فاصلة

مراجعات

«آيس كريم في جليم»… ما هو أكبر من النوستالجيا

Reading Time: 5 minutes

دعك من الأغنيات المشهورة التي صارت من الكلاسيكيات، “رصيف نمرة خمسة” التي لا يضيع عمرو دياب فرصة للتأكيد على أنه لم يفهم كلمة منها حتى يومنا هذا، أو “آيس كريم في جليم” التي لا تزال تتردد في ذهن كل من شاهد الإعلان التلفزيوني لفيلم المخرج خيري بشارة. اترك كل هذا وشاهد عمرو دياب وأصدقاءه وهم يغنون “دانة دانة” في شوارع المعادي، يصفّرون اللحن ويرقصون، وحولهم شباب يتزلجون، لتعرف -أو على الأقل تكوّن فكرة- عن سر المكانة الخاصة الذي يملكها هذا الفيلم داخل قلوب وعقول كل من عاصروه.

أتعمد هنا أن أقول عاصروه، وليس شاهدوه وقت عرضه أو غيرها من المصطلحات، لأن “آيس كريم في جليم” ينتمي إلى نوعية فريدة من الأفلام التي تتمكن بطريقة سحرية من تجاوز قيمتها الفنية المجردة، المرتفعة في حالتنا، وتُمسك بروح عصرها، فتصير مُحملة بحمولة ثقافية وشعورية، بل أتجاوز وأقول أنثروبولوجية، تجعل من الفيلم أيقونة حقيقية، بكل ما تحمله الكلمة من معان يتجسد فيها الكثير من الأفكار والمشاعر والرؤى في عمل فني بسيط، لوحة أو تمثال، أو فيلم في حالتنا.

حسنًا، لا يمكن وصف “آيس كريم في جليم” بأريحية بأنه فيلم بسيط. قد يكون كذلك على مستوى الحكاية التي يمكن تلخيصها ككثير من الأفلام الغنائية المصرية في رحلة شاب موهوب يحاول إيجاد فرصة للنجاح والحب، لكنه بالتأكيد ليس بسيطًا إذا ما نظرنا لقدر الجهد المبذول في تصميم كافة عناصره: شكل السرد والخصوصية البصرية وروح المكان والزمان، وتداخل الأغنيات مع البناء الدرامي بصورة تجعل الفيلم نفسه يُحكى بمنطق أقرب لمنطق الأغنيات، بما فيها من شغف ونزق وتطرف في التعبير عن مشاعر كالحب، والحزن، والإحباط، والنجاح.

عمرو دياب وعبد الحليم حافظ

فيلم خيري بشارة لم يكن بسيطًا، لكنه بالتأكيد لم يسع أو يخطط لامتلاك هذه الحمولة المُعبرة عن روح الثقافة الشعبية في مطلع تسعينيات القرن الماضي. بشارة أراد في الأغلب أن يصنع فيلمًا معاصرًا، يخاطب شباب المرحلة باستخدام نجمهم المفضل، اعتمادًا على حكاية لو حللناها لعناصرها الأولية سنجدها تقترب كثيرًا مع أفلام عبد الحليم حافظ القديمة. 

غير أن زمن عبد الحليم يختلف عن زمن عمرو دياب؛ وإذا كان النجاح الأكمل في أغلب أفلام العندليب تمثَّل في تمكن المُطرب في النهاية من الغناء في دار الأوبرا الخديوية، أو مسرح عريق مشابه لتأكيد نجاح موهبته في الظهور، مرتديًا بدلة أنيقة، تزامنًا مع توفيقه في الحب وبلوغ النهاية السعيدة مع فتاته، فإن النجاح المُناظر لذلك في “آيس كريم في جليم” يكاد يتمثل في العكس. 

