ببطء، وبخفة ينقلنا ونحن جالسين إلى حالة زمنية خاصة به. يحدنا بموسيقاه وعزلته، ويترك لشخصياته المساحة. يخلق عالماً مليئاً بالأصوات والأخبار والقصص والحكايات والرسائل والاتصالات والإيماءات، وبرصانة وعطف يخبرنا «الحدوتة».
لا يحتاج «ما بعد…» (2024)، للمخرجة الفلسطينية مها حاج، إلى صراخ لإظهار حقيقة مروعة. يدور فيلم حاج القصير -34 دقيقة- الذي عُرض في «مهرجان لوكارنو السينمائي»، حيث حصد جائزتا (Pardino d’Oro Swiss Life)، جائزة لجنة التحكيم لأفضل فيلم قصير، وجائزة لجنة التحكيم الشباب المستقلة، في «المستقبل… في مكان ما». الزوجان سليمان (محمد بكري) ولبنى (عرين عمري)، يعيشان في مزرعة منعزلة، مليئة بشجر الزيتون والدجاج.
حياتهما روتينية هادئة لكن يدحضها ألم وحزن ظاهران على وجهيهما وفي سواد ثيابهما الأزلي، وفي ترتيب ألوان بيتهما الدافئ. أثناء تناول الوجبات أو خلال جلسة شاي، يتحدثان عن أطفالهما الخمسة البعيدين عنهم. خيارات باسل وأمية وحمزة وطارق وخالد الحياتية والمهنية والزوجية والتعليمية هي مواضيع والديهما ونقاشاتهما وجدالهما. تمضي الأيام هكذا، حتى وصول الصحافي خليل (عامر حليحل)، صديق خالد من المدرسة، ومعه نكتشف حقيقة مروعة.
سينما مها حاج، مختلفة عن السينما العربية والفلسطينية بالتحديد. هناك فلسطين، تاريخها وماضيها وحاضرها وواقعها ونهبها ونفيها، لكن بطريقة غير مباشرة. لا تحب حاج السينما الفجة، تغلّف القضايا التي تقلقها بشيء من الفكاهة والسخرية والعبثية، بل إنها تجد أفكاراً سردية تحرك أفلامها نحو مناطق وموضوعات غير مستكشفة حتى الآن.
إنها السينما الاجتماعية السياسية الأكثر هدوءاً ويأساً، وفي ركودها تتضح الأزمات الفردية والاجتماعية. في فيلمها الطويل الأول «أمور شخصية» (2016) وفيلمها الثاني «حمى البحر المتوسط» (2022)، ابتعدت عن ظل الصراع العربي الإسرائيلي، لتسلط الضوء على قصص شخصية، والتحديات الداخلية التي يعيشها المجتمع الفلسطيني.
تكشف مها حاج تعقيدات الحياة الفلسطينية على خلفية الاحتلال، الذي لا نراه في افلامها لكنه موجود دائماً، وأيضاً من خلال قصص أشخاص عاديين يواجهون خيارات أخلاقية واجتماعية مؤلمة، من دون إغفال القضايا والظروف السياسية والتاريخية لبلادها. في «ما بعد…»، لا يزال كل ما سبق موجوداً، مضيفة إليه ذكريات الماضي، وتخيلات المستقبل وواقع الحاضر وسط صراخ الصمت.
تنطلق مها حاج في «ما بعد…» من مكان مألوف وواقع هادئ وبيئة ساكنة، إلى الحقائق الداخلية للفرد والطريقة التي يتطور بها العقل الباطني ويفسر ويشرح ويتعامل مع حوادث مفجعة. لذلك اختارت حاج التقشف بدلاً من البحث عن الحمل العاطفي الزائد. اختارت التعبير عن واقع الاحتلال من منظور انساني وفلسفي ونفسي. تجنّبت بمهارة الكليشيهات الحاضرة دوماً في هذه الحالة، وأحياناً لا بد منها في مواضيع السينما الفلسطينية.
