فاصلة

مقالات

وحيد حامد يتذكر (2): النجاح الكبير والتعلم من الأخطاء

Reading Time: 7 minutes

حاولت وضع قائمة مبدئية بأبرز المواقف التي جمعتني بالكاتب الأسطوري وحيد حامد بغرض استخدامها في كتابة مقدمات حلقات هذه السلسلة من الحوارات، وإذ بي أكتشف أن الغالبية العظمي من المواقف التي تحملها ذاكرتي لا تصلح للنشر. إما لأنها تندرج تحت تصنيف أسرار المجالس التي لا يجوز كشفها، أو لأن بعضها لاذع أكثر مما ينبغي، أو لأنها – وهي الغالبية العظمى – حكايات معقدة، تحتاج إفراد مساحة كبيرة لسرد السياق والخلفيات التاريخية واللحظة الراهنة وقت حدوثها، والتي تجعل من مجرد تعليق بسيط أو تشبيه يُطلقه الأستاذ، قولًا مأثورًا يختصر الكثير، ويعبر بطلاقة وخفة ظل عن أعقد المعاني وأعمق التحليلات.

ربما يكشف هذا المأزق عن خصوصية وحيد حامد كمبدع ومثقف نادر الوجود في حياتنا العامة، يُمارس الفكر كفعل يومي متفاعل مع ما يمر به الناس، لا الفكر الذي يتعالى على الواقع اليومي ليصبح مجرد أفكار مثالية ينسجها الكاتب من معتزل آمن. صحيح أن ثقافته الموسوعية انطلقت من الاطلاع الدائم لعقود على كل أشكال الإبداع والإنتاج الفكري، لكنها تشكلت بالأساس من خلال التجربة. تجربة ابن القرية الذي نزح للقاهرة وانخرط في عالمها المليء بالمتناقضات، ففهمه وهضمه وأدرك أسراره، وصار قادرًا على التعبير الحاذق عنه بكلمات واضحة، ساخرة أحيانًا ومؤثرة دائمًا، فيمّا يفرد البعض صفحات وصفحات لوصف ذات المعنى فلا يمكنه إيضاحه. أليس هذا بالضبط تعريف البلاغة؟

هنا تظهر قيمة التجربة في مسيرة وحيد حامد، في كونه ابن الشارع لا الحجرات المغلقة. رجل شكلته تجارب الحياة فجعلته يزداد حكمة كل يوم عن سابقه. الأمر الذي يظهر جليًا في حديثه عن فيلمه السينمائي الثاني «فتوات بولاق»، والذي كان تعاونه الثاني والأخير مع المخرج يحيى العلمي الذي أخرج فيلمه الأول «طائر الليل الحزين». الفيلم الذي حقق نجاحًا تجاريًا كرّس جماهيرية مؤلفه التي استمرت حتى آخر أيامه، لكن كاتبه يراه تجربة مُحبِطة تعلم منها ما أفاده طيلة مسيرته المهنية.

فيلم فتوات بولاق 

فتوات بولاق (1981)

مصدر هذا الفيلم كان قصة قصيرة جدًا لا تتجاوز صفحة واحدة من مجموعة «حكايات حارتنا» لنجيب محفوظ، حولتها لسيناريو بعنوان «شيطان الحب الأزرق»، ليغير المنتج جمال التابعي الاسم إلى «فتوات بولاق»، والذي أراه عنوانًا لا يناسب الفيلم إطلاقًا، ولكنه كان مناسبًا لمرحلة صناعة الفيلم، والطريقة التي كانت تُستخدم لجذب الجمهور للفيلم من خلال عنوانه.

قرأت في أكثر من مصدر أنك لا تحب هذا الفيلم بسبب ابتعاده الكبير عن السيناريو الذي كتبته، هل هذا صحيح؟ وما السبب؟

 هذه حقيقة، لكن لا تنس أنني وقتها كنت كاتبًا مبتدئًا لا يعرف كيف تدار الأمور. أنا لا أحب الفيلم، ولكن أدرك كونه تجربة مهمة في مشواري، فالشخصية لا تصلب عودها إلا من خلال التجارب. هذا بالإضافة لأن الفيلم حقق وقتها نجاحًا جماهيريًا ساحقًا، حتى قيل إن المرحوم جمال التابعي كان «يجمع الفلوس في زكائب» من كثرة الأرباح، وهذا ما دفع البعض لأن يقولوا لي أن «فتوات بولاق» هو العمل الذي أثبت وجودي ككاتب سيناريو ناجح، لكن في داخلي لم أكن راضيًا عن الفيلم.

السبب الأول لعدم الرضا هو إضافة عدة مشاهد لمعارك فتوات لم تكن موجودة في السيناريو، الفيلم تحول لضرب مستمر لأن الجمهور وقتها كان يحب هذه النوعية من الأفلام، بينما كنت أنا معجبًا في الأصل بالخط الإنساني في القصة، والذي كان أساس السيناريو الذي كتبته. السبب الثاني هو عدم الاهتمام بمجهود المؤلف، مثلًا عندما يهرب البطل من الحارة جعلته يعمل في مصانع الطوب، ورسمت تفاصيل هذا العالم الجديد تمامًا في السينما، فوجدت وظيفته غير واضحة على الشاشة ولم يفهم أحد ما الذي يقوم به من الأساس.