سيف يغني حافيًا على رمال شاطئ الإسكندرية أمام جمهور راقص، يبدأ حفله بإعلان التمرد على المنظمين وإنهاء التظاهر بالإعاقة، من دون أي ضمانة حقيقية لأن هذه اللحظة من النشوة ستسفر عن مسيرة فنية ناجحة، بل على العكس قد تقضي على فرصه وزملائه في تحقيق أي مكسب مادي من فنهم. وفي الوقت نفسه يعلن تدشين حب متوتر أشبه بعلاقات المراهقين مع فتاة كنا حتى لحظات غير متأكدين إن كانت تحب سيف أم صديقه المقرب. الصديق الذي تجمعه هو الآخر بسيف علاقة خاصة، فيها المحبة والشجار والإهانة والقطيعة والشراكة الفنية، بين شاعر يساري وموهوب متمرد لا يكترث للأفكار التي تحملها كلمات صديقه.

حياة سيف وجيله

إذا ما حاولنا تحييد النشوة التي تحققها تتابعات الختام وصوت عمرو دياب وهو يؤكد أن “الناس حاسين بالبرد… وفي قلبنا شم نسيم”، فسنجد أن سيف يعيش موقف معقد بحق، سواء في الفن أو الحب والصداقة، يخوض في كل منها لحظة إنسانية معقدة، لديه فيها الكثير ليكسبه والأكثر ليخسره، لكنه بشكل ما، تمكن من التصالح مع هذا التعقد لحظيًا ليستمتع بالغناء واستجابة الجمهور على شاطئ ستانلي. السعادة التي يُحدثها انتصار منقوص على هذه الشاكلة، لن تكون ذات قيمة إلا إذا نجح الفيلم ببراعة في أخذنا إلى داخل سيف وعالمه، وقد كان.

سيف الذي يعيش في غرفة خشبية في جراج في المعادي، لا يغير الجاكيت الجلدي، ويتحرك بدراجته النارية ليوزع الشرائط على نوادي الفيديو، وسيم تلاطفه الفتيات ويلاطفهم، لكنه مخلص لحبيبة متشككة تقرر أن تتركه عن أول فرصة للصعود، بينما يحاول هو التعامل مع الأوضاع الراهنة، فيربح بعض المال ويتفادى مشكلات، ويفتش عن مستقبل أفضل مع زملائه الموهوبين الذين يجتمعون في غرفته للغناء والنقاش، معبرين عن جيل يحلم بالطيران، لكنه غير متأكد إن كان ذلك خيارًا متاحًا في الوطن، أم أن الرحيل هو السبيل الوحيد لبلوغه.

آيس كريم في جليم

هذا ما يجعل سيف ورفاقه تعبيرًا مثاليًا عن نبض الشباب في مطلع التسعينيات، عصر ما بعد انهيار الأحلام القومية الكبرى، وتجاوز الحروب بنكساتها وانتصاراتها، وعبور مرحلة الانفتاح الاقتصادي وتبعاتها، ليعيش شباب 1990 لحظة استثنائية من البين-بين، سقف طموحهم السماء، والحياة الأمريكية مصدر إلهامهم في عالم كان لا يزال أكثر ترحيبًا ببني جلدتنا من العرب. ناهيك عن اللحظة التاريخية العالمية، فليس موت الموسيقار الشيوعي زرياب الدرامي بمعزل عن انهيار الاتحاد السوفيتي وسقوط جدار برلين قبل أشهر من صنع الفيلم.

تلك الأحلام والرغبة في احتضان الحياة تقابلها من الجهة الأخرى حقائق العصر: الزحام والتخبط، هيمنة السماسرة، انعدام اليقين، وغياب المعنى بشكل عام، حالة من القتال الداخلي يعيشها سيف وكل من حوله باختلاف مشاربهم، وتعبر عنها كلمات وموسيقى “رصيف نمرة خمسة” ببلاغة مذهلة. 

