يقدّم «ليمونوف» للمخرج الروسي كيريل سيريبرينيكوف المُنافس على «السعفة الذهبية» في الدورة الحالية من مهرجان كانّ السينمائي (14 – 25 أيار)، سرداً مثيراً لقصّة شخص؛ الكلمة الأفضل لوصفه هي «سرسري». هذا الشخص هو الأديب الروسي إدوارد ليمونوف، الذي أراده مخرج «ليتو» انعكاساً لتقلّبات النصف الثاني من القرن الماضي، وهو في الواقع خير مَن يمثّل الوجه القبيح لذلك القرن. هذا الثورجي الذي تتسرّب أفعاله من بين أصابعه، يناقض نفسه في كلّ خطوة. حيناً يوظّف عقله وحيناً يلجأ إلى إحساسه، وفي الحالتين يُخلّف الكوارث. الفيلم يلتقط هذا التناقض الكارثي من دون أخذ مسافة فعلية منه. لا إدانة أو احتفاء، بل مجرّد توثيق مبني على أرض رمادية. ساعتان لن تكفيا لنحبّ ليمونوف، ولكن لن نكرهه أيضاً. فمن منّا ليس متناقضاً ليلقي بحجرة على التناقض.
يأخذ سيريبرينيكوف سيرة ليمونوف إلى ذروة تجلياتها؛ ينظر في عمق تعقيداتها التي تشكّل ورشة عمل جادة لأي فنّان، من خلال سيرة غير تقليدية، تصطدم خاتمتها بنهاية التاريخ؛ وهي الفكرة التي تلقي بها على الطاولة مذيعة فرنسية خلال مقابلة معه. فليمونوف يجسّد فعلاً فكرة نهاية التاريخ، لا بحسب فوكوياما، بل بمعنى استهلاك كلّ التجارب، حدّ الخروج منها بمنطق الإنسان الانتهازي الذي يؤمن بكلّ شيء ولا يؤمن بشيء، حيث المصلحة هي العقيدة الأفضل. ليمونوف مرَّ بالكثير واختبر الكثير، لا هو منشق عن الشيوعية التي فرّ منها ولا موالٍ لها، بل أنهى حياته انعزالياً يؤمن بعظمة روسيا القياصرة. هذا القليل من سيرة شخص واهم اجتاز القرن العشرين ولم يعش ما يكفي لنعرف رأيه باجتياح بوتين لأوكرانيا. النقطة الأخيرة لا تحمل لؤماً، بل يمكن القول إنّ أسئلة الصحافيين الذين قابلوا سيريبرينيكوف دارت حولها.
«ليمونوف» أفلمة لرواية الفرنسي إيمانويل كارير، كاتب ومخرج عرف ليمونوف خلال إقامته في باريس ووجد فيه مادة دسمة. هذا الكتاب بيع منه مليونان ونصف مليون نسخة. لعلّه الأفضل للحديث عن هذا الرجل الغامض الذي بقي غامضاً إلى حدّ كبير حتى رحيله عام 2020 عن 77 عاماً. يقول: «ليمونوف ليس شخصية خيالية. أنا أعرفه. كان فاسقاً في أوكرانيا، ومعبوداً في العمل السرّي السوفياتي في عهد بريجنيف، وصعلوكاً ثم خادماً لملياردير في مانهاتن، وكاتباً عن شؤون الموضة في باريس، وجندياً تائهاً في حروب البلقان، والآن، زعيماً في بيت الدعارة الضخم في روسيا ما بعد الشيوعية. قد يرى نفسه بطلاً، لكن يمكن أن يُنظر إليه أيضاً على أنه نذل: حياته خطيرة وغامضة. أعتقد أنها حياة تحكي قصّة. ليس فقط عن ليمونوف وعن روسيا، بل عن تاريخنا جميعاً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية».
