فاصلة

حوارات

محمود صباغ: نعيش مرحلة مثيرة عنوانها الأبرز الانفتاح على ذاتنا وعلى الغير

Reading Time: 6 minutes

تستقبل دور العرض السعودية أحدث أفلام المخرج محمود الصباغ، «آخر سهرة في طريق ر» والذي أثار منذ الإعلان عن طرحه جدلًا يتصل بجرأته، وكونه الفيلم الأول الذي يعرض في صالات السينما بالمملكة للمخرج الذي تحظى أعماله على تباعدها وقلتها بإشادة نقدية متجددة. 

 فاصلة التقت الصباغ للحديث عن فيلمه الجديد، وحاورته حول علاقته بالمنظومة الرقابية ومعادلة الجماهيرية مقابل النجاح النقدي وإمكانية الجمع بينهما.

محمود صباغ

 بدأ فيلمك الأول بطرح الوعي بالأوضاع الرقابية من خلال عبارة «أي تغبيش في هذا الفيلم هو فعل استباقي متعمد لمحاكاة خطاب الرقابة المحلي. يسعدنا أن نيسّر على الآخرين عملهم» هل تغيرت نظرتك للرقابة في فيلمك الحالي؟

لعلك سمعت بما حصل! دعني استغل هذه الفرصة للتوضيح. كانت هنالك تحديات رقابية فعلًا في الفيلم الثالث «آخر سهرة في طريق ر» لضرورات الحبكة وجرأة الموضوع.

 لكني أود أولًا أن أعبر عن امتناني وسعادتي باتساع أفق القائمين على رقابة المصنفات الفنيّة وانفتاحهم الملحوظ للحوار وتبادل وجهات النظر حتى الوصول لصيغ مرضية وتلبي المعايير العالمية.

هذا يؤكد أن الرقابة لدينا ليست جامدة؛ بل مرنة ومتطورة حسب متغيّرات عدّة. وجود هذا الحوار أمر يدعو للاطمئنان ويستحق الاشادة.

نحن في «الحوش برودكشنز» رواد في صناعة الفيلم الطويل في السعودية، وسعيدون بكوننا جزء من هذا الحوار ومن قصة التحوّل هذه.

لماذا قررت اتخاذ هذا المنحى الجريء في «آخر سهرة في طريق ر»؟ 

الرؤية التي التزم بها هي خلق سينما وطنية ذات مصداقية ورواج مستدام. سينما قادرة على جذب الجمهور بكل أطيافه وتنوعاته الفرعية في الداخل.. ناهيك عن فتح أسواق للفيلم السعودي في الخارج.

النموذج السعودي المعرفي الحالي مغرٍ وواعد على عدة مستويات، ونحن كسعوديين نعيش مرحلة مثيرة من تاريخنا المدني والحضاري عنوانها الأبرز الانفتاح على ذواتنا وعلى الغير. هذا من وجهة نظري يجب أن ينعكس على فضاء الفنون وموضوعات السينما وأساليب ولغة الطرح التي يمارسها ويقدمها الفنانون.

الجرأة هنا إذًا خيار فني وموضوعي بعيدًا عن الابتذال أو الإثارة الفجّة.

  من الجمهور الذي تستهدفه من خلال هذا الفيلم؟

كل من لا يزال مترددًا في حضور فيلم سعودي في صالات السينما أقول لهم: حيّاكم في فيلم آخر سهرة. 

وبالطبع، أولئك الذين كوّنوا علاقة ثقة مع الفيلم السعودي من تجارب سابقة وزميلة.

محمود صباغ

صرحت بعد عرض فيلمك الأول في مهرجان القاهرة «لا يعنيني الترشُّح للأوسكار.. ما يعنيني هو أن أقدم قصة مؤمن بها وتصل للناس […] جائزتي كانت أن يعرض الفيلم في السعودية». على الرغم من أن «آخر سهرة في طريق ر» ليس فيلمك الأول إلا أنه الأول الذي يُعرض في السعودية، فهل ما زلت عند رأيك.

لازلت عند رأيي لايعنيني الترشح للأوسكار ولا الجوائز الدولية. أما الترشح للمهرجانات الكبرى فهو مهم، لكن ليس لذاته، بل لما يؤديه من زخم إعلامي ونقدي يختصر حضور الصوت المحلي ويوسِّع قاعدة جمهور المشاهدين ويحسن شروط التوزيع.

