أن يوحد الآراء؟ فتختاره لجنتا التحكيم الأحسن في مسابقة ضمن 19 فيلمًا طويلًا منها الكثير من الأفلام المتميزة؟ ربما تكمن الإجابة في ثلاث كلمات: الإبداع، والروائية، والانتصار للموهبة.

المخرج النرويجي داج يوهان هاوجيرود
المخرج داج يوهان هاوجيرود – برلين (2025)

الإبداع.. من القراءة وإليها يعود

يبدأ «أحلام» بفتاة تكتب عن نفسها وعن القراءة. مراهقة نرويجية تعيش مع أمها تنقلب حياتها عندما تقرر في لحظة ملل أن تقرأ رواية قديمة، تقودها متعة القراءة إلى أن تبدأ في تسجيل يومياتها بنفسها، ويتغير كل شيء عندما تصل إلى مدرستها معلمة شابة، تحمل اسمًا مشابهًا لاسمها، لتجد يوهان نفسها تقع في حب مُعلمتها يوهانا، لتسجل وقائع هذا الحب في دفتر اليوميات الذي لم تكن تنوي أن تُطلع أي أحد عليها، لكن الأمر لا يسير بالطبع كما كانت تتصور.

من البداية تضح مركزية أفعال القراءة والكتابة في الفيلم. الحكاية تبدأ بقراءة دفعت للكتابة، ثم تتحرك عندما تقرأ الجدة الشاعرة النص وتبدي إعجابها به. ذلك الإعجاب الذي يخلق المفارقة التي تدور حولها الدراما: الفتاة المراهقة كتبت نصًا بديعًا أشبه بالرواية، جماله يجعل من المستحيل عمليًا التمييز بين الواقع والخيال فيه، فمن جهة يجب أن يكون الحدث مُقلقًا للجدة والأم التي تطلع على اليوميات لاحقًا، خاصة ما كتبته يوهانا عن تفاعل المعلمة معها، ومن جهة أخرى تعرفان -لا سيما الجدة- أن المكتوب قد يتضمن من الخيال الأدبي (وتصورات المراهقة) ما يحمله من وقائع صادقة.

يُمثل الإبداع إذن أول العناصر المُشكلة لفيلم «أحلام»، فالإبداع هو ما جعل فتاة لم تعتد القراءة تُدمن الكتابة، والإبداع هو ما جعل يومياتها تفتح نقاشًا أكبر من كونها اعترافات مراهقة بوقوعها في الحب، والإبداع هو ما يجعل جدتها وأمها تنظران للوضع من زاوية أخرى، فتحاولان فهم ما جرى، تحديد قدر الحقيقة فيه، والتفاعل مع يوهانا ونصّها اللذين صارا منفصلين؛ فهي مراهقة يجب التعامل بحرص مع مشاعرها، بينما هذا نص قوي يُمكن أن يُنشر للعامة. كأنه تعبير درامي مثالي عن مفهوم موت المؤلف، أو لنقل انفصاله عن إبداعه، طالما امتلك الإبداع ما يكفي من القوة كي يسير وحيدًا.

Dreams (Sex Love)
Dreams (Sex Love) (2025)

الروائية.. أعمق من مجرد شخصيات فيلمية

«أحلام» فيلم نسائي بامتياز، لا يكاد يظهر فيه أي رجل حتى الدقائق الأخيرة. تعتمد الدراما فيه بالأساس على التفاعل بين ثلاث إناث تمثلن ثلاثة أجيال داخل العائلة، تُضاف إليهن المعلمة عندما تُقابلها الأم لتروي وجهة نظرها من الحكاية. المدهش في النص الذي كتبه المخرج داج يوهان هاوجيرود بنفسه ليس فقط قدرته على تقديم وجهات نظر متباينة لأربع نساء مختلفات، ولكن لقدرته على الإمساك بالتقلبات التي تحدث داخل نفس كل شخصية على حدة.

وإذا كان من المنطقي أن يعرض الفيلم الضبابية التي تسيطر على مشاعر يوهان بحكم كونها تختبر مشاعر الحب للمرة الأولى في حياتها، مختلطًا بهوسها تجاه معلمتها الشابة الفاتنة، فإن قدرات المخرج الروائية تظهر أكثر في رسمه لشخصيتي الجدة والمعلمة، بالتجليات المختلفة لكل شخصية وفقًا للحظة الدرامية.

