في أجواء تذكر بكتابات التشيكي الأشهر فرانتز كافكا، تأتي العوالم الفيلمية للمخرج المصري محمد رشاد الذي جاء إلى مهرجان برلين السينمائي بفيلمه الروائي الطويل الأول “المستعمرة” ليقدم عرضه العالمي الأول.
عودة رشاد تأتي بعد سنوات قليلة من فيلمه الأول “النسور الصغيرة”، وهو وثائقي عُرض للمرة الأولى في مهرجان دبي السينمائي، والذي استند إلى خطوط سردية تتصل بالانتماء والهوية والعلاقات المعتقدة بين الآباء والأبناء. تلك الثيمات تتموضع لتمثل أحجار ارتكاز فيلمه الوثائقي الطويل “المستعمرة”، الذي يستدعي إلى الذهن فورًا قصة كافكا الطويلة “مستعمرة العقاب”.
في برلين التقت فاصلة المخرج محمد رشاد، وحاورناه حول فيلمه الأحدث وما واجهه من تحديات إنتاجية في ظل عمله على موضوعات لا يميل المنتجون عادة إلى دعمها.

ردًا على سؤال فاصلة حول رحلة كتابة الفيلم، قال رشادإنهيؤمن أن الأفلام لا تتكون دفعة واحدة، “ليس هناك فكرة تولد مكتملة منذ اللحظة الأولى، بل هي نتاج مراحل من التفكير والتطور”.
يواصل أنه كان منجذبًا دومًا إلى المساحات الصناعية،”لطالما كانت هذه الأماكن مغرية بصريًا بالنسبة لي، لكنني لم أكن أعرف كيف يمكنني استخدامها داخل قصة واضحة. في وقت لاحق، جاءتني فكرة غير مكتملة عن شاب يعمل في مصنع لكنه لا يشعر بأي انتماء له، لا يدري لماذا هو هناك، ولا يجد لنفسه موطئ قدم داخل هذا العالم. لم يكن لدي تصور كامل عن القصة أو مسارها، كانت مجرد شظايا من الأفكار، اللحظة الحاسمة جاءت حين سمعت عن قصة شاب فقد والده، الذي كان يعمل عامل بناء وسقط من مكان مرتفع، فقررت الشركة توظيف الابن بدلًا من الأب حتى لا تحدث مشاكل. لم يكن الحدث نفسه هو ما لفت انتباهي بقدر ما كانت نظرة الشاب، هذه النظرة التي تعكس كيف يجد نفسه يبني مستقبله على موت أبيه”.
يواصل رشاد: “لكن الأهم من ذلك هو التجربة والتطوير المستمر، السيناريو لا يُكتب في جلسة واحدة، بل يحتاج إلى إعادة صياغة وتجارب مستمرة، وهذه نقطة أراها غائبة كثيرًا في العالم العربي، حيث لا يتم منح الوقت الكافي لتطوير النصوص”.

لماذا كان هذا هو الشعور الذي راودك ولماذا ألحت عليك هذه الفكرة تحديدًا؟
– هناك جانب شخصي للغاية، فالعلاقة بين الآباء والابناء طالما شغلتني، ودائمًا لدي تساؤلات حولها: متى يكون الابن راضيًا عن أبيه؟ ومتى يكون الأب راضيًا عن ابنه؟ هل يمكن أن يحدث تصالح بين الطرفين، أم أن هناك إرثًا نحمله عن آبائنا دون أن نجد منه فكاكًا؟
أحيانًا نجد أنفسنا نعيد إنتاج حياة آبائنا حتى وإن كنا نرفض ذلك، نرث منهم ليس فقط الأشياء المادية، ولكن أيضًا القيم، الأخلاق، وحتى المسارات الحياتية نفسها. كل هذا كان دافعًا قويًا لي لأبدأ في بناء القصة من هذه النقطة.
هل ترى أن الفيلم امتداد لفيلمك السابق “النسور الصغيرة”؟
– لم أر ذلك في البداية، لكن مع الوقت واستمرار العمل على السيناريو والتفكير في الشخصيات، بدأت أدرك أنني أواصل طرح الأسئلة ذاتها التي شغلتني في “النسور الصغيرة”. هناك شيء جوهري يربط العملين معًا، وهو العلاقة بين الأب والابن، حتى لو كان السياق مختلفًا تمامًا. لفت انتباهي أيضًا أن هناك أشخاصًا أشاروا إلى هذا الارتباط بعد مشاهدة الفيلم، وهذا جعلني أدرك أنني، دون وعي، كنت أواصل البحث في نفس المنطقة.