 الأهم من كل ذلك عندي، أن نصنع حركة سينمائية محلية أصيلة وموجة وطنية، وحضور جماهيري سواء نخبوي أو شعبي، وأن نوفّق في خلق كثافة إنتاجية في سنوات قادمة قليلة نختصر بها الزمن الذي أضعناه.  

تدور أحدث أفلامك في حواري جدة وكذلك في «نجد».. لم اخترت هذه الأماكن وما صلتها بميلاد الفكرة لديك؟

في الحقيقة أردت أن أخوض تجربة مختلفة وأن أوثِق لعدة عوالم في هذا الفيلم. أولا دراما العوالم السفلية بمدينة جدة وعالم الليل والسهر، والتعبير عن صوت المهمشين وحياة الناس العاديين الذين يحرقون الليل ويوقدون تلك الليالي والأسمار.

ثم ثانيًا عالم التراث السمعي والغنائي العريق في الجزيرة العربية والسعودية، وهو محور مهم في الفيلم الذي يشكّل في أحد مستوياته تحية للذاكرة السمعية الوطنية.

وأخيرًا هذه نظرة على «السعودية الجديدة»، ومحاولة مجاراة التحولات السريعة والمثيرة التي نعيشها من دون مباشرة ولا تسطيح. كل تلك عوالم ولحظات تشكّل موضوع فيلم «آخر سهرة في طريق ر».

هناك قصص إنسانية مطروحة بشكل واضح أو مستتر في فيلم «آخر سهرة في طريق ر». فما هو الصوت الخاص الذي أردت التعبير عنه؟

خلف القصة المباشرة البسيطة، هذه قصة أفراد ذوي أرواح ضائعة، خطهم الزمني في الفيلم هو محاولة مداواة دواخلهم الجريحة من صدّمات حياتيه تسببت بجروح نفسية غائرة، أو إيذاء ممنهج طالهم أو يطالهم. 

 هذا الفيلم عن آثار الزمن، وعن الهوس، أو تلك الشعرة الدقيقة بينه وبين الطموح المشروع. وهو أيضًا عن مشاعر الرفض وكيفية التعامل معها.

  على الرغم من اختلاف مواضيع أفلامك الثلاثة لكن البطلة في كل الأفلام امرأة ولها دور رئيسي: فاطمة بنوي «بركة يقابل بركة»، شيماء الطيب «عمرة والعرس الثاني»، والآن مروة سالم…

فاطمة والشيماء ومروة، كلهن بدأن معي، هذا صحيح. وكلهن نساء موهوبات وينظر إليهن اليوم كممثلات صف أول، هذا أيضا صحيح. لكن دعني أنظر للأمر من زاوية موازية؛ إن هذا يؤكد شيء سعيت إليه بكل إيمان واجتهاد خلال مسيرتي القصيرة، وهو خلق سينما محليّة بعناصر أصلية وغير استهلاكية قادرة على البروز والصمود وعلى مقاومة الذوبان الاستهلاكي العابر. أرجو أن تكون قد لمّست ذلك كناقد ومتابع للحركة.

  في فيلمك الأول «بركة يقابل بركة»، ظهر بوستر «آيس كريم في جليم»، والآن يشارك خيري بشارة كضيف شرف في الفيلم، حدثنا عن علاقتك بالمخرج؟

من منا لا يحب خيري بشارة؟

 هذه علاقة يدخل فيها كثير من المنطق الروحي والأقدار الشعرية.

عليك أن تصدّق أني وخيري أصدقاء مقربين جدًا من بعضنا البعض؛ على تفاوت أعمارنا.

ينتمي خيري لجيل الواقعية المصرية الجديدة، إن لم يكن رائدها. وهي التي نقلت الواقعية الإيطالية إلى السينما العربية.

