فاصلة

مراجعات

«منطقة الاهتمام».. جوناثان جليزر لا يُحاسب الهولوكوست فقط

Reading Time: 5 minutes

خلاف عائلي بين زوج وزوجة. الزوج أتته فرصة للترقي الوظيفي لكنها ترتبط بتركه عمله في المكان النائي الذي يعيشون فيه، بينما الزوجة لا تعجبها الخطوة ولا تريد ترك البلدة، بعدما تمكنت مع زوجها من تأثيث المنزل الذي طالما حلما به. منزل فاخر مليء بالحجرات والحدائق وبرك السباحة، يخدمه عدد من العمال مجانًا. الزوجة ترى حياة الأسرة مثالية لا ينبغي التفريط فيها، والزوج يجد في منصبه الجديد فرصة للصعود والنجاح، حتى لو كان الثمن ترك منزل العمر.

يبدو الموقف السابق ملائمًا تمامًا لفيلم دراما اجتماعية. لكن تفصيلة وحيدة تمنح الصراع أبعادًا مختلفة كليًا: أن الزوج هو مدير معسكر اعتقال أوشفيتز، المعتقل الكابوسي الذي شهد إحراق ملايين اليهود. أما بيت الأحلام فهو منزل القائد الملاصق لسور المعسكر، والذي يخدمه بعض المعتقلين في الأعمال اليدوية التي يرى النازيون أنفسهم أكبر من ممارستها.

تلخص تلك المفارقة المنطلق النظري الذي يتحرك منه “منطقة الاهتمام The Zone of Interest“، فيلم المخرج البريطاني جوناثان جليزر، الذي توّج في الصيف الماضي بالجائزة الكبرى (Grand Prix)، ثاني جوائز مهرجان كان من حيث الأهمية، والذي ترشح رسميًا لخمس جوائز أوسكار هي أحسن فيلم وأحسن فيلم أجنبي وأحسن إخراج وسيناريو مقتبس وصوت، وهو رقم ضخم قياسًا على كون الفيلم ناطقًا بالألمانية.

بالطبع لموضوع الفيلم تأثير على هذا الرواج، لكن ما يهمنا هو أن الفيلم جاء لينقل جليزر من خانة الفنان المغاير الذي يعمل في مساحة خاصة يُقدّرها عدد محدود من النقاد والمحبين المخلصين، مثلما حدث مع أفلامه السابقة وأبرزها “تحت الجلد” Under the Skin 2013، إلى أن يصير مخرجًا ذائع الصيت مُرشحًا لأكبر جوائز العالم. كان الانتقال في حاجة لفكرة ذكية تجذب الانتباه، ليصيغها جليزر ببصمته الفريدة فيقدم لنا عملًا مغايرًا، قادرًا على وضع نفوس البشر في محاكمة مروعة بأكثر الطرق هدوءً وبرودًا.

عن أثر العمل اليومي

ينطلق “منطقة الاهتمام” من نظرية مرعبة: بإمكان البشر التأقلم مع أكثر الأمور فظاعة، وإذا تحوّل حرق البشر أحياءً إلى فعل يومي، فمن الممكن أن يتم التعامل معه كحدث اعتيادي، يجري على هامش الحياة بينما يهتم الفرد بأمور يراها أكثر أهمية في يومه كتنسيق الأزهار في حديقته، أو اختيار الأثاث الملائم للمنزل.

بهدوء وروّية يراقب جوناثان جليزر حياة تلك الأسرة النازية، راصدًا سمتين رئيستين ندرك تدريجيًا تلازمهما مع حياتهم: الميكانيكية وتهميش الحواس. 

فالعمل -أي عمل- له طابع ميكانيكي يستلزم خطة وتقنية قادرة على تنفيذ المهمة، حتى أبشع فعل في التاريخ كان في حاجة لتخطيط ورسوم هندسية وآلية للعمل، وقائد يدير مشروعه ويحلم بالنجاح والترقي داخله. تبدو الكلمات مروّعة عندما توضع في سياق كارثي مثل الهولوكوست، لكنها كانت بالنسبة لبطل الفيلم ومن حوله وظيفتهم اليومية، التي يؤدونها بشكل آلي ومن دون كثير من التفكير.

