كثيرة هي الأفلام التي تدور عن محاولة تخطى موت الأحباب أو إعادتهم للحياة مرة أخرى، في ملحمة “بليد رانر” السينمائية مثلًا، تعود حبيبة البطل من الموت في جسد إلكتروني يحمل نفس ملامح وجهها، أما في فيلم “نهاية أخرى” للمخرج الإيطالي “بييرو ميسينا” والذي ينافس في مسابقة برليناله 74 الرسمية؛ تعود حبيبة البطل من الموت في جسد آخر بملامح أخرى، فما معنى العودة إذن؟
كيف تنجح بعض حكايات العودة من الموت ويفشل بعضها الآخر؟ وهل تكفي ذكرياتنا وأفكارنا لتعويض أجسادنا؟ والأهم في سياقنا السينمائي: هل يبقى هذا الفيلم على قيد الحياة بعد نهاية برليناله؟
إظلام أبدي
في الفيلم البديع “إشراقة أبدية للعقل الناصع” Eternal sunshine of the spotless mind من كتابة “تشارلي كوفمان” وإخراج “ميشيل جوندري” يتشاجر حبيبان وبعد الانفصال يقرر كلا منهما مسح ذكرياته المشتركة مع الآخر، يبقى الجسدان في الحياة وتموت الذكريات. ولكن هنا في “نهاية أخرى” Another end يقرر الإيطالي “بييرو ميسينا” قلب الحكاية، ففي عالم “نهاية أخرى” تحيا ذكريات البشر وتفنى أجسادهم.
في العالم المستقبلي الذي تدور فيه أحداث الفيلم، تُحفظ الذكريات بمعرفة شركة طبية. تموت الأجساد، لكن يمكن إعادة تحميل الذكريات الخاصة بها في عقول بشر آخرين. فحينما تموت ابنتك مثلًا بشكل مفاجئ؛ يمكن لهذه الشركة الاستعانة بفتاة أخرى لتقوم بدورها لفترة مؤقتة حتى يمكنك وداعها بشكل تدريجي، هذه الفتاة ومن يشبهها يسميهم الفيلم “وسطاء” mediums كالوسطاء الروحيين يتم تحميلهم بأفكار وذكريات بشر راحلين، ويعيشون تماما كما لو أنهم هم، ثم ينامون في كل ليلة ليفيقوا عائدين إلى حياتهم العادية ولا يتذكرون الحياة الأخرى التي تقمصوها.
تبدو الفكرة قريبة من أفلام خيال علمي عديدة، لكن الجديد أننا هنا “نستأجر” أجساد بشر وليس روبوتات أو كائنات تعمل بالذكاء الاصطناعي، والعودة “العقلية” من الموت مؤقتة، قبل أن يعود الإظلام الأبدي. الفكرة تبدو مثيرة للاهتمام، لكن المهم كما نعرف في عالم السينما ليس هو ما تخبرني به، ولكن كيف تخبرني به.
ضخامة بلا معنى
يقدم الفيلم عالمه بشكل تضخيمي، أزياء مستقبلية داخل الشركة الطبية وكأننا في أحد حلقات “ستار تريك”، شوارع أسفلتية واسعة وخاوية، كادرات بعيدة لبطل الحكاية وحيدًا ومنعزلًا، كادرات بعيدة للوسطاء وهم يفيقون بعد نهاية أوقات عملهم بشخصيات وهويات مختلفة، أبراج تناطح السحاب في كل مكان، لكن وسط هذه الضخامة، تغيب نقطة قوة الحكاية وهي التفاصيل الصغيرة الشخصية التي تربط الأحباء، وهو الفارق الأكبر بين هذا الفيلم وبين “إشراقة أبدية للعقل الناصع”.
بطل حكاياتنا “سال” يفقد حبيبته “زوي” في حادث، قبل أن تبدأ أحداث الفيلم. يلوم سال نفسه على الحادث، ولا يقدر على الحياة بدون حبيبته، ويفتقدها في كل يوم، لذا يجد في برنامج “نهاية أخرى” عزاءً وإن كان مؤقتًا، تدعمه أخته التي تعمل طبيبة في الشركة التي تدير البرنامج.
لا يخبرنا الفيلم الكثير عن تفاصيل علاقة سال وزوي، لا نرى من ذكرياتهما القديمة سوى شجار يُعاد إحياؤه مع بديلة زوي بناء على توصية الطبيب النفسي، لأن “الشجار هو الطريقة الأسرع للتواصل العاطفي”، يحتضنان بعضهما بعدها ثم يشاهدا فيلمًا على شاشة العرض المنزلي، وتعلو الموسيقى التصويرية فلا نسمعهما.
تبدو التفاصيل الصغيرة حاضرة أكثر في حكاية جارة سال، التي نعرف بالصدفة أنها تعيش مع بديلين بعد أن فقدت ابنتها وزوجها في حادثة مفاجئة، التفاصيل الصغيرة والحكي يربطنا بها ونتعاطف معها ربما أكثر من الحكاية الرئيسية في الفيلم.
فرصة مهدرة
يحاول الفيلم ابهارك بصريًّا بضخامته، مثلًا في مشهد في ملهى ليلي يرقص فيه عدد كبير من البشر ويعلوهم “حوت أزرق” هولوجرامي، ندخل سريعًا لعالم بديلة زوي، لنرى نادٍ للرقص والتعري في أجواء تمتلئ بألوان النيون الزرقاء والخضراء والحمراء، ينتقل الفيلم من أجواء قاتمة إلى أجواء ملونة ينشغل بها عن بطليه.
الفرصة المهدرة الأكبر هي الثنائي التمثيلي الذي ربما يكون الأكثر انتظارًا في برلين 74، بين المكسيكي الشهير “جاييل جارثيا بيرنال” الذي يمكنه نقل مشاعر صادقة من دون صخب، فقط بعينيه وانفعالات وجهه غير المفتعلة، والنرويجية “ريناتي رينسيف” التي يحبها الجميع منذ بطولتها لفيلم “يواكيم ترير” الذي حمل اسم “أسوأ شخص في العالم”.
رينسيف ليست فقط واحدة من أجمل ممثلات جيلها في أوروبا؛ لكنها أيضًا واحدة من أكثرهن موهبة، ولها قدرة على التلون والتقمص، تظهر في الحكاية بأداءين مختلفين، أكثر رغبة في المشاكسة والحياة في مشاهدها كـزوي، وحينما تعود لحياتها الطبيعية الأخرى أكثر ميلانكولية، ومنعدمة الرغبة في كل شيء.
في النهاية يقدم الإيطالي “بييرو ميسينا” فيلمًا يمكن مشاهدته، فيلمًا يحاول أن يكون أمريكيا بضخامته واستجدائه لالتواء الحبكة plot twist، لكنه في الطريق لذلك يهدر فرصة لصنع فيلم أكثر شاعرية يمكنه أن يعيش أطول في ذاكرة مشاهديه.
اقرأ ايضا: «يموت»… برودة المشاعر تلتهم الحياة قبل أن يحين الموت