«ومن عجب أنه لديك حدس ما أريد قوله. فقد قلت لي مثلًا قبل فترة غير بعيدة: «لقد أحببتك دائمًا، ولو لم أكن معك في الظاهر كما اعتاد الآباء الآخرون أن يكونوا مع أبنائهم، وذلك بالذات لأنني لا أستطيع أن أتظاهر مثل الآخرين». إنني، أيها الوالد، لم أشكّ مرة بطيبتك تجاهي، لكن هذه الملاحظة أعتبرها غير صحيحة. لا تستطيع أن تتظاهر، هذا صحيح، لكن الادعاء القائم على هذا السبب وحده، بأن الآباء الآخرين إما يتظاهرون، أو إما أن يكونوا مجرد مكابرة لا حاجة لمناقشتها، أو أن يكون ــ وهذ هي حقيقة الأمر كما أرى؛ تعبيرًا خفيًا عن أن شيئًا ما بيننا ليس على ما يرام».
هكذا يكتب فرانز كافكا في الصفحات الأولى من رسالته الشهيرة إلى والده. فقرة أدبية يمكن إحالتها صوب منتجات إبداعية أخرى تتمحور حول المُكاشفة وتشريح العلاقة بين الآباء والأبناء بأشكالها وأنماطها المختلفة، خاصة إذا كان أحد طرفي العلاقة فنان، ليبدأ ممارسة صنعته الإبداعية في محاولة حقيقية لاستجواب الماضي، والإجابة عن أسئلة تتعلق بالهويّة وتأثير نمط حياة الآباء على تشكيل شخصية وأسئلة الأبناء، كما في فيلم «أبو زعبل 89» الذي فاز بجائزة افضل فيلم وثائقي ضمن جوائز أخرى في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في ختام دورته الخامسة والأربعين التي اختتمت في القاهرة مساء أمس الجمعة.
ينطلق فيلم المخرج المصري بسام مرتضى من وقائع وصور سياسية حقيقة نحو ما هو ذاتي وخاص، أي أنه يتحرك من العام إلى الخاص، ومن الجماعي إلى الفردي، وهو ما يمنح الفيلم طبيعة متفردة، لأنه فيما يبدو متجاوز للذات ولكنه يخلق إيقاع متداول بين لقطات شديدة الخصوصية وأخرى يمكن أن تعزز فكرة استيعاب الحقبة التي يتناولها، فهو يتناوب بين إعادة خلق لقطات جوهرية في حياة بسام نفسه، المُخرج والابن، وأخرى تخرج عن الإطار الذاتي في لاستعادة حدث ضروري لإدراك ورصد الحقبة السياسية التي يتناولها المخرج في نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات، وإلى أي مدى أثرت تلك الحقبة على الفضاء العام المصري إلى اليوم. بيد أن الفيلم كله يمكن تأطيره في نطاق الذاتي، فهو يحاول تقليص المسافة بين الأب والابن، ليس من منظور الطبائع الأسريّة المقدسة، إنما بمنهجية تعرية الذات والمواجهة واستجواب الماضي في لحظة مهمة في حياة كليهما.
يحمل اسم فيلم «أبو زعبل 89» ثلاثة أشياء تعريفية مهمة، أولًا رصد للسياق المكاني، «أبو زعبل» الذي ينطوي على طبيعة غامضة بالنسبة لبعض المشاهدين الذين لا يهتمون بالحركة السياسية أو لا يعرفون الكثير عن مصر، بالإضافة أن ما يحدث داخل أبو زعبل مجرد أقاويل وأساطير ليست مرصودة داخل الحيز البصري، حتى لو على مستوى مجازي؛ وهو ما حاول مدير التصوير بكاميراته الخام 35مم تحقيقه بنمط بصري يستعيد زمن مضى، غير قابل للمس، ولكن صالح للاستحضار كصورة. الشيء الثاني هو العامل الزمني الذي يتحرك منه الفيلم، سنة (الحبسة) كما يُسمّيها أبطال الفيلم بسام ووالده محمود وأمه الفاتنة فردوس. إذا فالنقطة الزمانية هي نُقطة الاستهلال الذي نضبط عنده ساعتنا السينمائية، والذي نراكم بعده الوقائع والأحداث، سنة 89 هي سنة ميلاد سينمائية للمخرج بسّام، الذي كان صبيًا لا يزال في مرحلة الطفولة، أصرت أمه أن يذهب إلى المدرسة صباح يوم اعتقال والده من المنزل، لينتظر حوالي 35 سنة ليستطيع تفكيك تلك اللحظة ومواجهتها، لا بعقلية الطفولة الساذجة، إنما بعقلية البالغين المؤرقة في البحث عن الذات في السؤال. إجراءات تنفيذه، العنف المحدود داخله والعاطفة المراكمة فوقه، والنظرة الأنثوية التي تستحضر الذكريات بطريقة نافذة والطفولية التي لا تفهم الحدث.