لذلك فقد كنت أكثر الناس حزنًا من مستوى المنتج النهائي، فقد كتبت حكاية أراها ببساطة «جريمة حب»، فوجدتها تتحول لحرب فتوات. كنت وقتها عاجزًا تمامًا عن التصرف، عودي أخضر ولا أملك ما أفعله حيال تشويه كتابتي، هذا بالإضافة إلى خوفي الكبير من الأستاذ نجيب محفوظ، فهو أستاذي وأقابله بشكل مستمر، وكنت أخشى أن يوجه لي اللوم عما حدث بقصته، لكن لحسن الحظ أن الأستاذ نجيب كان أصلًا كاتب سيناريو، يتفهم طبيعة عملية الإنتاج، لذلك فعندما كان أحد المحيطين به ينقل له رأيًا سيئًا عن الفيلم، كان يرد بأنه مسؤول فقط عن القصة، أما الموجود على الشاشة فهو مسؤولية المؤلف سواء نجح أو فشل فيه.

فتوات بولاق
مشهد من فيلم فتوات بولاق

 قرأت في كتاب عمرو خفاجي عنك ما ترتب على هذه التجربة، وقرارك بألا تتعاقد بعدها على عمل إلا بعد كتابة السيناريو كاملًا والاتفاق على اسم المنتج والمخرج، وغيرها من الشروط المنصفة للمؤلف التي أصبحت لاحقًا سمة يعرفها الجميع عنك.

 هذا صحيح، من يومها وضعت شروطًا أطبقها عند العمل، وبالطبع تطورت هذه الشروط مع زيادة خبرتي.

 ما يشغلني تحديدًا في «فتوات بولاق» هو المحرك الرئيسي الذي جعلك تقدم على تحويل هذه القصة لسيناريو فيلم، فالقصة تحمل قدرًا ضخمًا من العبثية، وعندما أفكر فيها أجد أن الشخصيات الثلاثة الرئيسية الذين لعبها نور الشريف وبوسي وسعيد صالح، لم يرتكب أيهم جرمًا يوازي النهاية المخيفة التي ينالها كلٌ منهم، فهي جريمة حب كما ذكرت، لكنها انتهت بمقتل البطلة وإعدام أحد البطلين ظلمًا وجنون البطل الآخر. لماذا كانت هذه النهاية القاسية؟

 يقولون دائمًا أن معظم النار من مستصغر الشرر، شرارة قد تصنع حريقًا ضخمًا، وشجار بين طفلين في حارة قد يُطلق سلسال دم بين عائلتين. لا أذكر الوقائع بالضبط، لكن أذكر أن الحالة العبثية في القصة استهوتني جدًا، ربما لأني كنت مقتنعًا وقتها بأن الحياة نفسها فكرة عبثية، لذلك فقد لاقت القصة هوى في نفسي، وبالتحديد فكرة تحول الأفعال الصغيرة إلى نتائج مخيفة في حياة البشر.

مشهد من فيلم فتوات بولاق
مشهد من فيلم فتوات بولاق

في مقال الناقد سامي السلاموني عن الفيلم، روى أنك عندما شاهدت مستوى الفيلم أعطيته نسخة من السيناريو حتى يدرك الفارق بين ما كتبته وما عُرض على الشاشة. السلاموني اعترف في مقاله أن السيناريو مختلف عن الفيلم وأفضل منه كثيرًا، لكنه أكد في النهاية أنه – كناقد- لا يضع هذا الاختلاف في ميزانه، وأن دوره أن يقيِّم العمل النهائي المعروض على الشاشة. هل تذكر هذا الموقف؟

معه حق بالطبع فيما قاله، ومن هنا بدأ اهتمامي بالبحث عن حقوق المؤلف، فاتضح لي أن المؤلف له حقوق تعطيه السيادة الكاملة على العمل. فمثلا المادة 7 من قانون حق المؤلف 354 لسنة 1954، والذي أعده عملاق القانون عبد الرزاق السنهوري باشا بنفسه، تقول إن المؤلف هو صاحب الحق الوحيد في مصنفه الفني، ولا يجوز لأي شخص أو جهة أن يحدث به أي تعديل سواء بالحذف أو الإضافة، إلا بعد موافقة المؤلف، وهو الحق الذي قررت أن استخدمه مع أعمالي.

لكن هذا الاستخدام لا يكون عن جهالة أو تكبر، فمن حق المنتج والمخرج، بل ومن حق الممثل أن يكون له وجهة نظر، بل الحق في ألا يحب شيئًا كتبته ويرغب في تغييره، ولكن عليه إذا رغب في ذلك أن يتصل بي، نتحدث ونتناقش ونصل سويًا إلى حل يرضينا ويقنعنا معًا. من جهتي لا أتعامل بجمود مع أي شيء، ولدي دائمًا استعداد كامل للتغيير طالما اقتنعت به، وفي المقابل لا يقوم الطرف الآخر بإجراء تعديل من وراء ظهري، فطالما اتفقنا على شيء يتم تنفيذه كما اتفقنا عليه، ودائمًا أقول للمخرج ألا يبدأ التصوير إلا بعد أن نتفق تمامًا على النسخة النهائية، بحيث تكون هي ما سيتم تنفيذه بدقة، إلا إذا جد جديد وحدثت حالة طوارئ مثلًا.