الجدة كارين شاعرة مبدعة وأم متفتحة، تتفهم حفيدتها، بل تغبطها على قدرتها على الاستمتاع بتلك المشاعر البكر التي فقدت مذاقها بمرور الأعوام، تعرف قيمة النص الذي كتبته يوهان وتدافع عنه، وتكون حلقة الوصل التي تقرب المسافة بين الفتاة وأمها، فلولا وجودها ربما كان رد فعل الأم ليختلف. لكن ولأنها في النهاية فنانة تحمل غيرة المبدعين، لا تستطيع أن تمنع نفسها من الغيرة عندما تجد ناشرتها معجبة بالنص وراغبة في نشره، فتكاد تُخفي المعلومة عن يوهان. هذه التفصيلة البسيطة، خفيفة الظل، تكشف عن قيمة الخلفية الروائية للمخرج التي تجعله قادرًا على التعبير عن التناقضات التي تحملها نفوس البشر، خاصة المبدعين منهم.

هذا التفهم هو سبب الامتياز الثاني للفيلم. الروائية تجعلنا نشعر بجذور الشخصيات الضاربة في الواقع، فهم ليسوا مجرد أدوات تلعب دورها داخل السيناريو وإنما بشر من لحم ودم لهم حضور في الحياة، تُثبته السمة الأبرز داخل نفس أي بشري عاقل: التناقض.

Dreams (Sex Love) (2025)
Dreams (Sex Love) (2025)

الانتصار للموهبة.. ولرواية الحب

أما لو انتقلنا إلى المعلمة يوهانا، فسنجد أن الفيلم يمارس معها لعبتين دراميتين. الأولى لعبة وجهات النظر، فنحن نتابعها خلال الفصلين الأول والثاني من خلال العينين المشوشتين بالحب والإبداع ليوهان، لنراها امرأة جذابة لكنها متساهلة مع انجذاب تلميذة لها، بكل ما في ذلك التساهل من تساؤلات أخلاقية بالنسبة لشخص بالغ في موقع سلطة. يستمر الأمر حتى نراها في الفصل الثالث لنرى القصة من الزاوية الأخرى التي نعرف من خلالها أن أغلب ما تضمنته رواية الطالبة كانت تفسيراتها الرومانسية لوقائع عادية.

لكن حتى هذه الزاوية لا يقطع هاوجيرود أبدًا بصحتها، اعتمادًا على اللعبة الدرامية الثانية وهي توازنات القوى. تبدأ يوهانا اجتماعها مع والدة طالبتها وهي مرتبكة، خائفة من قيام الأسرة بالإبلاغ عنها اعتمادًا على النص المكتوب، بما يعنيه هذا لوظيفتها وسمعتها، وبالتالي تبدو روايتها مزيجًا بين النفي والاعتذار، تنفي القيام بأي تصرف مخالف للقواعد وتعتذر عن أي فهم خاطئ وصل الفتاة عنها. لكن بمجرد أن تدرك المعلمة أن أسرة يوهان لا ترغب في التحرك قانونيًا، ينقلب موقفها في اللقاء نفسه، لتقدم نسخة ثالثة من الحكاية، تظهر فيها الطالبة كمراهقة متطفلة تحاول فرض نفسها على حياة المعلمة. في المشهد نفسه نشاهد نسختين من العلاقة، كلتيهما مختلفة عن نسخة البطلة.

أي النسخ الثلاثة هي الصحيحة؟ لن نعرف أبدًا، وإن كنا نميل لتصديق الطالبة. ليس فقط لأنها الرواية التي نتابعها من بداية الفيلم ونتوحد معها، ولكن لإدراكنا التدريجي إنه إذا ما تعددت الروايات وتفتت مفهوم الحقيقة، فالنسخة المروية من أرضية الحب ستظل دومًا أصدق من تلك المدفوعة بالخوف أو الكبرياء، حتى لو كان أغلبها خيال جامح لكاتبة مراهقة موهوبة.

Dreams (Sex Love) (2025)
Dreams (Sex Love) (2025)

وفي النهاية

«أحلام (جنس حب)» فيلم صغير وكبير معًا. صغير إذا ما نظرت لحجمه الإنتاج ومعادلة صناعته، كان يُمكن -قبل الدب الذهبي بطبيعة الحال- أن يعبر أمامك في قائمة أفلام أي مهرجان دون أن تنتبه له أو تتحمس لمشاهدته، بل يُمكن أن تشاهده بلا تركيز فتراه يطرح مشكلة عاطفية تنتمي لأزمات العالم الأول. لكنه في الوقت نفسه فيلم كبير لمن يشاهده بتركيز، ويقرأ بين السطور، ويلمس كيف يمكن لقصة بهذه البساطة أن تحمل كل هذا الزخم الإنساني، فكريًا وعاطفيًا.

اقرأ أيضا: ملف شامل لكل تفاصيل مهرجان برلين السينمائي 75

شارك هذا المنشور