بعد يوم حافل بالفعاليات الثقافية السينمائية، أنهى ملتقى النقد السينمائي لقاءه الثاني في مدينة الأحساء، ويستعد لشد الرحال إلى الرياض حيث تقام أنشطة “مؤتمر النقد السينمائي الدولي” في دورته الثانية خلال الفترة من 6 إلى 10 نوفمبر 2024، تحت رعاية هيئة الأفلام.
واستقبل قصر خزام التاريخي زوار الملتقى أمس الجمعة، 25 أكتوبر، ليستمتع الجمهور بالندوات والورش المقامة في واحد من أهم المعالم التراثية بالمملكة العربية السعودية، فقصر خزام شاهد على عديد من الأحداث التاريخية منذ بنائه في عهد إمام الدولة السعودية الأولى، الإمام سعود بن عبد العزيز الكبير، حوالي عام 1795م.
تهدف هيئة الأفلام إلى أن يكون يصبح الملتقى في جولاته بين المدن السعودية منصةً رائدة للتبادل الثقافي، وتحفيز الحركة النقدية والاستطلاعية في مجال السينما وإثراء المعرفة السينمائية لدى المُهتمين، وخلق فرصةً فريدةً لإعادة صياغة تجربة مشاهدة الفيلم لهم بتواجد عدد من النقاد ومراجعي الأفلام وصناعها، وتنظيم نقاشات ثرية معهم، تتيج لمحبي السينما التواصل المباشر معهم، والاستزادة من خبراتهم.
تضمنت فعاليات الملتقى في لقائه الثاني المقام بالأحساء مجموعة من الندوات الحوارية والعروض التقديمية، قدمها مجموعة من النقاد والمهتمين بمجال صناعة الأفلام، والتي ترصدها «فاصلة» لكم في هذا التقرير.
الثمانينات عصر النقد الذهبي
بدأت فعاليات اليوم بماستر كلاس «فتش عن الناقد: تجارب وشهادات عن ممارسات النقد والبحث عن الصوت الخاص» قدمه الناقد والباحث السينمائي ومدير مهرجان القاهرة السينمائي، عصام زكريا. وحاوره الكاتب والشاعر عدنان المناوس.
استعاد زكريا خلال الحوار ذكريات نشأته في حي السيدة زينب بالعاصمة المصرية القاهرة، وكيف أثرت البيئة المحيطة به في تعلقه بالأفلام خاصة أنه كان مُحاطًا بكثير من دور العرض السينمائية مما أتاح له فرصة مشاهدة العديد من الأفلام والاطلاع على تجارب سينمائية مختلف خاصة الأفلام المصرية والأمريكية والهندية. وأشار إلى أنه بجانب الأفلام كان لسور الكتب الشهير في ميدان السيدة زينب – أزيل حاليًا- أثرًا كبيرًا على صقل ثقافته.
وتطرق الناقد في حديثه إلى العصر الذهبي لمجلات الكوميكس العربية، وكيف أنها كانت واحدة من روافد الثقافة لجيله الذي نشأ عليها، حيث تعلم منها خلالها القراءة قبل أن يبدأ تعليمه الأساسي في المدرسة.
وعن بدايته في النقد السينمائي، قال عصام زكريا إن فترة الثمانينات هي أكثر الفترات ازدهارًا للسينما، وكانت تلك الفترة بوابته لاحتراف النقد وتعلمه على يد كبار النقاد المصريين، وأبرزهم رؤوف توفيق الذي وصفه بأنه صاحب الأثر الأكبر في حب النقد وتعلمه، بجانب تأثره بنقاد آخرين مثل كمال رمزي، وسمير فريد، وعلي أبو شادي.
وأكد زكريا على ضرورة إتقان الناقد لعلوم الموسيقى والأدب والمسرح، بل حتى العلوم الأخرى وخاصة العلوم الإنسانية، مما يُصقل ذائقته الفنية، وأدواته النقدية.
وعن مهرجان القاهرة السينمائي، قال مدير المهرجان إنه يعد أحد أهم المصادر الأساسية للوصول للسينما العالمية في الوطن العربي، لذلك كان خلال فترة عمله بالجيش عام 1986 يجمع النقود من أجل حضوره، وتمر السنوات ويصبح اليوم مديرًا لهذا المهرجان العريق والمهم. ويلفت عصام زكريا إلى أن حركة النقد السينمائي في العالم العربي تحاول النهوض الآن بعد فترة من التراجع، لكن هذه الحالة ليست طارئة أو جديدة، فقد تكررت مرارًا، كون الحركة النقدية لا تعمل بمعزل عن الحركة الثقافية ككل؛ فتشهد تراجعًا في فترات الانحسار الثقافي كما حدث في التسعينيات إلا أنها دائمًا تعود وتتجدد.
