فاصلة

مراجعات

«آخر يوم».. هكذا يمكن أن تحكي فيلمًا دون حكاية

Reading Time: 4 minutes

أربع دقائق فقط هي مدة الفيلم المصري القصير «آخر يوم» من كتابة وتصوير ومونتاج وإنتاج وإخراج محمد إبراهيم – الدارس بالمعهد العالي للسينما بالإسكندرية – والذي يشارك هذا العام في قسم «Form Expanded»، المعني بالتجارب المختلفة وغير التقليدية خلال فعاليات الدورة الماسية لمهرجان برلين (13-23 فبراير).

أربع دقائق زاخرة ومشحونة ومكثفة، رغم خلوها من الدراما التقليدية أو أشكال الحبكة الواضحة. فعادةً ما يبحث المتلقي عن الحكاية فيما يُقدَّم، سواء كان روائيًا أو تسجيليًا أو حتى عابرًا للأنواع. تشغل الحكاية المتلقي عمَّا وراء الحكاية نفسها، رغم أن الحكاية وسيلة لطرح فرضية أو فكرة أو شعور أو هاجس أو سؤال. ومن هنا تأتي محاولات بعض صناع الأفلام تمرير رؤيتهم أو أفكارهم – أي ما وراء الحكاية – دون اللجوء إلى الحكاية، رغم غوايتها المستحقة وبراحها القادر على العرض والتأويل. الحكاية جسر وليست هدفًا، يمكن الاستغناء عنها أو الاكتفاء بعناصر منها دون كامل حضورها المبهج والمنتظر.

يبدأ «آخر يوم» بلوحة سوداء مكتوب عليها عنصران أساسيان من عناصر الحكايات: (كفر الدوار 2023)؛ المكان والزمان. لا حكاية بدون مكان، حتى لو كان متخيلًا! ولا سردية بدون زمن، لأن السرد هو حركة الفعل في الوقت، أيًّا كان اتجاهه أو نوعه: ماضٍ، حاضر، مستقبل، أو حتى زمن اعتباري كالأحلام والهواجس.

آخر يوم
فيلم آخر يوم (2024)

لقطة علوية بعيدة لسطح منزل عليه مقعد خشبي شاغر، كأن أحدهم كان هنا ونهض. المقعد الشاغر فوق سطح البناية يمنحنا شعورًا بالمضي، بالرحيل، فشخص ما لا شك أحضر هذا المقعد إلى هنا وجلس عليه، ربما ليتأمل السماء أو المدينة ثم نهض وتركه وحيدًا!

ترسِّخ لدينا هذه اللقطة، التي لا تستمر سوى ثوانٍ، شعورًا بالشجن، يبدأ في التراكم تدريجيًا عندما نتابع عملية (عزال) يقوم بها شابان من خلال حركة مستمرة قائمة على نقل الأثاث المكدس من شقة تبدو كأنها شقة عائلية، ومن ثم إخراجه من الحيز الحميمي إلى الخارج الذي لا نراه.

ننتقل هنا إذن من فضاء عام إلى حيز خاص، من كفر الدوار – عاصمة محافظة البحيرة في مصر – إلى شقة ما بالمدينة، لا نعرف عنها معلومات كثيرة ولا يهمنا ذلك، فهو مكان يتم إخلاؤه بالكامل، نظرًا لطبيعة الشكل المكدس عليه الأثاث. أما الزمن، فليس عام 2023 فقط، ولكنه الماضي الكامل والخاص بهذه الأسرة – التي ربما تكون أسرة الشابين – فهما يتعاملان مع الأثاث باحترام وعناية. الأثاث هنا هو مستوى آخر من مستويات الزمن، فمستوى الأثاث وطبيعته يشرحان الكثير عن ماضي الأشخاص الذين عاشوا في المكان. الأثاث هو حكي ساكن لا يجوز تجاهله، والمجاز الذي يمثله واضح، فهذان الشابان يقومان بتفكيك الماضي ونقله استعدادًا لمغادرة المكان.

إلى هنا، ربما تكون اللحظة مفعمة بالشجن نظرًا لما يمثله العزال من حالة نوستالجيا تخص الذكريات المُعاشة في المكان وأرواح ساكنيه – أو مغادريه – ولكن يأتي شريط الصوت الخاص بالفيلم ليلقي ظلالًا أكثر قتامة من مجرد شجن المغادرة.

آخر يوم
فيلم آخر يوم (2024)

يطرح شريط الصوت جدلية ملفتة:

«هل هذه المغادرة قسرية أم طواعية؟»

ينقل لنا شريط الصوت، منذ اللقطات الأولى، حالة توتر مكتومة من خلال صوت مذيعة الأخبار، التي تتحدث عن تفاهمات ما بين الحكومة وأهالي أحد شوارع القاهرة الذي تتم توسعته على حساب البنايات الكائنة فيه، وكيف أن بعض الأهالي سوف يتقاضون أموالًا مقابل شققهم، والبعض الآخر سوف يحصل على سكن بديل!