ولأسباب جغرافية، وقبل أن أشاهد دي سيكا وفيليني وروسليني وفيسكونتي؛ شاهدت خيري بشارة ومحمد خان وداود عبد السيد وعاطف الطيب. لغة أعمالهم لفتتني وتحدثت لي، لكن خيري تميّز عنهم جميعا بالفلسفة التفاؤلية في مرحلة لاحقة، وفي نزعاته الريادية وطموحاته التي ترقى للتمرد الفني، والتي لا تنضب في سعيها نحو تنويع وتعميق صناعة الفيلم العربي؛ تارة الفيلم التسجيلي، ثم الواقعي، ثم الجماهيري، ثم الغنائي، ثم إطلاق موجة سينما الشباب، ثم محاولة السينما الديجتال المستقلة… تعددت المسميات والمحاولات، لكن ظل الجوهر لدى خيري بشارة هو جذوته المتقدة نحو الابتكار والإيمان بالسينما كتيّار إنساني عريض وواقع معاش. تلك الجذوة أو الطاقة الهائلة، لا شك انها لم تكن ملهمة لي فحسب؛ لكنها توافقت أيضًا مع تركيبتي النفسية والذهنية.   

لنعود للفيلم واختيارات الممثلين.. كانت مميزة لكن دعني أسأل لم مروة سالم وعبدالله البراق؟ 

دعني أحكي لك قصة من كواليس التصوير: مروة سالم أثناء البروفات ونحن نعد جداول التصوير، طلبت مني ومن فريق الإنتاج ألا تصادف أيام تصويرها أيام إجازة نهاية الأسبوع كونها مرتبطة بموسم الأعراس بين جدة والرياض الذي تقرره تفاصيل دقيقة وصارمة مع المتعهدين؛ وهو العالم الذي قررت الصديقة مروة أن تخوضه بشجاعة وعصامية. لقد حصل ما طلبته فعلًا، إذ تحاشينا جدولة أي مشاهد لمروة في أيام ذهابها للرياض للعمل كمغنية أعراس حقيقية.

ماذا تعني هذه القصة؟

 أننا كنا نتعايش مع أحداث واقعية أثناء تحضيرنا للفيلم وخلال تصويرنا. بل إن مروة في لحظة من اللحظات قد جاءت إليّ وأسرّت إليّ دواخلها وأنها بدأت في الاضطراب حيث التداخل الكبير بين مروة وكولا!… حالة من الحلول والاستغراق الفني والإبداعي اللذيذ. الذي أزعم أنه انعكس على الصورة الأخيرة وعلى تقمّصها للشخصية.

أما عبدالله البراق، فلأنه خامة تمثيلية أعلى من المتوّسط المتوفر.. ممثل جاءنا من تجربة قصيرة بالمسرح الموازي، وهو شغوف ومثقف. والأهم من هذا كله هو يتبع مواصفات وتعليمات فيرنر هيرزوغ في أن تكون مخرجًا أو فنانًا يترتب عليك أن تعيش حياتك بكثافة. البراق شخص كثيف الحياة ومتعدد العوالم والقبعات. يبهرني مخزونه اللغوي والقصصي وحتى «النُكتي» كل مرة نتحدث فيها ونلتقي.

  سامي حنفي دائم الظهور في كل أعمالك وأنت تهدي آخر أفلامك له. حدثنا عن الراحل سامي

لقد انتزع الإهداء… وليته لم ينتزعه على الوجه الذي حصل.

 لقد حزنت على رحيله كثيرًا. رافقني سامي حنفي في جميع أعمالي السينمائية؛ وهي ثلاثة أفلام طويلة وفيلم قصير كان من بطولته. لقد كان الفسحة الكوميدية وسط المأساة.

هذه أول مرة ينافس فيلم لك في شباك التذاكر، وأول فيلم لك لا يعرض في المهرجانات

 الناقد الأمريكي المعروف والصديق جاي وايسبيرغ.. حينما شاهد نسخة من النسخ التحضيرية لفيلم «آخر سهرة في طريق ر». قال لي: هذا فيلم يشبه «أفتر آورز» After hours لسكورسيزي. ثم صمتنا. أرجو أنه يقصد المعنى العبقري من ذلك التشبيه، لا السلبي (ضحكة).

 هذا أول فيلم لك تصور بعض أجزائه خارج جدة.. هل من الممكن أفلامك القادمة يتم تصويرها في مناطقة مختلفة بعيدًا عن جدة؟

 نحن في الحوش لاب، الذي أطلقناه من سنة تقريبًا لتطوير المشاريع الطويلة، نطور حاليًا مجموعة أعمال تتنوع بيئاتها على طول وعرض الجغرافيا السعودية. هذا ما أستطيع أن أصرّح به في الوقت الحالي.

اقرأ أيضا: محمد القرعاوي: الطب النفسي سد ثغرات «مندوب الليل»

شارك هذا المنشور