كيف تطورت الخطة البصرية للفيلم، وهل كانت هناك أعمال بصرية أخرى أثرت في تلك الخطة؟
– بالتأكيد المشاهدات السينمائية لها دور كبير جدًا في تشكيل أي مخرج، لكن هذا وحده لا يكفي. أنا شخص يعشق مشاهدة الأفلام، أحب السينما منذ أن كنت طفلًا في الخامسة من عمري ومثل كثيرين من جيلي تربيت أمام التلفزيون. هذه المشاهدات المتنوعة شكّلت ذائقتي وأثرت في طريقة رؤيتي للأفلام. لكن في النهاية، الأفلام تتحدث عن الناس، وعن تجارب إنسانية، ولذلك لا بد من المشاهدات الحياتية، أن يكون لديك وعي حقيقي بالناس الذين تحكي عنهم، وأن تستمع إليهم وتفهمهم. الفيلم في النهاية ليس مجرد حكاية تُروى، بل هو انعكاس للحياة نفسها، وبالتالي لا بد أن تكون لديك معرفة حقيقية بالعالم من حولك.
يدشن كل مخرج لنفسه صورة معنية من خلال أعماله، هذه الصورة تأخذها جهات الإنتاج الفني في اعتبارها عند عرض أعمال على المخرج كالإعلانات والأفلام التجارية، فهل ممكن أن تحد افلامك من فرصك؟
– لا، لا أعتقد أن هناك ما يقيد المخرج، الأمر كله يتعلق بالاختيارات. هناك من ينتقل بين السينما المستقلة والتجارية، وهناك من يقرر البقاء في مساحة معينة. ربما لو سعيت لدخول مجال الإعلانات سأجد فرصة، وربما لو قدمت أفلامًا تجارية سأجد مكانًا فيها. هناك أمثلة على ذلك، مثل آيتن أمين التي أخرجت فيلم “سعاد”، وهو فيلم فني جدًا، ثم أخرجت فيلمًا تجاريًا للسوق. لا أرى مشكلة في أن يتحرك المخرج بين الاثنين، لكن الأمر في النهاية يعود إلى الخيارات الشخصية وما يسعى إليه كل فرد.
كيف تحافظ على الصدق الفني بعيدًا عن قيود التمويل وشروطه؟
– سؤال مهم جدًا، وأنا أطرحه على نفسي دائمًا. هناك دائمًا مخاوف من أن يُصنع الفيلم لأسباب خارجية، سواء كانت أجندة سياسية أو سوق مهرجانات، لكنني أسأل نفسي: هل هذا الموضوع يعني لي شيئًا؟ إذا لم أشعر بأنه يخصني، لن أستطيع العمل عليه. من الممكن أن أجد موضوعًا يبدو كأنه يتماشى مع توجهات معينة، لكن طالما أنه يعنيني على مستوى شخصي، فأنا مستعد لصناعته، لأنني لن أتمكن من تقديم شيء لا أشعر به.

لماذا اخترت الاعتماد على وجوه جديدة كليًا؟
– الأمر كان ضرورة وخيارًا في آنٍ واحد. كنت بحاجة لأن يظهر حسام (البطل) شخصًا مجهولًا للجمهور حتى يتعاملوا معه من دون تصورات مسبقة. كما أن الفيلم يضم طفلًا عمره 12 سنة، ولم يكن منطقيًا أن أبحث عن ممثل مشهور لهذا الدور، لذا كان لا بد من البحث عن وجوه جديدة للحفاظ على التوازن البصري والسردي. لكن هذا لا يعني أنني أرفض العمل مع نجوم، كل مشروع له متطلباته الخاصة، وفي هذه الحالة كان من الأفضل أن يكون كل شيء جديدًا.
الفيلم يحمل شعورًا دائمًا بالخطر والترقب، هل كان ذلك مقصودًا؟
– نعم، وأعتقد أن هذا يعكس شخصيتي إلى حد كبير. أنا شخص مهووس بالتفكير فيما قد يحدث، دائمًا لدي إحساس بأن هناك خطرًا وشيكًا، وهذا انعكس على إيقاع الفيلم وطريقة بنائه. ربما هذا الشعور القلق هو جزء من رؤيتي للحياة، وبالتالي تسرب بشكل طبيعي إلى العمل.
في الفيلم يخرج المصنع عن كونه مجرد مكان ويصبح شخصًا فاعلًا، هل أثر هذا في اختيار الموقع؟
-فعلًا؛ المصنع لم يكن مجرد موقع تصوير، بل كان جزءًا أساسيًا من العلاقة بين الشخصيات. اخترنا المصنع بعد بحث طويل جدًا، وعندما وجدناه، شعرنا أنه هو المكان الصحيح. كان علينا التفكير في كل التفاصيل البصرية: كيف نستخدم الألوان؟ وكيف ندمج الشخصيات في هذا الفضاء؟ كيف نجعل المكان يبدو كأنه يتحكم في مصيرهم؟ كل هذه التفاصيل جعلت المصنع كيانًا حيًا داخل الفيلم، وليس مجرد خلفية للأحداث.

هل بدأت التحضير لفيلمك القادم؟
– لدي بعض الأفكار، لكن حاليًا أنا مرتبط بإنتاج فيلم لصديقتي نادين صليب، التي كانت مساعدة مخرج معي، من خلال شركة الإنتاج التي أعمل بها مع هالة لطفي.
أي مِن المخرجين تحب مشاهدة أعماله؟
– هذا سؤال صعب جدًا، لكن هناك أسماء كثيرة أحبها وأقدّرها، مثل أسامة فوزي، محمد خان، كمال الشيخ، بركات، يوسف شاهين، حسين كامل، وسعد عرفة، الذي أراه غير مقدر بما يكفي رغم تجاربه السينمائية المختلفة والمذهلة.
اقرأ أيضا: من برلين.. مخرج «آخر يوم»: أبحث عن تأثير الأحداث على البسطاء في كل مكان