فاصلة

مقالات

«لا بلد للعجائز»… هندسة صوت الرعب بلا موسيقى

Reading Time: 3 minutes

من النادر إيجاد صناع سينما لديهم نفس القائمة وفيرة التنوع كما لدى الأخوين كوين، يتنقل الأخوان بسلاسة من عوالم الكوميديا للجريمة للدراما، وفي كل هذه التنقلات ينجحان في إدخال حبهما للموسيقى والاستعراض بدون كسر النبرة العامة للفيلم، وبدون إشعار المشاهدين بأنهم أصبحوا يشاهدون فيلمًا آخر، فيلمي «ليبوسكي الكبير The Big Lebowski» و «يا أخي أين أنت Oh Brother Where Art Thou» مثالين على هذا النجاح. كما استطاع الأخوان تقديم أحد أفضل الأفلام الموسيقية في العقد الماضي في فيلم «Inside Llewyn دواخل لوين ديفيز Davis».

لكن لا أعتقد أن الأخوين كوين وصلا إلى قرار تنفيذي أهم وذي تبعات ناجحة، أكثر من قرار تفريغ تحفتهما «لا بلد للعجائز No Country for Old Men» من الموسيقى تمامًا. حيث كان لهذا الفراغ الموسيقي أثر إيجابي انعكس بشكل كامل في توضيح قيمة الصوت. صبغة سوداوية من الواقعية خيمت على كل زوايا الفيلم، وتوافقت مع الطبيعة الصحراوية القاحلة، والمدن الصغيرة ذات التعداد السكاني القليل. 

الفراغ الساحق الذي يحيط بالشخصيات يجعل درجة العنف التي احتواها الفيلم أكثر ضراوة وحدة. شخصية خافيير بارديم، القاتل “شيغور”، يستفرد بضحاياه مستغلًا الفراغ المحيط بها والهدوء المميت الذي يغرق أي صوت. هناك درجة حقيقية من الرعب ترافق شخصية شيغور ليس بسبب أداء بارديم أو كتابة الشخصية فحسب؛ بل يبدو الموت المرافق له واقعيًا ونهائيًا لا رجعة فيه، تشعر أن الشخصيات تموت وحيدة معزولة عن بقية الناس في هذا العالم بطريقة سريعة، لا تشعر أنك أمام فيلم سينمائي سردي، بل أمام تصوير حقيقي لجريمة قتل ترتكب أمامك.

من ناحية أخرى، انعدام الموسيقى تدريجيًا يدرب المشاهدين على ترقب العنف في أي وقت. في حين أن أفلام أخرى تبني لعنفها بشكل تدريجي وتحرص على إظهاره بأكثر الطرق سينمائية وشاعرية من خلال الموسيقى، يحرص الأخوان كوين على إبقاء درجة عالية من الترقب تسيطر على أجواء الفيلم. لذلك مشهد عادي مثل تحقيق الشرطة بمسرح جريمة ينغمر في مستوىً عالٍ من الشد النفسي لأن كل حواسنا متيقظة ونترقب عودة الشر المطلق في أية لحظة.

 من المهم ملاحظة أن غياب الموسيقى لا يعني غياب صوت البيئة المحيطة، لأن الفيلم ينقلك لقلب صحراء تكساس من خلال أصوات عناصر بيئية، مثل الرياح والحشرات والسيارات البعيدة. لذلك، حينما تكون إحدى الشخصيات عقبة في طريق شيغور، ندرك تمامًا مدى ضآلة فرص نجاتها، فلا يوجد على امتداد النظر سوى خواء يعد أنه لا يوجد أحد لمساعدتك.

شيغور بكل تفاصيله المرعبة ووحشيته المميتة، يتركب من عدة أصوات هو الآخر: صوت خطوات هادئ ومتزن، طريقة تنفس فريدة يمكن من خلالها التعرف على مزاجه، صوت أكله للمكسرات حينما كان منزعجًا من مالك محطة الوقود أو صوت جهاز قتل الماشية الذي يستخدمه. وفي استخدام هذا الجهاز إشارة واضحة لوحشيته، فهو لا يلقي بالًا للأرواح التي يحصدها في طريقه، خصوصًا أن أكثر من يقتلهم أو يهدف إلى قتلهم أبرياء تمامًا، ولا يعلمون عن حقيقة ما يواجهونه حتى لحظة موتهم أو تجنبها. إنهم يشبهون الماشية في براءتهم المطلقة وجهلهم التام.

في أحد أكثر مشاهد الفيلم شدة واحتدامًا، يواجه لويد بطل الفيلم شيغور. تشعر أن الفيلم كان يدربك ويجهزك لهذا المشهد منذ البداية، فكل العناصر التي تحدثت عنها تجتمع سويًا؛ الهدوء الذي يخيم على المشهد في البداية لا يعني إلا أن احتمال حدوث العاصفة يتزايد مع مرور كل ثانية، صوت الخطوات في الممر يزيد من سرعة ضربات قلب لويد لأنه لا يعلم، هل من في الممر شخص بريء أم أنه من كان يلاحقه طوال رحلته، يمسك بندقيته بإحكام ونسمع صوت إمساكه لهذه البندقية في حرص مستمر على إعطاء كل سلاح صوت خاص، وكأن الأسلحة شخصيات في هذا الفيلم. لا نسمع في هذا المشهد أي موسيقى أو حوارات، فقط أصوات طلقات نار تملأ الفراغ ونوعين من الخطوات؛ خطوات ممنهجة تمتلك هدفًا واضحًا وأعصابًا باردة، وخطوات فزعة تحاول النجاة بعد أن راهن صاحبها على نفسه للحصول على حياة بمستقبل أفضل.

إن فيلم «No Country for Old Men» هو إنجاز على مستويات عديدة، لكنه إنجازه الأبرز هو ما أحدثه على مستوى الهندسة الصوتية تحديدًا. فعلى الرغم من أنه تخلى عن الموسيقى التصويرية، أحد أعمدة السرد السينمائي، إلا أنه لم يفقد أي من العناصر التي ترافقها بل أصبح يغمرك فيها. 

إنه فيلم جريمة، وبسبب واقعيته لا يخلو من الرعب النفسي، حينما تكون أصوات طلقات الرصاص معدودة جدًا وتتسبب بسفك الدماء في كل مرة نسمعها، ونعرف كل سلاح من صوته، فإن هذه الطلقات فجأة تخرج من محيطها القصصي الخيالي وتخطو إلى عالمنا الحقيقي. لم نشاهد شخصية واحدة تواجه الموت في هذا الفيلم بدون أن تفقد كل رباطة الجأش التي قد تكون امتلكتها في يومٍ ما، ومن يلومهم؟ فصوت الرصاص يصم الأذن، وما يتبعه من ألم يبدو حارقًا، ويكمل الفيلم مسيرته بدون أي مبالاة لحمام الدم الذي شهدناه لتونا.

اقرأ أيضا: السينما الوثائقية… النبش في الذاكرة لإعادة بناء التاريخ

شارك هذا المنشور

أضف تعليق