الأمر لا يقتصر على الضابط النازي، بل يمتد لزوجته وأبنائه، والذين يتعمد الفيلم ألا يقدمهم بالصورة المعتادة للأسرة النازية، فلا الأطفال أعضاء في شبيبة هتلر، ولا الزوجة تكره اليهود وتحتقرهم. هم فقط أشخاص يعيشون حياتهم الاعتيادية، لا يفكرون في تفاصيلها، ويتوهمون -كما نتوهم جميعًا- أن حالهم سيدوم للأبد، مرتكنين إلى تهميش حواسهم، التي لم تعد تتعامل مع ما يصدر من حولهم من إشارات إلى التعذيب الذي يجري على بعد أمتار باعتبارها أكثر من صوت المحيط bruit sound، الذي يعلو حواس البشر من دون وعي به فلا تعد تلاحظه، تمامًا كما يفقد من يعيش جوار مطار بعد فترة قدرته على الانزعاج من أصوات الطائرات أو حتى ملاحظتها.

مساءلة المشاهدين كذلك

المرعب في فيلم جليزر إنه يأخذ مشاهديه في رحلة مماثلة: في البداية يمكننا بوضوح ملاحظة الأصوات في الخلفية، صراخ ملتاع وأوامر غاضبة وطلقات رصاص، تأتي من خارج الكادر متناقضة مع ما نشاهده من صور عائلية فتشعرنا بالغرابة والانزعاج. لكن مع مرور الدقائق وتتابع المشاهد، وانغماسنا تدريجيًا في حياة تلك الأسرة، يقل تدريجيًا أثر الأصوات في تلقينا للفيلم، تصبح مجرد اختيار إخراجي آخر أقدم عليه صانع الفيلم. 

يفاجئنا جليزر في نهاية الفصل الثاني بتتابع صامت، كاشف، لمجموعة من صور الورود الرائعة التي تزرعها الزوجة في لقطات كبيرة close-ups متتالية، مع تجريد الفيلم من كافة عناصره بخلاف اثنتين: صورة الوردة وصوت التعذيب المجاور لها. لحظة صادمة تفضح المُشاهد أمام نفسه، تذكره بشريط الصوت الذي تناساه، وتخبره أنه في خضم تقييمه لأفعال الشخصيات وعلاقتهم بعالمهم، قد قام بفعل مماثل لما يلومهم عليه.

لا نُشبه مشاهدة فيلم بالانتماء لأسرة نازية بطبيعة الحال، لكن “منطقة الاهتمام” يترك السؤال في عقولنا ويمضي: هل بإمكاننا حقًا التمييز بين الصواب والخطأ؟ ولو كان أيّ منّا قد ولد في سياق مماثل لتلك الأسرة، هل كان ليكتشف بشكل غريزي هول ما يحدث ويقف في وجه القواعد التي تحكم عالمه بالكامل؟ أم سيتعامل معه باعتباره العالم الوحيد المتاح؟ أصوات في الخلفية وتفاصيل عابرة يمكن تجاوزها في خضم التخطيط لأن تكون حياة الفرد والأسرة أفضل كل يوم؟

البرود هو أحد أهم أسرار لعبة جوناثان جليزر، فبالرغم من كون حكايته مشحونة بالمشاعر القابلة للانفجار – وكم رأينا من أفلام تعرض الشق الإنساني المروّع لما حدث في أوشفيتزّ– فإنه لا يسير أبدًا في طريق تلك المشاعر، بل يتعمد أن يقف تمامًا على الحياد، أو للدقة يقف في موقف الزوجة (التي تجسدها النجمة الألمانية ساندرا هولر نجمة 2023 بلا منازع)، على مسافة آمنة مما يحدث، يُضاف إليها في حالة جليزر عنصري التأمل والتحليل.