تبدأ هنا ظلال الشك تلوح بين تفاصيل عملية النقل الدؤوبة التي يمارسها الشابان، والتي يتم تصويرها عبر زوايا حرة، وحركة كاميرا مستمرة – على ما يبدو أنها كاميرا موبايل – بشكل يبدو ارتجاليًا أو أقرب إلى حركة كاميرا الأخبار الشهيرة، والتي لا تلتزم بسياقات بصرية منمقة أو كادرات مرسومة بتكوين جمالي ودقيق.

يلعب الصوت كأداة سردية تعكس فهمًا عميقًا لطبيعته الأصلية، فألوان الصوت هي أحد أهم أدوات الصورة السينمائية في مفهومها الأشمل، وإمكانياتها السردية والإيهامية لا تقل قوة وأصالة عن إمكانيات اللقطات المصورة. واختصار الصوت في الحوار أو الموسيقى هو من أخطاء صناعة الأفلام أو تلقيها دون وعي بقدراته الخارقة. يقول المخرج الفرنسي روبير بريسون:
«إن العين محدودة، والأذن أعمق منها بكثير. فحين ترى قطارًا، فأنت ترى قطارًا فقط، ولكن صفير قاطرة واحدة في الأذن يستدعي إلى الذهن محطات بأكملها.»

ويبدو أن المخرج الشاب يدرك عمق المجال الذي يخلقه الصوت، مقترنًا بصورة ناقلة ومجازية في نفس الوقت، فصوت مذيعة الأخبار ينتقل من الحديث عن الأهالي المطرودين من بيوتهم لحساب توسعة الشارع، إلى مراسل الإذاعة في القدس، الذي يتحدث عن تهجير ما يزيد عن 1100 فلسطيني من شارع في أحد الأحياء القديمة بالمدينة المحتلة!

فيلم آخر يوم (2024)
فيلم آخر يوم (2024)

هل هناك توازٍ؟

أجل! فلا يوجد انتقال عشوائي في مثل هذه السياقات.

هل هناك شيء ما مقصود؟

بالطبع.

المجاز واضح، خصوصًا عندما يجلس الشابان ليستريحا قليلًا، محدقين في العالم الخارجي، الذي يبدو أن معاناتهما لا تعنيه! أو ربما العكس؛ فما يشعران أنهما يعانيانه في تلك اللحظة، ثمة من يعانيه مثلهما من قوات “احتلال” المدينة المقدسة.

ولا يتوقف توظيف شريط الصوت عند نقطة التقابل أو التوازي، بل يستخدم المخرج مؤثرًا صوتيًا لصفير مقلق وقاسٍ يسيطر على المشهد، كأن ثمة صداعًا رهيبًا يحيط بكل هذا ويؤطره، ويبدو وكأنه لن ينتهي!

هذا الصفير يذيب الخبرين في بعضهما، ويدمجهما في لقطات العزال المستمر، ويتحول إلى جسر مونتاجي جيد حين تنتقل الصورة إلى بناية يحيطها أناس كثيرون، ثم فجأة يتم تفجيرها لتنهار دفعة واحدة، فلا نعود نعرف أين تقع هذه البناية! في القدس أم كفر الدوار!

فيلم آخر يوم (2024)
فيلم آخر يوم (2024)

هكذا يرسم الفيلم، بمكر إبداعي واضح، توازيًا بين ما يحدث في مكانين مختلفين وسياقين مختلفين، لكن النتيجة واحدة! هناك «يوم أخير» تعيشه البنايات التي تحمل زمنًا وذكريات ومتعلقات روحية وشعورية تخص بشرًا لم يكونوا يريدون مغادرتها، لا من أجل توسعة ولا انصياعًا لاحتلال!

ويكفي أن نعود مع مشهد البناية المدمرة في النهاية إلى الشاشة السوداء التي بدأ بها الفيلم، والتاريخ المكتوب عليها 2023! وهو تاريخ سيظل محفورًا في ذاكرة جغرافيا المكان، فبمجرد أن نراه مكتوبًا، نستدعي مشاهد بنايات كاملة تفقد أرواحها الطيبة.

تجربة إبراهيم ملفتة وحساسة وتعكس محاولة جادة لصياغة مغامرة فيلمية ذات صوت مختلف.

اقرأ أيضا: أبرز المشاركات العربية في الدورة 75 من مهرجان برلين السينمائي

شارك هذا المنشور

أضف تعليق