يتعاطى فيلم أبو زعبل مع سردية متعددة الطبقات والمستويات، فهو لا يتعلق فقط بالنمط الاستعادي، إنما يدمجه بالواقع الجمعي في ذلك الوقت ليؤطر لحظة الآن، لحظة التطهير المفعمة بالمجاز؛ فالفيلم لا يقدم إجابات شافية للجمهور عن بسّام ووالده محمود وأمه فردوس، ولكنه يمنحنا فرصة التلصص على هذا العالم والتعرف عليه، ويمنحهم ــ بشكل موازي ــ فرصة للتشافي.
فالفيلم رغم محاولاته الاشتباك مع المكان في شكله المادي من خلال إعادة خلق جدرانه، والزمان بسيولته، إلا أنه يتعاطى في متنه مع الرمز. فالسجن ليس جُدرانا حقيقية الآن، ليس موجودًا بوصفه محبس بالنسبة للأب، فهو يجلس بجانب ابنه يتحدثان ويتسامران، بيد أنه لا يزال يجسد الحاجز النفسي في التواصل بين أفراد العائلة، قيد يختبر ويؤثر على ترابطها. إلى جانب ذلك، فلم يتبق من الزمن سوى الذكريات. بيد أن الاغتراب والارتباك والاضطراب الهويّاتي الذي شعره الابن لا يمكن محوه إلا بالمواجهة، فالهوية تتشكل عن طريق الآخر ــ الغائب ــ هُنا.ومنها، فالذات نفسها في موضع شك. ليست الذات الفردية فقط، بل الجمعية أيضا، فواقعة 89 خلّفت وراءها نظرت شك وارتباك لكل شيء، الأب الذي سافر خارج البلاد، والابن الذي يكبر في كنف أمه ولا يرى أمام عينيه إلا كلمة «لماذا؟»، كل شيء أصبح موضع شك، العلاقات الداخلية، وحتى نظرة المرء تجاه نفسه وتجاه العالم من حوله. ذلك الارتياب الذي انتجته الواقعة اتجاه العمل اليساري، كأن كل العمر السابق كان حصيلة نوبة جنون، وتتراكم الأسئلة؛ هل عملي العام والسياسي يؤثر على عائلتي؟ ما جدوى ذلك العمل؟ وإلى أي مدى يمكن للأبناء أن يغفروا للآباء؟
طعّم بسّام فيلمه بعدة أشكال وأنماط إبداعية، فحضور سيد رجب أضاف طبقة استعادية مختلفة، لأنه يستحضر اللحظة بشكل مختلف عن الأشخاص الأخرى، يستحضرها داخل إطار إبداعي، ما ساهم في إثراء السردية أكثر على المستوى الإبداعي، فالمونودراما الذي جسدها سيد رجب بحساسية ورقة مفعمة بالقسوة والعنف؛ ورّطت المشاهد أكثر في الحدث، وقلّصت المسافة بين الأبطال والمتفرج، فلا يمكن جذب المتابع بشيء أكثر من الإغراء الإبداعي.
إنما الشيء الذي ساهم في رفع هذا الفيلم إلى حيز أبداعي مختلف، هو إعادة خلق المشاهد بالخام، هُناك شيء ساحر في تكوين الصورة بالخام، نفذه ماجد نادر مدير التصوير أكثر ببراعة، عندما وقعت عيني على المشهد الأول الذي يقف فيها بسّام أمام جدار معروض عليه لقطات تستعيد وقائع «حبسة 89» وما تلاها، تذكرت مشهد الطفل وهو يلمس شاشة عرض أو جدار معروض عليه لقطات لأبطال الفيلم، فالنمط البصري كثّف الحدث ومنحه المرونة الكافية ليتحول إلى لحظات شاعرية: الأسماك على الأرض، الأم وهي تصحب ابنها في أول زيارة للسجن، وبسام يقف بظهره أمام مبنى السجن، كلها لقطات تجسد لحظات مفعمة بالقسوة ولكنها أكثر جمالا ومرونة لتأخذ أكثر من شكل في رأس كل واحد منا، ولكنها كلها لقطات تحمل داخلها حساسية مفرطة اتجاه الحدث، أو كما قال أحد أبطال الفيلم حول الزيارة الأولى في السجن والاسماك البلطي: «لم أكن أحب السمك وقتها، ولكني أكلت السمكة بنهم شديد، كانت أجمل طعام آكله في حياتي».
اقرأ أيضا: «دخل الربيع يضحك»… استعادة ناجحة للواقعية المصرية