إذاً، لا نخطئ إذا اعتبرنا أنّ خطاب الفيلم، وهو غير مباشر في أي شكل من الأشكال، يتخطّى ليمونوف؛ وهذه حالة الأفلام الكبيرة حيث حضور الشيء فيها يستحضر أشياء أخرى وينبشها. اختيار المخرج هذا الرجل لسرد تجربته قد لا يكون بريئاً تماماً، فهو أيضاً مثل ليمونوف عانى اضطهاد النظام، بعدما ألصقت به السلطات الروسية تهمة اختلاس أموال حين كان مديراً لأحد مسارح موسكو، فاختار المنفى هرباً من السجن، وهو الآن يعيش في باريس. عرف سيريبرينيكوف كيف يجعل من قصّة ليمونوف صدى لأبشع ما في القرن الماضي وأسوأ ما في تجّار الإيديولوجيات، وأن يقول أيضاً من خلالها شيئاً من تجربته، لحُسن الحظ من دون أي إشارة صريحة. في كانّ، تسنّت لي مقابلته، فطرحتُ عليه هذا السؤال عن التشابه. كان ردّه أنّ ليمونوف هو نقيضه في كلّ ما يؤمن به: «أنا ليبرالي وهو كان إمبريالياً يؤمن بروسيا القيصرية».
«يمونوف» لم ينجزه سيريبرينيكوف ناطقاً بالروسية بل بالإنجليزية، وهذه نقطة ضعفه الوحيدة. فهو رغبه فيلماً لجمهور غير روسي. عندما تسأله عن السبب، يرد: «هذه رؤيتي الخاصة لليمونوف. لينجز الروس نسختهم عنه». عدا ذلك، نحن أمام فيلم كثير الانشغال بالكادرات والتكوين والمونتاج والإدارة الفنية، من دون ترْك ذلك الانطباع فينا. فيلم سريع الإيقاع، يمضي لاهثاً داخل متتاليات بصرية لا تخلو من إبهار ودهشة، ولا يلتقط أنفاسه سوى لثوانٍ، قبل أن يمضي بنا مجدّداً إلى أقاصي التجربة الليمونوفية. والتجربة هذه تعني كيف تكون من روسيا وتعيش بعيداً منها، بلا سقف عقائدي يؤويك، بعد حياة في كنف نظام أبوي قاتل يؤسّسك ويهدمك في الحين نفسه. هذا أحد أهم المواضيع الذي يتسلّل إلى الفيلم، بهدوء تام، إذ لا يريده سيريبرينيكوف في الواجهة، لكن لا قدرة له على إنكاره، فهو في الحمض النووي للفيلم.
الفصل الحيوي الذي يحدث في نيويورك ويشهد على تسكّعات بطلنا الذي سيعرف أخيراً حجمه في العالم، ذروة الروعة السينمائية. إنها النار التي سيُطبَخ عليها ليمونوف. من هنا سيخرج ليمونوف جديد، بعد اكتشافه أنه ليس النقطة التي يدور عليها العالم. ماذا يحدث إذا ألقيتَ رجلاً هشّاً يعتقد أنه روائي فاشل في نيويورك السبعينات، حيث الحرّية تمتحن قدرات الكاتب؟ خصوصاً إذا كان كلّ أدبه يتناسل من مشاهداته، لا من مخيّلته؟ إنها نيويورك الممكن، التي سيبغضها ليمونوف وستعيد تشيكله إلى الأبد.
بصرياً، يعيدنا الفيلم إلى تلك الحقبة، بإيقاع وتسلسل وخامة صورية لا مثيل لها، واضعاً إيانا في الأجواء والألوان التي غلبت على أفلام تلك الحقبة. الأمر أشبه بأن تجد فيلماً ضائعاً وتعيده إلى الحياة. بهذه الواقعية، يزجّنا الفيلم في السبعينات؛ مختبر الأفكار الجديدة والقطيعة مع العالم القديم والغليان الثقافي، دائماً مع شحنة من الغضب المجاني ضد العالم، هذا الذي لا يكاد يفارق وجه ليمونوف.
اقرأ أيضا: مخرجا «رفعت عيني للسما»: فيلمنا ينحاز للأحلام لكنه يلتزم الواقعية