مشهد من فيلم فتوات بولاق
مشهد من فيلم فتوات بولاق

 ماذا تعنيه بالجديد أو الطوارئ؟ ماذا يمكن أن يحدث مثلًا؟

 أذكر مثلًا أن فيلم «كل هذا الحب» كان يضم مشهدًا يقع في أحد شوارع الإسكندرية، وأثناء التصوير بدأت الأمطار في الهطول بصورة مستمرة، فاتصل بي المخرج الأستاذ حسين كمال يخبرني بالوضع ويستأذنني في أن ينقل المشهد لمكان داخلي، في كافتيريا مثلًا، حفاظًا على المعدات وطاقم العمل، فوافقت بالطبع تفهمًا للظرف.

 لا أجد ذلك مثالًا مقنعًا. هذا تعديل طفيف جدًا، لا يحتوي على تأثير في الدراما!

 في رأيي أي مشهد وأي تغيير مؤثر في الدراما، حتى لو لم يعتقد البعض هذا، فعندما تكتب تفكر دائمًا في الصورة وتتابعها، والمشهد الموجود في الشارع في الأغلب سيكون ما قبله مشهد داخلي، والانتقال بالمشهد من مكان مغلق لمكان مفتوح يشكل فارقًا بصريًا، ويمنح الحكاية شعورًا لا يتحقق بالانتقال بين مشهدين داخليين. قد يكون غير مؤثر إذا فكرت فقط في محتوى الحوار أو ما يجري داخل المشهد من أحداث، لكن لو فكرت في الصورة العامة، وفي قيمة المشهد الواحد كوحدة بنائية ينسج الكاتب من تواليها الفيلم كاملًا، فهناك بالطبع تأثير درامي لتغيير مكان المشهد.

 لا أختلف مع ذلك بالطبع، خصوصًا وأن ما يقوله البشر في الشارع يختلف قطعًا عما يقولونه وراء الأبواب المغلقة.

 بالضبط. في فيلم «اللعب مع الكبار» لم أكن أنا المنتج في البداية، بعت قبلها السيناريو للمرحوم واصف فايز صاحب أفلام مصر العربية. وإذا به يطلب مني أن أغير مشهدًا يراه صعبًا ومكلفًا، هو مشهد الحوار بين حسن بهنسي بهلول (عادل إمام) والضابط معتصم (حسين فهمي) داخل الترام الذي يتحرك بهما في المدينة. اقترح المنتج وقتها أن يتم تغيير بحيث يقف البطلان على رصيف المحطة يقولان جمل الحوار، ثم يركبا الترام ليتحرك بهما، وبذلك يوفر ميزانية كبيرة كانت مطلوبة للتصوير داخل العربة خلال حركتها. 

في اعتقادي – المستمر حتى هذه اللحظة – أن مشهد الترام واحد من أجمل مشاهد الفيلم بكل تفاصيله، ولم أكن مستعدًا للاستغناء عنه، فقررت أن أعتذر لواصف فايز وأنتج الفيلم بنفسي. وأذكر أن تصوير المشهد كان صعبًا جدًا، كنا في شهر رمضان، وكان علينا وضع كاميرتين داخل الترام، وأخرى على سيارة نقل تسير بجواره بنفس السرعة، لكن في النهاية النتيجة كانت تقديم المشهد كما أريده، لأن كلام البطلين عندما قيل داخل هذا السياق، وتفاعلهما خلاله مع ركاب الترام، يختلف تمامًا عما إذا قالاه على رصيف المحطة. السيناريو هو فن الحكي بالصورة، والصورة هي الأساس عندي ولا يمكن أن أغفلها على الإطلاق.

مشهد من فيلم فتوات بولاق
مشهد من فيلم فتوات بولاق

نعود لفيلم «فتوات بولاق»، وهو عمل المحرك الرئيسي لشخصياته هو الضعف الإنساني، فمحروس يريد أن يصبح فتوة لكنه ضعيف مغلوب على أمره، وبيومي ضعف أمام الفتاة التي يحبها صديقه، وهي بدورها – رغم حبها- ضعفت أمام ابتعاده وقررت مغازلة صديقه. هل تعتبر الضعف الإنساني محركًا للدراما؟

 طبعًا. هناك قاعدة رئيسية في الدراما تقول إن البطل يخرج لأمرين: إما بحثًا عن شيء، أو هربًا من شيء. هذا ملخص حياتنا كلها، إما أن نبحث أو نهرب، نهرب من ضعفنا، أو من ماضينا، أو من خطر يهددنا.

اقرأ أيضا: وحيد حامد يتذكر (1): الحكاية والفيلم الأول

 

شارك هذا المنشور