وخلال النقاش سأله أحد الحضور حول مراجعات الأفلام، فقال إن التقييم يعد «تحصيل حاصل» وأن الذي يبقى هو قراءة الفيلم وتحليله والذي يأتي من خلال ثقافة ولغة الناقد.
النقد المكتوب أم التلفزيوني؟
الفعالية الثانية كانت ندوة حوارية بعنوان «إشكالية الوسيط بين النقد المكتوب والنقد المصور، هل البقاء للأسرع؟»، وتحدث فيها الناقد والمنتج الأول بقناة الشرق للأخبار محمد عبد الجليل، والكاتبة والناقدة مايا الحاج، مدير القسم الثقافي في جريدة النهار، وأدارتها الكاتبة زهرة الفرج.
خلال الندوة ناقش عبد الجليل الأثر الاقتصادي ودوره في التفات النقاد إلى النقد المرئي، ويرى عبد الجليل أن النقد المكتوب هو الباقي كونه يقدم تحليلات معمقة عن الأعمال الفنية، وهو مساحة حرة لطرح مقارنات وأفكار وتحليلات مدروسة ودقيقة، على عكس التلفزيوني المقيد بمساحة زمنية محدودة.
وعن تأثير مواقع التواصل الاجتماعي على النقد والنقاد، قال إنها مهدت مساحة للنقاد للتعاطي مع الجمهور بشكل أقرب، وقياس ردود الأفعال والتفاعل معها، كما أن تلك التقنيات الحديثة أتاحت للنقاد تصوير فيديوهات لمراجعة الأفلام وتضمين مشاهد منها أثناء الحديث عن الأعمال ما يجعلها تجربة فريدة ومميزة.
تأثير تطور أشكال العرض الصحفي على النقاد
في الندوة نفسها، قالت الكاتبة الصحفية والناقدة مايا الحاج، إن التطور الذي طرأ على مجال الإعلام جعله يتجه بشكل متزايد إلى المحتوى المرئي، وطرح المحتوى بشكل متوازٍ في كل من الصحافة المكتوبة والمرئية. وأكدت أن ذلك كان ضروريًا مع تراجع دور الصحافة التقليدية، الذي وضعها وزملائها أمام خيارين إما مواكبة التحول أو التنحي وترك الساحة، فاختارت الاستمرار والانتقال إلى الكاميرا بجانب القلم.
وعن تجربتها في صناعة المحتوى المرئي، تراه الحاج خيارًا موفقًا. ولفتت أنه لا دخل لسحر الكاميرا بتقييمها للتجربة، لكن الأمر يتعلق بالتجربة نفسها التي تجدها مثيرة، لإيمانها بضرورة تواجد النقاد الحقيقيين على الساحة وعدم انسحابهم من المشهد الحالي، الأمر الذي فعله نقاد وصحفيين بالفعل لعدم قدرتهم على مواكبة الحراك الحديث في شكل المحتوى، ما أتاح فرصة لذوي الخبرة القليلة بأن يتواجدوا بشكل كبير، وهم لا يمتلكون نفس القيمة المعرفية والثقافية للناقد الحقيقي.
وردًا على سؤال: “أيهما أفضل الانسحاب أم المواكبة؟” قالت “قطعًا المواكبة، لأن المتابعين يستحقون أن يستمعوا إلى كلام مفيد وقيم وسط كل الضجيج الموجود في وسائل التواصل الاجتماعي”.
آفة الترند
وتطرق ضيوف الندوة إلى نقطة شديدة الأهمية وهي أثر “الترند” على النقد. قالت مايا إنه من الضروري البحث عمَّا وراء الترند، لا الانسياق خلفه. “خاصة أن له سلبياته وميزاته، ولا يجب أن يكون له سلطة تفوق سلطة الناقد”.
وتعليقًا على تلك النقطة أشار محمد عبد الجليل إلى دور “اللجان الإلكترونية” التي تلعب الدور الأبرز في خلق “الترند” وانتشاره، قائلًا “عكس ما يتوقعه الكثيرون، قد يكون الترند مصنوع من قِبل تلك اللجان، ولا علاقة للناس والمجتمع به، هم فقط ينساقون وراءه”.
نقطة أخيرة تحدث فيها الضيفان حول ضرورة التكامل بين الوسيط المكتوب والمرئي، واستمرار كليهما، كما حدث مع وسائط أخرى في الماضي كالتلفزيون والكتاب على سبيل المثال، لافتة إلى أنه نعم قد يكون هناك تأثيرًا أكبر لوسيط دون الآخر، لكن التكامل بين تلك الوسائط مطلوب.