آيس كريم في جليم

“رصيف نمرة خمسة” ومسيرة صاحبها

تكمن المفارقة في أن سخرية عمرو دياب المتكررة حتى اليوم من كلمات أغنية “رصيف نمرة خمسة”، تحمل في باطنها تأكيدًا على الحالة التي أمسك بها الفيلم، فسيف بما يملكه من موهبة وتمرد وروح شابة وفهم محدود للسياسة وتركيب المجتمع، هو بشكل ما صورة درامية لدياب نفسه، تُجسد أعذب وأردأ ما فيه كفنان وظاهرة فنية وثقافية.

فما سيف إلا صورة مبكرة جدًا لمسيرة عمرو: الشاب الموهوب صاحب الكاريزما الذي يسعى للنجاح والتأثير في جيله وأجيال تليه، لكنه لا يريد أن يقترن ذلك بأي محاكاة لفنون أخرى، سواء كانت الأغنية التقليدية الطويلة أو الأغنية البديلة ذات الطابع السياسي الاجتماعي. وكما حوّل سيف بيته المتواضع إلى غرفة أمريكية، وكما يسير في شوارع العاصمة منعزلًا عنها بصوت إلفيس بريسلي داخل سماعات أذنيه، نسج عمرو دياب مسيرة مماثلة حافلة بالأغنيات هائلة النجاح، ممتازة الصنع، والمنعزلة تمامًا عن واقعها، ورافضة عمدًا الاشتباك أو حتى التفاعل مع أي شيء بخلاف رغبة صاحبها في الاستمتاع وإمتاع من يحبونه، ومجددًا: “الناس حاسين بالبرد، وفي قلبنا شم نسيم”.

ليست مجرد ذكريات

لكن معجزة “آيس كريم في جليم” ليست قدرته على استقراء مسيرة بطله، ولكن في النفاذ المبكر لحقيقة كون هذه المسيرة مُعبرة بامتياز عن جيل بأكمله، تدعمها قدرة الفيلم المدهشة في عدم الاكتفاء بالتعبير عن الجوهر، بل والإمساك باللحظة البصرية كذلك. شكل الشوارع والسيارات وملابس الأبطال وطرق تصفيف شعرهم، وحتى المزيج اللوني الذي اختاره خيري بشارة والمصور طارق التلمساني للفيلم، كلها أمور تحمل مشاهدي الفيلم في رحلة عابرة للزمن، لتلقي بهم في شوارع المعادي ووسط البلد مطلع التسعينيات، مشعلة نيران النوستالجيا داخل القلوب.

آيس كريم في جليم

لاحظ هنا أننا نتجاوز لو افترضنا أن صورة الفيلم تعبر بدقة عن واقع الحياة في قاهرة ذلك الوقت، لأنها في النهاية صورة فيلمية لعمل غنائي من بطولة نجم شهير، عمل طبيعته بعيدة عن الواقعية بمعناها الكلاسيكي، لا تهدف لاقتناص الصورة الحقيقية، بل تحاول النفاذ لروحها. صورة مصقولة تعرضت لكثير من الرتوش، لكنها رتوش لا تُثَبّت الواقع، بل تعيد خلقه في صورة أيقونة للثقافة الشعبية pop culture.

لذلك يظل “آيس كريم في جليم”، بالتنوع المدهش في محتواه الغنائي والشعري، وصوّره التي تحملنا شعوريًا وبصريًا لنقطة من ماضينا الشخصي والجمعي، ورحلة بطله الأقرب لأسطورة خاضعة لمعايير الزمان والمكان، عملًا سينمائيا متفردًا، تمتزج فيه الموسيقى بالدراما بالتاريخ الاجتماعي والثقافة الشعبية، خالقةً عملًا يصعب نسيانه أو عدم التأثر به، لاسيما إن كنت تنتمي لهذا الجيل.

اقرأ أيضا: مريم جعبر مخرجة «ماء العين»: لا يمكن وصم ثقافة بعينها بالقدرة على ارتكاب الشر

شارك هذا المنشور