المشاعر تملي الفيلم، والحركات الجسدية تبرع في رسم المشاعر. تهتم حاج بتقديم القصة بلغة عاطفية، وتدعونا لإقامة اتصال مباشر معها ومع شخصياتها وأحاسيسها وعالمها المادي. ننغمس في البيئة والأشخاص بفيلم ليس فيه حبكة معقدة، بل سرد ذات نبرة طبيعية. فيلم دقيق للغاية، حيث الحوار والكاميرا والشخصيات تلعب معنا في جميع الأوقات.
فيلم ماكر في إعطاء الإشارات وإلقاء القرائن على المشاهد، فيما يرفض الإدلاء ببيانات قاطعة. ولو كانت القصة واضحة في مكان ما، أو أنّه يمكن التنبؤ بالنهاية، إلا أنّ ذلك ليس مهماً، فالأهم هو الطريقة التي وصلنا بها إلى هذه النهاية، وتعامل الشخصيات معها، وقرار المخرجة في إلقاء بعض الدلائل هنا وهناك.
«ما بعد…» فيلم يلمس الروح، بلسم للفراغ والشعور بالوحدة. مراوغ ومبهر في التصميم الفني والأسلوب المرئي، كل شيء فيه منمّق، حتى الحزن، بل حتى شجرة الزيتون، التي تبدو إنها زرعت نفسها بنفسها من أجل الفيلم. وكل شيء التقطته كاميرا مهووسة بالإيماءات والتفاصيل اليومية لإضفاء معنى أكبر للحوارات.
يبحث عنوان الفيلم عن التفكير في الأداء الزمني ومنطق السرد، تدور أحداثه في وقت زمني مستمر، حيث يندمج الماضي والحاضر والمستقبل. «ما بعد…» هنا تعني أموراً كثيرة ربما حدثت، تحدث الآن أو ستحدث في المستقبل.
تستمر حاج في استكشاف الوجود بطريقة مرحة لكن جدية، فيتحول شيئاً فشيئاً إلى شيء أكثر عمقاً وأكثر قتامة واقل مرحاً. ويهيمن الطابع المؤلم على القصص. ويهيمن الارتباك اللفظي التي تعانيه جميع الشخصيات في مرحلة ما، خصوصاً في نهاية الفيلم عندما يبدأ الوقت التقليدي بالاندماج في كل ما حدث ويحدث وسوف يحدث.
نظمت وخططت حاج فيلمها ببراعة، مع تنظيم مذهل للألوان، ونثر روح دعابتها المحبوبة الفريدة والبسيطة على طول الشريط. وصفت حاج المشاعر الصامتة شيئاً فشيئاً، مشاعر شقت طريقها في مشاهد الفيلم الذي يتلاشى فيه الحد الفاصل بين الحقيقة والخيال.
«ما بعد…»، سينما تتحرك مع الحقيقة الإنسانية التي تحتويها، مع قصص أولاد سليمان ولبنى التي تتحدث إلينا وتنظر في وجوهنا. وبسبب ما يحدث في غزة، يدعونا «ما بعد…» إلى لمّ الشمل، والبحث عن كل صورة ومشهد وفيلم وقصيدة ومقال ورواية، وعدم عزلها أبداً أو اعتبارها وثيقة للماضي.
«ما بعد…» سينما راقية، هو كل شيء عن التوازن بين الذاكرة والنسيان اللذين نتفاوض معهما عندما نصل إلى نهاية حياتنا. فيلم حاج هو ترياق للنسيان، وتأكيد على أنّ السينما هي فن البحث ومستودع للذاكرة والخيال. فيلم مرير ورصين، يعقد ويفكك العلاقة بين الأب والأم وأولادهما، كما يفكك العلاقة بين الطبيعة والإنسان، والأهم أنّه يفكك علاقة الفلسطيني بأرضه وما يحدث فيها اليوم.
«ما بعد…» بارد كالغابات، رطب، رقيق، يدخل بين الجلد واللحم بمشاهده الصامتة في معظم الوقت، بينما المشاعر تتدفّق من عيون شخصياته. تعمّق حاج الجراح ثم تضمدها بخفة داخلنا، تتركنا نبتسم ونضحك في بعض الأوقات، وفي ثانية نجد أنفسنا، نهمهم من ثقل ما رأيناه.
اقرأ أيضا: مها حاج: لا يمكنني أن أصنع فيلمًا دون أن يكون عن فلسطين