التراث العربي منبع للخيال
وبجانب الحديث عن النقد، قدمت الشاعرة والمخرجة ورئيسة مركز سدرة للفنون ضياء يوسف، عرضًا تقديميًا بعنوان «السينما.. دفاعًا عن الخيال»، وتحدثت من خلاله على أهمية الخيال في صناعة السينما، وضرورة الالتفات إلى التراث كمصادر لتغذية الخيال.
وأكدت المخرجة أن صناع الأفلام العرب يجب أن يستفيدوا من المصادر التراثية وجعلها رافدًا مهمًا في الأعمال السينمائية. فـ “نحن أصحاب ماضٍ طويل مليء بالقصص والخيالات التي استغلها الغرب في أفلام ومسلسلات حققت نجاحات كبيرة”. وأبرزت أمثلة على استخدام الخيال في صنع ملاحم سينمائية ناجحة من حكايات قديمة ومتوارثة والبناء عليها، مثل سلسلة «قراصنة الكاريبي» ومسلسل الرسوم المتحركة «جزيرة الكنز» المأخوذة عن قصص حقيقية أضيفت إليها عناصر خيالية. وبجانب ذلك رحلات ابن بطوطة وجبل القاف الذي كان له حضورًا في مسلسل «صراع العروش»، والأنمي الشهير «هجوم العمالقة».
الموسيقى والسينما
وفي ركن النقاد تحدثت المؤلفة الموسيقية سعاد بشناق في ندوة بعنوان «الموسيقى والسينما، حين تصبح الصورة مسموعة» والتي أدارها الكاتب والمخرج عبد المحسن الضبعان.
قالت بشناق إن الموسيقى التصويرية “ليست مجرد مقطوعات يتم تضمينها في الأحداث للاستماع لها بلا هدف”، بل هي جزء أساسي من القصة، وتعمل على ملئ الفراغ عندما الصورة والحوار يكونان غير كافيين لتدعيم مشاعر معينة، مثلًا مشاعر الترقب لحدث ما سيواجه الأبطال، مشيرة إلى أن موسيقى الفيلم تعطيه هوية صوتية تظل عالقة في ذهن المشاهد.
إجابة على سؤال إذا ما كان هناك فارقًا بين صناعة موسيقى الأفلام والمسلسلات قالت إن المسلسلات تحتوي على عدد من المقطوعات الموسيقية أكثر من الأفلام السينمائية، ويتناسب ذلك مع زيادة زمن العرض. وعن موسيقى الأفلام الوثائقية قالت إنها تختلف باختلاف هدف كل فيلم.
شراء الأصوات النقدية
ختام اليوم كان بندوة حاور فيها الممثل والكاتب براء العالم، الناقد السينمائي المصري الشهير محمود مهدي، صاحب قناة «فيلم جامد» على اليوتيوب، الذي تحدث في ندوة «النقد السينمائي في عصر وسائل التواصل الاجتماعي» عن الضغط الذي يتعرض له بعض المراجعين خاصة المشهورين منهم على وسائل التواصل الاجتماعي من شركات الإنتاج، إذ تحاول استمالتهم لإنتاجاتها وحشد الآراء الإيجابية حول لتضمن إيرادات أعلى.
يقول مهدي إن تلك الممارسة منتشرة، وهناك نقاد “يضعفون أمام إغراءات شركات الإنتاج”، ونفى أن يكون واحدًا منهم. قائلًا “أخذت عهدًا على نفسي أن ألتزم بمبادئي وألا أخدع جمهوري، وألا أكتب مراجعة أو أروج لأي فيلم قبل عرضه في دور السينما أو على منصات المشاهدة الرقمية”. لكنه يتلقى أجرًا مقابل استضافته صناع العمل ومحاورتهم، وذلك ترويج مشروع.
وشدد مراجع الأفلام الشهير على أن الجمهور «ذكي»، ويستطيع تقييم مصداقية الناقد، لذلك فهو أيضًا يحاول الابتعاد عن الشبهات بعدم تكوين صداقات داخل الوسط الفني، مما يؤثر بالسلب على رأيه الشخصي في الأعمال بحكم الصداقة، وكذلك فإذا شاهده له جمهوره صورة مع أحد النجوم كيف سيصدق مدحه لدور هو بطله؟ لافتًا إلى أن تلك المنطقة مليئة بالألغام لذا قرر الابتعاد عنها تمامًا.
وفي ختام حديثه، تطرق إلى التطور الذي تشهده السينما السعودية والذي وصفه بأنه «تطور صحي كبير»، مشيدًا بالفعاليات الفنية المختلفة التي تقيمها المملكة وكثافة الحضور فيها، مما يُثري الذائقة الفنية للمشاهدين وصناع الأعمال الفنية، من خلال الحوار وتبادل الأفكار ومن ثم تقديم مشاريع أفضل في المستقبل.