فيلم منطقة الاهتمام

بين جليزر وتارانتينو

خلال مشاهدة الفيلم لأول مرة في مهرجان كان، وردت لذهني مقارنة بعيدة بعض الشيء، بين أحداث “منطقة الاهتمام” وبين المشهد الافتتاحي الأيقوني لفيلم كوينتن تارانتينو “أوغاد ملعونون Inglorious Bastards”، الذي يقدم فيه الضابط النازي هانز لاندا (كريستوفر فالتز) تجسيدًا عمليًا لكيفية صيده لليهود عن طريق التفكير بطريقتهم، لا بطريقة الألمان، فينتهي المشهد بقتله الطفل اليهودي وسماحه لشقيقته شوشانا أن تهرب.

إذا فكرنا في القوة المحركة لهذا المشهد المذهل سنجدها مركزية الشخصية اليهودية. صحيح أن شوشانا وشقيقها لا ينطقان ولا نرى سوى أعينهما المرتعبة، لكن كل شيء في مشهد مدته أكثر من ربع ساعة يدور حولهما: ضابط نازي رفيع المستوى يطارد طفلان يهوديان هاربان، يأخذ وقته لتقديم أداء استعراضي يؤكد فيه إنه بذل من الجهد والتفكير ما يكفي ليس فقط للوصول إلى مكان اختبائهما، وإنما للإلمام بكيفية تفكير اليهود بشكل عام. يُمجد فيلم تارانتينو اليهود على طريقته، بوضعهم في مركز اهتمام شخصية بالغة الجاذبية مثل لاندا، فإذا بذل لاندا كل هذا الجهد العبقري ليطاردك في مراهقتك، فأنت بالتأكيد شخص مميز.

النقيض تمامًا يفعله جليزر في “منطقة الاهتمام”، بتجريد فيلمه من أي مركزية أيًا كانت، سواء من خلال اختيار أسرة مكوّنة من شخصيات عادية، مملة، لا تحمل أي جاذبية في شكل الشخصية أو بناءها، أو من خلال جعل نفس هذه الأسرة المملة لا تلاحظ وجود اليهود حولهم من الأساس. لا يعرض جليزر مشهد تعذيب واحد، فقط الأصوات، وحتى السُجناء الذين تستخدمهم الأسرة كخدم في منزلهم، يظهرون في لقطات بعيدة لا تمنحهم أي خصوصية إنسانية، أو حتى تُظهر ملامح وجوههم.

ينزع جوناثان جليزر عن المحارق جاذبيتها السينمائية، لا يُقدمها كدراما أسطورية اتخذت فيها شخصيات شيطانية قرارات بالغة الشر لتقتل شخصيات أخرى بالغة البراءة، وإنما يُقدمها على حقيقتها: مجرد تعبير سمحت به ظروف العصر عن تشوه نفوس البشر. مأساة البشر ليس أن لاندا قرر طواعية أن يطارد اليهود ويقتلهم حتى آخر شخص، وإنما تكمن المأساة الحقيقية في أن الضابط هوس – الذي لا نكاد نذكر اسمه- لا يراهم من الأساس، وجودهم في حياته لا يختلف عن وجود الأوراق الموضوعة على مكتبك، ستنتهي مما فيها ثم تمزقها وتلقيها في سلة المهملات، دون أن تُفكر في مشاعر الأوراق أو في أنك ترتكب بتمزيقها جريمة إبادة عرقية.

في “منطقة الاهتمام” يقدم لنا مخرج موهوب محاكمة صامتة، مؤثرة، مخيفة أحيانًا لنفوس البشر بشكل عام، استحق بها بالتأكيد نيل التقدير والاعتراف العالمي لأول مرة بعد سنوات من اقتصار شعبيته على المحبين المخلصين.

اقرأ أيضا: نوري جيلان يخنق المُشاهد ويعانقه «فوق الأعشاب الجافة»

شارك هذا المنشور